ها أنا في مدينة زيوريخ التي أعرفها جيداً لطول إقامتي ذات عمر في سويسرا مع أسرتي كأنني سليلة قبائل البدو الرحل، وصرت اليوم في عصر «بدو الطائرات».
في زيوريخ، أتفقد أصدقاء الماضي وأمارس هوايتي الأثيرة: التسكع وحيدة. أتوقف طويلاً أمام واجهات المكتبات على الرغم من جهلي باللغة الألمانية… أفرح حين أرى أحد كتبي المترجمة إلى الألمانية حتى في ركن متواضع من واجهة ما، وأكاد أغار منه: سأموت بالتأكيد ولعله سيبقى حياً في مكتبة ما! ولكنها المرة الأولى التي أرى فيها كتبي المترجمة إلى الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والألمانية (أي لغات سويسرا) تغطي الواجهة الأولى لمكتبة كبيرة في قلب زيوريخ بالقرب من محطة القطارات.. دهشت.
دخلت إلى المكتبة وسألت البائع: من هذه الكاتبة التي تدعمونها هكذا؟ قال: عربية توفيت منذ أيام ولها قراء لا بأس بهم.. ولذا أفردنا لها الواجهة الأولى تكريماً بمناسبة رحيلها! إذاً، فأنا الكاتبة المرحومة!.
أسفت قليلاً لنبأ وفاتي فأنا أعمل على كتاب جديد ولما أنجزه بعد!.
للمرة الثانية أتلقى نبأ وفاتي!.
قلت لمسؤول المكتبة:
كيف علمت بموتها؟
أجاب: أعلمني به كاتب عربي هو صاحب كتاب مترجم وكان يريد أن أقوم بإبرازه في واجهة مكتبتي بدلاً من كتب التي ماتت!..
وأضاف: موت أديب ما ينشط كثيراً مبيعات كتبه، ولذا، وبناء على معلوماته، أبعدت كتابه وأبرزت كتبها كما ترين…
وغادرت المكتبة وقد تلقيت، شبه مسرورة، نبأ وفاتي إذ قلما يحظى بذلك الأحياء!.
مشيت صوب نهر ليمات حتى البحيرة وجلست على مقعد رصيف مطل على «بحيرة زيوريخ».. ها قد تلقيت نبأ وفاتي للمرة الثانية، وكانت الأولى في جنيف في حادثة مشابهة بطلتها تتوهم أن موتي سيخلي لها الجو ولم يخطر ببالها أو بباله أن الخالق رد كيده إلى نحره!!
لا تخافي الموت بل الحياة!
وفجأة انهمر المطر.. ولا أدري لماذا.
شعرت بالوحشة.. الوحشة الضارية التي تخترق القلب بنصل بارد.. وفي تلك اللحظة بالذات شاهدت جنازتي تمشي تحت المطر.. بين البحيرة ومقعدي الخشبي شاهدت العشرات يحملون تابوتي.. وميزت فيهم أبطال قصصي ورواياتي.. وكل منهم يرتدي الثياب التي تركتهم فيها بين الصفحات.. ها هو رغيد الزهران صاحب بركة السباحة المذهبة.. وكفى.. ودنيا.. التي كانت تتحاور مع لوحة تمثلها شابة.. وخليل الدرع البيروتي (الآدمي).. والشاميتان ياسمين وماريا.. ها هو الصياد مصطفى و»مطرب الرجولة» الرقيق فرح، وها هو نيشان الثري والعرافة خاتون التي تنبأت بالحرب اللبنانية.. وكثيرون سواهم.. ها هم يمشون في جنازتي، وها هو الفلسطيني غزوان يمشي صوبي قائلاً: لا تخافي.. لقد حدث لي ذلك وفجرني العدو.. لا تخافي من الموت، بل خافي من الحياة.
تمارين على الموت
إنها جنازة جميلة شفافة الحضور كانت تمريناً عذباً على الموت..
أجل! كانت جنازتي الغرائبية جميلة وأنا أرى بطلات وأبطال قصصي جميعاً يحملون تابوتي وله شكل كتاب..
حسنا. أتفهّمُ ان يخترع البعض نبأ موت شخص ما، فالغيرة جزء من الطبيعة البشرية، وليس بيننا من يستطيع تنزيه نفسه عنها في بعض اللحظات، لكن الغيرة أنواع.. هنالك الغيرة العاطفية التي دفعت ببطل شكسبير عطيل إلى قتل الحبيبة البريئة ديدمونة قبل أن يكتشف براءتها. وهنالك الغيرة الأدبية التي تدفع بالبعض إلى المنافسة الابداعية الجمالية الشريفة، وهنالك حقد اللاموهوب الذي يحاول إيذاء الآخر، وذلك كريه، ومن تمارسه/يمارسه ينسى ان «عداوة الكار» تتطلب أن يكون الآخر «ابن الكار» أيضاً لا متطاولاً على حرفة الإبداع..
ولكن من الحكايا الطريفة في هذا الحقل ان «جريدة الأنوار» نشرت ذات يوم نبأ موت الأديب توفيق يوسف عواد في صفحتها الأخيرة، وكان الخبر كاذباً وغضب عواد لنشر نبأ وفاته على هذا النحو، لا في الصفحة الأولى، واتصل بالصحافي الكبير سعيد فريحة غاضباً لأن الخبر لم يتم نشره في الصفحة الأولى!!.
وكثيرة هي حكايا الأدباء الذين طالعوا نبأ وفاتهم وهم أحياء.. ولكنني كنت أكثرهم حظاً إذ شاهدت جنازتي الجميلة وهي تضم أبطال قصصي، كلهم، الذين تعلمت منهم كيف أكتب، ولكن حين نكاد نتعلم كيف نكتب يحين الوقت لنتعلم كيف نموت!.
وشكراً للذين يوزعون نبأ وفاتي، هنا وهناك، وأكثرهم طرافة تلك الكاتبة التي كانت تتوقع موتي، منذ ربع قرن، ووضبت محاضرة جميلة للمناسبة سلفاً، ولكن مشيئة الله قضت برحيلها قبلي وإن لم يفــــتها نشرها قبــــل موتها، بعدما ظلت أعواماً تتصل بي هاتفياً كل شهــــر (للاطمئنان) على صحتي!.. وهنالك أيضاً ذلك الزمـــيل الصحافي الذي كتبت له حواراً مطولاً بناء على إلحاحه، طوال أعوام، ولكنه لم ينشره بانتظار وفاتي!.. وقـــد احتفظت بنسخة عن الحوار لنشره فقد يرحل قبلي!!.. وهنالك «متشاعرة» قررت منذ أكثر من ربع قرن أن تحل محلي (هكذا دفعة واحدة!) حين أموت، وتجاوزت الخمسين وما زالت تنتظر.
وعداوة الكار يستحسن إخراجها من حقل الإفادة من موت الآخر.. فكل نفس ذائقة الموت.. ولا أحد يدري من يسبق الآخــر.. وحرب إطلاق شائعات عن هذا أو ذاك يستحسن أن تتوقف وأن لا تكون من أسلحة «عداوة الكـــار»!.. و»الحاسد والمحسود» ثنائي نجده في حقول العمل كلها كما «عداوات الكار» ولكن لا جدوى من الأذى وحروب النكايات، وهذه نصيحة من «مرحومة» محترفة!!.
غادة السمان
احيي الكاتبة المبدعة غادة السمان
وارشقها بالعبير والياسمين ونتمنى أن تكون لها زاوية تطالعنا بها ونستفيذ منها أدب ورؤى
فما تقدمه وقدمته للصحافة العربية لم يجد له مثيلاً ولا بديلاً ولا متمماً لمسار
الي غادة السمان القمر الدمشقي الاصيل
الروعة اللامتناهية واللامنتهية
ياسمينة الانفس
سطوة البقاء العروبي وجدواه
بارونة النزق والتجديد
مليكة الحرف وملاكه
اليها .. وفقط إليها
تحية ود ومحبة واعجاب
لماذا يصرون على قتل الجمال في بلداننا …….ربي يطول في عمرك
“كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور”
كلنا سنموت ولا يبقى إلا الحي الذي لا يموت.حفضك الله سيدتي الكريمة من كل سوء وأطال الله عمرك.
شاهدت نفسي خلف النعش بين أبطال روايات الاديبة
اشكالهم حفظتها منذ ألف قرن أعرف أسمائهم وقصصهم
وحتى مايدور في رأسهم من أفكار
سألوني من أكون ؟
قلت
انا الغريب
الذي أقسم على حبها في الغوطة
أنا الغريب
الذي مشي معها في زقاق الياسمين
خلف الجامع الأموي ..
انا الغريب
الذي كتب على قاسيونها إذكريني
انا من قالت له يوما حين اموت يا صديقي اكتب على قبري
رحلت كثيرا ولم تغادر دمشق ..
بحثت عن قريبها الشاعر وقرأت عليه مرثية كتبتها
عن الاديبة الراحلة …
قال لي ألا تعلم أنها قررت منذ طفولتها انها لا تريد
ان يقوم احد برثائها ومديحها بعد موتها وكانت تقول
” من لديه كلمة طيبة في ادبي فليقلها الان او فليصمت إلى الابد. ”
ماكان مني ألا ان حضنته وبكيت رغم كل محاولاتهم لموساتي
قالت لي خاتون انها غادرت دنياكم لتأتي إلى دارنا دار الخلود
فمثلما عشنا نحن معك وعرفتنا ولم نعرفك سوف يحيا معها ومعنا
أجيال أجيال قادمة
شكرا لك..مقال ممتع..حول الموت..