كل ماركت وأنتم بخير

حجم الخط
2

في البيت حالة من فوضى كفوضى نهر؛ الأولاد الصغار يتصارعون كجراء تتعلّم قواعد القتال والصيد من أجل البقاء، أصغرهم يقتحم الصالون، يبكي على مسدس أضاعه وقلمِ ليزر، ويتّهم قريبه بالجناية. من الغرف تخرج الفتيات كاملات الحسن والزينة، جميلات كما يليق بالقمر، أمهاتهن يدققن بآخر تفاصيل وجوههن، ويمررن، بخفة ساحرة، أيديهن على البطون والأوراك، ليتأكدن من أنوثة ما زالت دافقة رغم أنف الأربعين والخمسين. الرجال والشباب يتمنون لهن جولةً موفقة في سوق الميلاد، أو ما صار يعرف في بلادنا «بالكريسماس ماركت».
البيت يستنشق قسطًا من هدوء نسبي، فالضجيج خبا وغادر لصالح نقاش دارت رحاه، بين من بقي، حول ظاهرة هذه الأسواق التي ما فتئت تتفشى في قرانا ومدننا.
بالقرب منهم، تمددت على كنبة، أمامها أشعلت «صوبةً» كهربائيةً، وكنت أصغي، حينًا، لمجادلاتهم التي احتدمت في بعض محطاتها وأحيانًا، أستمع لجوقة لبنانية ترتل تراتيل الميلاد.
ارتميت، متخمًا، وما بين صحو وإغفاء استقبلت صورًا من شعائر ميلادي الخاص. لا أذكر متى توقفت عن ممارسة طقوس الصلاة التي كنت أسيرها وأنا طفل لا يعرف من المشاعر إلّا أطرافها الحادة. كنت كأترابي نمارس الفرح عاريًا من زوائد النضوج والتبرّج، ونحزن من غير مراسم، كجداول تبكي شحًّا وتدمع على فراق ضفافها. «أنانا» كانت هشّة كجناحي فراشة، جاهزة للخوف والارتباك والحب. لم يسكننا قلق، فهذا همّ البالغين أو العاشقين.
لا أتذكّر متى بدأت أطلب من يسوع أن يحبّني، وأن يبعد عني المرض، وينجّحني في دروسي، وأن يجعل من أحبهم يضحكون في وجهي ويحبونني. كنت أتمتم دعائي ثلاث مرّات، باسمي وبالنيّابة عن أبناء بيتي، وعندما أكون منهكًا، لم أتنازل عن رفع الدعاء لكنني، كنت أتلوه كطلقة وأنا على فوّهة إغفاءة، متأكدًا أن يسوع سيفهم صلاتي، مهما كانت «مجعلكًة»، فهو يسمعها كل ليلة، وسيقبلها، لأن مطالبي كانت بحجم قلب يحب، وأبسط من شفاء أبرص.
كنا ننتظر الميلاد بفرح عظيم، فهو عيدنا، نحن الأطفال، وعيد الوداعة والسلام. مع اقترابه كانت عطلتنا المدرسية تبدأ، ومعها كنا ننطلق قطعان أحصنة أفلتت لتعانق المدى، ونستسلم لإغواء الحواكير وحضن الحارات. ميلادنا كان شجرةً تنير القلوب وفي صدرها نودع كمشة أسرارنا، ذهب تلك الأيام وكنوزها، ونذهب لننام على وسائد من دفء وملابسنا الجديدة التي كنا نفوز بمثلها مرّة كل عيد.
ليلة الميلاد كانت ليلة من نبيذ ونشيد وكستناء، ليلة تصير فيها بيوت القرية البسيطة قصورًا من حب وتسامح، وفيها تسجن الملائكةُ شياطين الشقاق والنفاق والرذيلة، وتفتح للعالم شبابيك الرحمة والألفة والعشق. في الميلاد كانت القرية تودّع عهدًا من حب عتيق وتستقبل وعدًا من حب جديد قشيب.
في الصباح، كنا نفيق على صوت الندى، ونخف لنمتلئ بجديدنا؛ في البيت أبخرة بنكهة دجاج محشي تنبعث من طناجر أمي وتملأ فضاء الحارة برائحة مشتهاة. شوارع القرية، رغم ضيقها، كانت تعج بأسراب مزركشة من العائلات، تطوف على الأهل والأقارب والمحزونين والجيران؛ كانت قريتنا تصير بيتًا واحدًا يردد مزامير المحبة والمروءة والوفاء.
كان يسوع يحب كل القرية، كنا نطمئن له، ننام وعلى جفوننا نجمة تضيء وتحرس. أحسسناه في بيتنا، في حاراتنا، لم يسرقه أحد ولم يحجبه شيء، كنا على يقين أنه معنا ومع الفقراء أمثالنا، ويحب أطفال العالم مثلنا، كان يسوعنا عادلًا ومنصفًا للمظلومين، وقد جاء فافتدى البشر، كل البشر، وخلّصهم من خطاياهم، وكنا لا نقلق عليه ولا منه، فالقلق والشك شيم الكبار والحاسدين.
كم كنّا صغارًا وأنقياء، لم ندرك أن يسوعنا، سيصير «مسيحيًا»، كما يريده كبار اليوم ويعبده صيارفة الهياكل الحديثة – كل وفقًا لعملته وفضّته.
هجرتنا الطفولة فاستوطن الشك، ذهبت البراءة فغاب اليقين؛ لا أتذكر متى توقفت عن استجدائي يسوع وبدأت التفتيش عليه. ربما عندما اكتشفت أنه لا يرقّ لعاشق أدمته سهام الحاقدين والعواذل، أو ربما عندما زرت بيت – لحم ورأيت مهده محاصرًا سليبًا ومهانًا، وسمعت شعبه يصلي لخلاصه عبثًا، لأن الغلبة كانت من نصيب «البربر والشرير».
كبرنا وضاع يسوعنا، أفتش عنه فلا أجده إلا طفلًا ذارعًا معي شوارع تلك القرية الوادعة التي كانت قريتي وقريته، أعود وأفتش عنه فأجده في صلوات حكّام يستعينون به في الصباحات، وفي الليالي تسلخ سياطهم جلود المؤمنين الوادعين، أستجير به مجدّدًا، من أجل فقراء مخيم يتضور أبناؤه جوعًا ويشبعون تنكيلًا وتشريدًا، فأجده يصب بركاته في خوابي من يكدسون الأطيان والذهب والماس.
كانت قريتي عالمًا من نور وطمأنينة، وكان معها يسوع وفيها، صار العالم قرية من سراب وظمأ، فضاع يسوع وحار الناس فيه. ربما، لهذا، هكذا وأنا على كنبتي فكّرت، يقيمون أسواق الميلاد من أجله في جميع المدائن، عساهم يهتدون إليه هناك في «الكريسماس ماركتز»، بين بسطات الباعة والدلّالين، ألم يعلّموهم أنه «أخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقد قلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام». احتدم النقاش في البيت وعلا صياح. أفقت على أحدهم يجزم أن العالم تغيّر وأن لا بأس في هذه الأسواق، فخيرها وريعها أكثر من سلبها وسخطها، وثان وافقه متحفظًا على من يسيّس السوق والمناسبة والذكرى. حاولت أن أتدخل لأهدأ، فأسكتني طالب الحكمة، وذكّرني بصرخة صديقي الشاعر جريس سماوي حين أنشد:
«إن روما التي سرقت ديننا، مثلما سرقت حنطة الروح، من كلّ أهرائنا، لم تزل تستبيح الذُرى، هل ترى يا أبي، هل ترى؟»
رويت لهم ما جال في خيالي وأنا على تلك الكنبة، وكيف كان ميلادي وكيف تهت، فعلّق مؤمن على حديثي وقال: «إن يسوع في داخلكم ابحثوا عنه تجدونه»، فوعده الجميع أن يفتشوا عنه وأن يخبروا مؤمنًا إذا وجدوه. وتمنى الجميع للجميع ميلادًا مجيدًا وسعادة.

٭ كاتب فلسطيني

جواد بولس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعيد عبد العزيز / كاليفورنيا:

    مقال رائع أستاذ بولس . انت علم فلسطيني لامع في كفاحك ونضالك من اجل اسرى الحرية في سجون الاحتلال . عيد ميلاد مجيد لكل اهلنا المسيحيين في فلسطين .

  2. يقول ثائر:

    كل عام وانت واشباهك بألف خير فأنتم الخميرة الاصليه لهذه الأمه ولصحافتها.التي تكاد الا تقرأ لولاكم.

إشترك في قائمتنا البريدية