لا يفصلنا عن موعد استفتاء تقرير مصير إقليم كردستان العراق في سبتمبر المقبل سوى أسابيع، وقد شهدنا طلبات محلية وإقليمية ودولية بتأجيل الاستفتاء الذي سيقرر فيه المواطن الكردي، هل يريد البقاء ضمن دولة العراق الاتحادية؟ أم يختار الاستقلال في دولة كردية؟
وقد كتب الكثير عن التحديات التي ستواجه الدولة الوليدة ومخاطر وتهديدات دول الجوار (ايران وتركيا) بابتلاعها او تهميشها، ناهيك عن مشاكل الإقليم واحتمالية تعرضه لانشقاق ما بين السليمانية التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وأربيل التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني.
والآن يجب على حكومة بغداد وحكومة أربيل النظر للامر بعين المسؤولية وتقرير المسار الذي تحبان أن تسيرا فيه، هل هو السيناريو اليوغوسلافي الدموي؟ أم السيناريو التشيكوسلوفاكي الذي بات يعرف بالطلاق السياسي المخملي؟ الكثير من الدول الاتحادية تعرضت لهزات سياسية أو اقتصادية، ما تسبب في تفكك بعضها، بينما حافظت دول اخرى على تماسكها، والامر بعيد عن التخوين والاتهامات المجانية، التي تطلق على عواهنها هنا أو هناك، هو بالاساس أمر تعايش، هل تريد هذه الاجزاء أن تعيش مع بعضها أم لا؟ وبما أن مسألة تقرير المصير باتت من المسائل المسلم بها حسب قوانين الامم المتحدة، والمنظمات الدولية، إذن نحن وصلنا الى وجوب النظر في الجانب الاجرائي من قرار فك ارتباط الاقليم بالمركز.
تحاول بعض الاصوات في العراق العربي، أن تصور الأمر على أنه تخلص من عبء كردستان والشراكة التي كلفت بغداد الكثير، وأضرت بها اكثر مما أفادتها، لان اربيل بحسب هذه الاراء لعبت على اوتار الخصومات السياسية لتحقيق مكاسب في بناء دولتها المستقبلية، بل الاكثر من ذلك أن هنالك العديد من الأصوات التي تتهم حكومة كردستان والطبقة السياسية الكردية بالعمالة، نتيجة اتهامات بالتطبيع مع اسرائيل، ويستدل من يطلق هذه الاتهامات على ذلك بصفقات البترول الكردستاني، الذي يصدر بصورة غير رسمية عبر وسطاء دوليين من تركيا ليصل بأسعار مخفضة لإسرائيل، لكن كل هذا ما زال محض اتهامات لم يتم التحقيق فيها بشكل قانوني، أو توجيه اتهامات للطبقة السياسية الكردية التي ما تزال شريكة في الحكومة الاتحادية.
من جانبها اسرائيل لعبت دورا اعلاميا واضحا يسوق لحملات التطبيع مع كردستان، ويصفها بالشريك القادم، كما صرح بذلك بنيامين نتنياهو عام 2015 مرحبا بدولة كردستان، التي كما وصفها بأنها ستنظم لتحالف الدول المعتدلة في الشرق الاوسط. جو الاتهامات والتخوين مع سطوة النزعة التوحيدية الإجبارية لن تجر العراق إلا باتجاه السيناريو اليوغوسلافي. فيوغوسلافيا والبلقان عموما تجمعهما الكثير من المشتركات مع المشرق العربي، فالموازئيك المتشكل من إثنيات وطوائف متشابه بين المنطقتين، كما أن البلقان والمشرق العربي خضعا لنفوذ الدولة العثمانية في فترات زمنية متقاربة في القرن السادس عشر، وتحررا من سيطرتها في فترات متقاربة، ونالت دول المنطقتين استقلالها بعد الحرب العالمية الاولى، منفصلة عن الامبراطوريات العثمانية والنمساوية – المجرية التي تفتت بعد الحرب العالمية الاولى، مكونة ممالكها الدستورية التي سعت لبناء هوية الدولة القومية /الامة على اسس تعريفات الليبرالية الغربية. خرجت يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا من الحرب العالمية الثانية بعد ان تحررتا من الاحتلال النازي بفضل الجيش السوفييتي، وبذلك اصبحتا جزءا من الكتلة الاشتراكية، رغم خصوصية يوغوسلافيا وخصوصية علاقتها بموسكو، إلا أنها بقيت محسوبة على الكتلة الاشتراكية في شرق اوروبا، حيث تكونت من اتحاد خمس جمهوريات هي (صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا والجبل الاسود) وخضع هذا الاتحاد لهيمنة ديكتاتورية كاريزما القائد الثوري الذي قاد حرب التحرير الرئيس جوزيف بروز تيتو (وهو من أصل كرواتي) الذي حكم الاتحاد من 1945 حتى وفاته عام 1980، لتبدأ المشاكل بعد وفاته مباشرة في الاتحاد اليوغوسلافي، وما أن سقط جدار برلين عام 1989 حتى كانت تداعيات الزلزال تهز المنظومة الاشتراكية السابقة، حيث أعلنت كل من كرواتيا وسلوفينيا وجمهورية مقدونيا استقلالها عام 1991. وبدأ بذلك السيناريو اليوغوسلافي القائم على التخوين، الذي سوق نظرية امكانية الصرب (القومية الاكبر في الاتحاد) استرجاع الجمهوريات المنفصلة وقمع الانفصاليين، لكن ذلك لم يحدث، بل ساء الامر اكثر، حيث انفصلت جمهورية البوسنة والهرسك عام 1993 ما تسبب في شن حرب من الصرب والكروات على البوسنيين، والتسبب بجرائم إبادة بحقهم، واخيرا كان انفصال واستقلال أقليم كوسفو ذي الغالبية المسلمة ذات الاصول الالبانية عن صربيا عام 1999 بعد ان اعلنت صربيا الحرب على كوسوفو، لكن حلف الناتو قمع تحركات الصرب وأطاح بنظام سلوبودان ميلوسوفيتش واحالته لمحكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية، فيما يتعلق بالحروب في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو. بالمقابل لم يسمع احد بمشكلة او توتر حدث بين التشيك والسلوفاك المكونين الرئيسين لجمهورية تشيكوسلوفاكيا السابقة، بل حتى لم يطرح الامر للاستفتاء الشعبي، حيث تم في 1 يناير 1993 تقسيم الجمهورية الاتحادية إلى دولتين، هما جمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا، وقد اشار الكاتب الياس توما في مقال له تناول الموضوع بالتحليل الى انه «على الرغم من التوتر الذي رافق المفاوضات الأولى التي تمت بين قيادات التشيك والسلوفاك في أعقاب الانتخابات البرلمانية التي جرت في تشيكيا وسلوفاكيا في يونيو 1992 بسبب الخلافات حول موضوع الترتيب السياسي الدستوري الجديد بين الجمهوريتين، إلا أن العقلانية سادت في النهاية ولذلك ادخل التشيك والسلوفاك في المفكرة السياسية الحديثة مصطلحًا جديدًا، هو الطلاق السياسي المخملي». ورغم أن التشيك هم القومية الاكبر وان سكان التشيك ضعف سكان سلوفاكيا، كما ان مساحة الدولتين تكاد تقترب من هذه النسبة، الا ان التشيك لم يلجأوا إلى القوة أو القمع أو إجبار الشركاء على العيش المشترك، ولم تكن عملية تقسيم الجمهورية الاتحادية سهلة، غير أنها جرت بدون تحكيم دولي، وتم فيها اعتماد مبدأ 2/1 بالنظر لكون عدد التشيك ضعف عدد سكان سلوفاكيا. وقد بدأت عملية التقسيم في عام 1993 ولم تنته فعليًا إلا في عام 2000 حين سلمت تشيكيا 4,5 طن من الذهب لسلوفاكيا، هي حصتها من الاحتياطي الفيدرالي كانت محتجزة لدى التشيك حتى تتم تسوية إشكاليات الأسهم والديون التي للتشيك على السلوفاك، كما أن أمر التقسيم لم يقتصرعلى الممتلكات وعلى 2800 معاهدة كانت تربط بين تشيكوسلوفاكيا والعالم الخارجي، وإنما شمل أيضا حدود الجمهوريتين، حيث تم إجراء 18 تعديلاً على الحدود المشتركة، الأمر الذي أدى إلى تقصيرها من 285 كم إلى 251 كم، كما تم تبادل أراضي من قبل الجانبين مساحتها 452 هكتارًا. ونحن اليوم ازاء استقلال جارتنا كردستان التي بات امر استقلالها امرا شبه مفروغ منه، ومن التعلم من السيناريوهين السابقين نستطيع ان نفهم حجم الخطر الكامن في الحلول العسكرية، التي يحاول أن يسوقها البعض تجاه مكون يريد ان ينفصل بحوالي خمس سكان العراق وتقريبا ما يمثل نسبة مقاربة من ذلك على مستوى المساحة، فاذا تسنى لحكماء بغداد واربيل ان يتفقوا على فك الارتباط فعليهم ان يدرسوا العشرات، وربما المئات من الملفات، وهذا بالتأكيد سيستغرق سنوات من العمل، وربما سيتم التركيز اولا على ترسيم الحدود بين الطرفين، وهذه هي النقطة الاخطر في الموضوع، التي يعتبرها البعض برميل البارود الذي قد يفجر المنطقة، حيث تكمن المشكلة فيما بات يعرف بالمناطق المتنازع عليها، وتمثل محافظة كركوك اهم نقطة في هذا الموضوع، حتى أن الدستور العراقي أفرد لها فقرة مستقلة هي المادة 140 التي تشير إلى تطبيع الوضع في هذه المحافظة القلقة، وطبعا الامر مرتبط بما تحويه كركوك من ثروات نفطية، فإذا اتسمت تسوية الامر بين المركز والاقليم على حسن النوايا والسعي باتجاه حسن الجوار، فإن الامر سيتم عبر استفتاء في المناطق المتنازع عليها وسيحل بأقل خسائر ممكنة، وقد تساعد الامم المتحدة والمنظمات الدولية، في إجراء هذا النوع من التطبيع، كما قد يتم كما هو الحال في السيناريو التشيكي، ما يعرف بتبادل الاراضي لحسم عدد من النزاعات على الأراضي، وإذا كانت روح التعاون والتفاهم هي السائدة بين طرفي الحوار، فإن العديد من الاتفاقات الاقتصادية ستسهل عملية التعاون التجاري وتسويق بترول كردستان، لكي نحميها من تسلط الدور التركي المتحكم حاليا ببترولها، وكذلك تجدر الإشارة الى تنظيم معاهدات واضحة بشأن المياه، حيث ان دولة كردستان ستتحكم بنهري دجلة والفرات قبل مرورهما الى جارهم العربي. ويبقى كل ذلك مرهونا بالنوايا التي سيدخل فيها الطرفان للتفاوض فأي سيناريو سيختارون؟
كاتب عراقي
صادق الطائي