كردستان العراق: كم من الآمال والآلام و… المآزق؟

حجم الخط
3

 

في إقليم كردستان العراق، ثمة هذه المفارقة الراهنة: بعض المواقع التابعة لحزب «الاتحاد الوطني الكردستاني» تنشر شريط فيديو قديماً، لحوار مع مسعود البارزاني، رئيس الإقليم وزعيم «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، يثبت أنه تلقى العون من صدّام حسين لاستعادة إربيل من الاتحاد الوطني، خلال الحرب الأخيرة بين الحزبين. في المقابل، وعلى سبيل الردّ، تنشر بعض المواقع التابعة للحزب الديمقراطي صور الخصوم من قادة الاتحاد الوطني، والأعلام الإيرانية ترفرف فوق رؤوسهم، في إشارة مبطنة إلى عمالتهم لطهران. هذه محض واجهة إعلامية، بالطبع، لصراع سياسي وحزبي وبرلماني، يحتدم منذ شهرين على الأقلّ، حول المخارج المقبولة من الطرفين الرئيسيين (ومن حلفائهما، في الأحزاب الصغيرة وممثلي الحصص الإثنية، داخل برلمان الإقليم) لمعالجة الفراغ الرئاسي الذي نجم عن انتهاء ولاية بارزاني، بحلول يوم 20 آب (أغسطس) الراهن.
خلاصة المأزق هي التالية: لا تسمح القوانين المعمول بها في الإقليم بإعادة انتخاب بارزاني لولاية ثالثة، بعد ولاية أولى سنة 2005 عن طريق الانتخاب داخل البرلمان؛ ثمّ ولاية ثانية، سنة 2009، عن طريق الانتخاب المباشر؛ والتمديد له لمدة سنتين، بعد تعذر التوافق بين الحزبين الرئيسيين على تنظيم استفتاء شعبي حول مشروع الدستور الجديد. من جانبه كان بارزاني قد أعلن، مراراً في الواقع، أنه لن يقبل برئاسة مدى الحياة، ولكنه يشترط التوافق على مبدأ انتخاب خلفه، وهل سيتم في البرلمان أم في صناديق الانتخاب الشعبي (وأمّا حزبه فإنّ سلوكه الإجمالي لا يخفي الرغبة في التمديد لزعيمه حتى انتخابات 2017). خصومه، على الضفة المقابلة، وفي الاتحاد الوطني خصوصاً، بالتحالف مع لائحة «التغيير» وبعض الإسلاميين، يستندون على قوانين مرعية تقضي بأن يتولى رئيس البرلمان، يوسف محمد، رئاسة الإقليم لمدة 60 يوماً، حتى يتمّ التوصل إلى حلّ (أي، من وجهة نظرهم: تعديل معظم صلاحيات الرئيس السيادية، وتحويل الرئاسة إلى منصب فخري على الطريقة العراقية الراهنة).
وجهة أخرى للمشكلة تتمثل في طبيعة التوازنات داخل برلمان الإقليم، لأن مقاعد الحزبين وحلفائهما شبه متقاربة، ولا تسمح لأيّ منهما بإحداث اختراق حاسم، سواء في تعديل الدستور أو انتخاب الرئيس: حسب انتخابات 2013، حصل الحزب الديمقراطي على 38 مقعداً، لكنه يضمن 14 مقعداً إضافياً، ضمن تحالفاته مع ما يُسمّى «حصص الكوتا»، الممنوحة للتركمان والمسيحيين والأرمن، فضلاً عن الشيوعيين؛ وأمّا الاتحاد الوطني فإنه، مع حليفه «لائحة التغيير»، يمتلك 42 مقعداً؛ الأمر الذي يُبقي ترجيح الكفة في عهدة ثلاثة أحزاب إسلامية، تمتلك 17 مقعداً. وليس من الواضح، حتى الساعة، إذا كانت هذه الفئة الثالثة ستتخذ موقف انحياز تاماً إلى أحد الطرفين، أم أنها ستشكّل قوة ثالثة ضاغطة، وطامعة في تنازلات هنا أو مكاسب هناك. فإذا بدا هذا الخيار معطلاً عملياً، فإنّ بديله المتمثل في الانتخاب المباشر لن يكون في صالح الاتحاد الوطني، لأنّ مرشح حزب بارزاني (بافتراض أنه، بالفعل، لن يترشح شخصياً) سوف يستمدّ شعبيته من شعبية آل البارزاني، وبالتالي سوف تؤول الرئاسة مجدداً إلى الحزب الديمقراطي.
الوجهة الثالثة للمأزق قد تكون الأخطر، أي إعادة إنتاج أجواء العداء المشحونة بين الحزبين الرئيسيين، وتطوّر النزاع إلى مواجهات عسكرية تذكّر بماضٍ بغيض دامٍ، سقط ضحيته آلاف الأكراد، وتشرّد عشرات الآلاف، ودُمّر عمران، ونُسفت أواصر أهلية، وتمزقت روابط وطنية… ولقد تردد أن بارزاني اضطر إلى التدخل شخصياً، مؤخراً، لمنع وحدات حزبه العسكرية من ممارسة استعراض العضلات في مدن وبلدات الإقليم؛ الأمر الذي لم يكن في وسع الاتحاد الديمقراطي إلا أن يردّ عليه، حفظاً لماء الوجه في أقلّ تقدير. فإذا استذكر المرء أنّ وحدات البيشمركة الكردية، أي جيش الإقليم الرسمي، تخوض حرباً متواصلة مع «داعش»، على امتداد مناطق شاسعة يسيطر عليها تنظيم الدولة؛ وأنّ بعض هذه الوحدات ساعد، أو ما يزال يساعد، الأشقاء الكرد السوريين في كوباني وسواها، على خلفية متفجرة هي حرب تركيا ضدّ الـPKKK؛ فإنّ فتيل تجدد الحرب الأهلية في الإقليم، بين الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي لا ينقصه إلا عود ثقاب واحد، أو شرارة من نيران الحرائق المتأججة هنا وهناك.
ولكن… أين الديمقراطية، في غمرة هذه الاعتبارات؟ أو، بالأحرى، ما الذي سوف يتبقى من وعود الحرية والديمقراطية والعدالة، التي اقترنت بانتفاضة الكرد في العراق، وأعلن عنها مسعود بارزاني نفسه، صحبة شريكه «مام جلال» الطلباني، سنة 1991، في اجتماع كويسنجق الشهير؟ ألا تبدو القيادات الكردية وكأنها تواصل اقتراف المزيد من الأخطاء القاتلة، وبالتالي المزيد من خيانة آمال الجماهير الكردية؛ حين تنزلق حثيثاً نحو منظومة مآزق تهدد معظم المكتسبات السياسية والاقتصادية والمدنية والثقافية التي نالها كرد العراق طيلة العقود السابقة، وفي إطار الحكم الذاتي بصفة خاصة؟ ألا يتضح مجدداً، أو كلما نشب نزاع في الواقع، أنّ توحيد المناطق الكردية ما يزال شكلياً بصفة عامة، وتتعثر كثيراً جهود تفعيله على الأرض وفي سياقات الحياة اليومية؛ مما يردّه إلى التقاسم القديم، إياه، بين الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي؟
هذه أسئلة لا يجوز فصلها عن حقائق الواقع الفعلي للحياة الديمقراطية في الإقليم، إذْ لم يعد خافياً أنّ بعض الأجهزة في السلطة الكردية باتت تميل، أكثر فأكثر، إلى الاستبداد والقمع ومصادرة الحريات العامة وقهر الرأي الآخر؛ على نحو يذكّر المواطنين الكرد بأسوأ ممارسات الأجهزة الأمنية في عهد صدّام حسين. يُضاف إلى هذا ما يتردد على نطاق واسع، وفي أوساط الأكراد أنفسهم قبل الآخرين، عن شيوع الفساد داخل مختلف أجهزة الحكم الذاتي، بحماية مباشرة وتشجيع صريح من القيادات السياسية للحزبين الرئيسيين. وغني عن القول إنّ هذه الظاهرات تُلحق بالشعب الكردي أذى مزدوجاً، في الداخل على صعيد عرقلة تطوير الحكم المحلّي والمساعي الديمقراطية الوليدة؛ وفي الخارج من حيث إضعاف هذه التجربة في أعين العالم، خاصة بعض الدعم الأمريكي والغربي الواسع الذي حظيت به وحدات البيشمركة.
مدهش تماماً، ومحزن أيضاً، أنّ آلاف المواطنين الكرد في بلدة حلبجا، هذه التي قُصفت بالأسلحة الكيماوية سنة 1988، تعرّضوا لتنكيل شديد من سلطات إربيل، لمجرّد خروجهم في تظاهرة سلمية احتجاجاً على الفساد وسوء الإدارة وانحطاط الخدمات. وفي ميدان الحرّيات العامة، ولكن في جانب ثقافي وإنساني بالغ الحساسية، ثمة تقارير مقلقة تذهب إلى درجة الحديث عن مظاهر قمع بعض اللهجات الكردية، لصالح اللهجة الطاغية في كردستان العراق، أي السورانية. وليس بعيداً ذلك الزمن الذي شهد اضطرار عدد كبير من الكتّاب والمثقفين والصحافيين الكرد، بينهم نسبة طاغية من الكرد السوريين، إلى مناشدة مسعود البارزاني كي يضع حدّاً لمحاولات إيقاف تعليم وتدريس اللهجة الكرمانجية (التي، مع ذلك، تعتبر لغة غالبية عظمى من الأكراد، قد تبلغ 70٪!). وجاء في النداء: «إننا نعتبر ذلك خطوة خطيرة إلى الوراء، وستلحق ضرراً بالغاً بالتواصل اللغوي والثقافي الكردي ـ الكردي، كما أنها ستكون سبباً لتعميق التشرذم الكردي وازدياد الحواجز بين أبناء الشعب الواحد الموزع بين أربع دول».
وإذ تتعاظم تعقيدات المأزق، يبدو نهار الأحد القادم، موعد اجتماع الأحزاب في الإقليم للتوصل إلى مخرج، وكأنه محض بصيص ضوء ضئيل، في آخر نفق طويل، داكن العتمة.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    الشعب الكردي طيب من أساسه
    لكن القادة الأكراد أججوا العصبية القومية فيه
    ولهذا فازت الأحزاب القومية على الأحزاب الاسلامية هناك

    أنا كمسلم عربي أحب الخير لأخي المسلم الكردي
    فنحن لا ننسى القائد المجاهد صلاح الدين الأيوبي
    ونتأمل من أحفاده السبق بفتح القدس من جديد !

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول كوردى مخلص امريكا:

    مشكلة الكورد والداء اللعين والسبب فيما اصابهم من محن وكوارث وماسى وحرمهم من نعمة الحرية والاستقلال بعود الى خلافاتهم وصراعاتهم الداخلية . حركة التغيير المنشقة من الاتحاد الوطنى برئاسة نوشيروان مصطفى والشخص الثانى فى الحزب والذى يتبوء رئاسة برلمان الاقليم هم الذين خلقوا هذه الازمة واستغلوا التذمر والاستياء الشعبى غير عابئين بما تفرزه هذه الازمة من نتائج واضرار كارثية بشعبهم وقضيته فى هذا الوقت العصيب والظرف الدقيق وهذا دليل على سذاجة سياسية وعدم شعور بالمسئولية وضيق افق وانانية وكما ذكر الكاتب فى تحليله سيلحق بالشعب الكوردى وقضيته اذا لم يتم تداركه واحتواءه ابلغ الاضرار على الصعيد الداخلى والخارجى وتضعف هيبة الكورد امام اعين العالم وتؤثر على الدعم الغربى والامريكى الواسع الذى حضيت به القيادة الكوردية ووحدات البيشمركة الابطال فهل با ترى سيسنخلص ساسة الكورد القدماء وبالاخص المستجدين بالسياسة منهم الدروس والعبر من ماضيهم المرير

  3. يقول الخيال:

    البرزاني يعتبر انه وعائلته لهم حق الهي في حكم الاكراد والتصرف بمصيرهم لان والده مصطفى البرزاني هو من ابتدا الحرب ضد الحكومات العراقيه منذ الاربعينات. و على هذا الاساس فان مسعود الابن لن يقبل مطلقا التخلي عن رئاسه الاكراد ابدا مهما كانت القوانين ومهما كانت النتائج.

إشترك في قائمتنا البريدية