كوميديا المخلوع… هل أنست التونسيين عصره التراجيدي؟

■ للصبر حدود.. ويبدو أن صبر الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي على سيل الشتائم والاتهامات التي طالته وطالت عائلته على مدى السنوات الأخيرة أوشك قبل ايام على النفاد، بعد أن عكرت مزاجه بعض حلقات برنامج تلفزيوني تعرضه قناة «التاسعة» الفضائية ويقدمه أصحابه على أنه «هزلي ترفيهي لا يحمل أي خلفية سياسية»، مؤكدين على أن «آراء ومواقف ضيوفه لا تلزم سوى اصحابها».
ما أشعل الغضب المفاجئ للجنرال الهارب كما تقول صحيفة «الصريح» المحلية نقلا عن محامي القناة التلفزيونية، هو أن بن علي رأى في استدعاء وجوه سياسية وإعلامية إلى حوار وهمي، ثم الزج بهم في مواجهة خيالية مع أحد الممثلين البارعين في تقليد صوته، وهي فكرة برنامج الكاميرا الخفية «ألوجدة» «مسا من كرامته وهيبته وسمعته كرئيس سابق»، بعدما ساءه بحسب الصحيفة تهديد أحد الضيوف له أو بالاحرى للشخص الذي قام بتقليده من انه سيجد «داعش» في انتظاره لو فكر في العودة إلى تونس.
ولانه صار ديمقراطيا صرفا يؤمن بأن الخلافات والخصومات تحل فقط بالقانون وليس بأي شكل آخر، فقد قرر بحسب المصدر نفسه أن يرفع قضية استعجالية للمطالبة بوقف البرنامج، قبل أن يعلن بعد ذلك عن سحبها في اعقاب التوصل إلى اتفاق ودي بين الطرفين.
لقد منحته الديمقراطية فرصة سحرية على طبق، حتى يقدم نفسه ضحية من ضحايا الانفلات الإعلامي الذي تعيشه تونس، بعد أن تعالت بعض الأصوات قبل شهور منادية بضرورة عودته، انفاذا لفصل في الدستور الجديد يحجر إبعاد المواطنين عن بلدهم، أو منعهم من دخولها تحت أي سبب أو مبرر. لكن كيف تكون تلك العودة وما الذي سيحصل بعدها؟ وهل أنها ستسمح بالوصول إلى الحقيقة ومحاسبة المذنب؟ وما شكل المحاكمة العادلة التي يطالب بها المدافعون عن الرئيس الهارب؟ كل ذلك وغيره يظل مجهولا ومفتوحا على كل الاحتمالات والتوقعات، مادام المعنى المباشر بالموضوع غير راغب أو قادر حتى الآن على الاقدام على تلك الخطوة أو حتى على الكلام المباشر.
ما يهم الان بعد الوصول إلى ما قيل إنها تفاهمات حصلت بين الطرفين على تعديل بعض العبارات التي وردت على لسان ضيوف «ألوجدة» ووجدها بن علي قاسية وغير لائقة في حقه، هو أنه صار بإمكان الرئيس المخلوع أن يتابع كل مساء برنامج المقالب الرمضانية، وربما ينتشي زهوا وفرحا بوجود شخصيات مجهولة أو معروفة وقعت في الفخ، وصدقت أو أوهمت الجمهور بأنها تصدق انها يمكن أن تتحدث معه في برنامج تلفزيوني، بعدما كان الامر ضربا من ضروب الخيال أيام حكمه. ومن الطبيعي أن تهز مشاعره عبارات الإطراء والمديح والغزل التي رددها البعض نحوه من قبيل ما قالته لشبيهه واحدة من بطلات البرنامج من أن «تونس من دونه لا تساوي شيئا، وأن الشجر يبكي عليه وعصافير باب البحر لم تعد تطير حزنا عليه».
لكن الامر لا يتوقف فقط على حد المواساة النفسية ورفع معنويات رجل منهار، أزيح عن السلطة في ظروف مجهولة، بل في البحث عن مكاسب سياسية ولو بسيطة ومحدودة عبر قناع الكوميديا الزائف. إضحاك التونسيين هنا هو الطريق الأسرع والأقرب إلى كسب قلوبهم وعقولهم وتحويل الشيطان في عيونهم ملاكا باستطاعته أن يعيد ولو لدقائق معدودة عقارب الساعة إلى الوراء، ويصنع صورة جديدة ناصعة البياض لذلك الرجل الغامض الذي استطاع قبل ما يقارب الثلاثين عاما من الان أن يزيح الزعيم بورقيبة من سلطته المطلقة الفردية، ويعلن في بيانه الأول الشهير أنه «لا ظلم بعد اليوم» وأنه «لا مجال في عصرنا الحالي إلى رئاسة مدى الحياة، ولا إلى خلافة آلية لا دخل للشعب فيها».
وبغض النظر عما اذا كانت الكوميديا وسيلة لاعادة تسويقه في الداخل، فان الرئيس المخلوع الذي ظهر كوميديانا في رمضان، لم يفقد في كل الاحوال عددا معتبرا من كتيبة النافذين الذين يقفون كل مرة لايهام التونسيين بأنه حقق انجازات وارتكب اخطاء وأنه من الضروري أن ينظر إلى فترة حكمه بموضوعية وبلا تحيز أو محاكمات شعبية وثورية تمحو بجرة قلم كل الايجابيات التي تحققت على امتداد عهده. ورغم انهم يقرون بأنه لم يكن ودودا ولطيفا مع ذلك الكائن الاسطوري المسمى ديمقراطية، وكان متفردا بالقرار لا يقبل الرأي المخالف ولا يستنكف أن يعامل معارضيه بقسوة ويزج بهم في المعتقلات والسجون، ويتصدى بقسوة وحزم لكل من تسول له نفسه التفكير في صحافة حرة ومستقلة أو أحزاب وجمعيات تدور خارج فلك الحزب الحاكم، إلا أنهم يرون كل ذلك كان هينا وبسيطا بالمقارنة مع ما حصل في دول عربية أخرى، وأنه كان ضريبة ضرورية لتحقيق التمنية والاستقرار الداخلي، ويردون على منتقديهم بأنه لا معنى لحقوق الانسان وللديمقراطية مادامت غير قادرة على إطعام الافواه الجائعة، وأنها تبقى في الاخير مجرد شعارات فارغة لا تغني أو تسمن من جوع.
ويواصلون الاستدلال على صحة نظرياتهم بما حصل في تونس بعد غياب بن علي عن سدة الرئاسة. ويكررون هنا بنبرة حاسمة وقطعية بأن من خلفوه ويعنون هنا بالتحديد الاسلاميين، الذين أوصلتهم صناديق الاقتراع إلى السلطة، لم يكونوا رجال دولة متمرسين على الحكم وعارفين باكراهاته وخفاياه، وهو ما قادهم للتخبط في أخذ القرارات والمس بهيبة الدولة.
اما المصير المظلم والقاتم الذي انتهى اليه بن علي فلم يكن يعود بنظرهم، لان طول تجربته في السلطة أفقده القدرة على ابصار الواقع من حوله وإدراك أن هناك بركانا مدمرا يوشك على أن ينفجر بوجهه في اي لحظة، بل كان فقط بسبب تعرضه لمؤامرة داخلية وخارجية اجبرته على المغادرة على وجه السرعة. هل كانت تلك شهادة البراءة الرمزية له من كل وزر أو ذنب يمكن أن يتحمله فيما انتهى إليه؟ أم انه كان في الاصل ضحية استهتار وجشع الدوائر الضيقة التي أحاطت به، والتي أقر في خطابه الرسمي الاخير انها دفعته إلى الخطأ وتوعدها بالمحاسبة؟
لقد بسط السجاد الاحمر امامه فدخل قصر قرطاج ظافرا بعد أن ازاح رئيسه في انقلاب طبي بدون أن يلقى أي مقاومة أو رد فعل يجعله يفكر في عواقب الاقدام على تلك الخطوة، والسبب انه لم تكن هناك بالبلد مؤسسات فعلية قادرة على الوقوف أمام شهوات ومغامرات الطامحين إلى خلافة الرجل المريض. كان اختصار بورقيبة لكل معالم الدولة ورموزها في شخصه والغاؤه اي تمايز أو اختلاف بينه وبينها بمثابة السطر الختامي الاخير الذي خطه الزعيم في قصة حكمه التي استمرت اربعة عقود كاملة. بدأ بعدها الخلف عهده باطلاق الوعود وتوزيعها عن اليمين والشمال، والمفارقة انه انهاه ايضا بعد اكثر من عشرين عاما بالاطلاق الجزافي والعشوائي للمزيد منها وفي كل الاتجاهات. ورغم انه كان يصف نفسه بصانع التغيير الا انه كان في الواقع صانع اوهام عششت طويلا في عقول التونسيين، ليستفيقوا بعدها على حقيقة صعبة ومرة، وهي انهم كانوا ضحايا اكبر عملية احتيال ونصب وتزوير. ولاجل ذلك فقد باتوا شبه متأكدين الان من أن عودة بن علي مجردا من السلطة ومقيدا بالاغلال ومرميا في سجن خمسة نجوم بعد محاكمته، وفقا للمعايير العربية التي حوكم بها صديقه مبارك، تكاد تكون مستحيلة، حتى هو نفسه قد لا يمتلك الشجاعة للتفكير في مواجهة مثل ذلك المصير. ولكن هناك طرفا ثالثا قد يستفيد من عملية تنظيف التاريخ التراجيدي للرئيس المخلوع، وهؤلاء ليسوا فقط رجال عهده الذين تبرأوا منه في وقت من الاوقات ونسبوا له وحده كل الجرائم والخطايا، ثم خرجوا بعد ذلك ليطالبوا بنصيبهم من كعكة الديمقراطية، بل حتى بعض القوى الخارجية التي كانت الداعم الاكبر له في انقلابه على بورقيبة، ثم حكمه للبلد على مدى اكثر من عقدين، التي لا ترى حرجا من أن تظهر الان دعمها ووقوفها إلى جانب التجربة الفريدة والاستثنائية في تونس.
ويبدو أن الحرص على أن تدفن اسرار تلك الاتفاقات والروابط المشبوهة إلى الابد هو الذي يجعلهم يفعلون كل شيء حتى لا يظهر بن علي بشحمه ولحمه وتكشف معه كل الاوراق والمفاجآت، لانه متى حصل ذلك سيصاب التونسيون بصدمات اقوى واشد من صدمة الكاميرا الخفية وسيدركون أن صبرهم وصمتهم على ما جرى ويجري في بلدهم قد بلغ بالفعل هذه المرة حدوده الاخيرة.

٭ كاتب وصحافي من تونس

كوميديا المخلوع… هل أنست التونسيين عصره التراجيدي؟

نزار بولحية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول توفيق ميزان هولندا:

    الشعب التونسي في عمومه سريع النسيان وسريع التجاوز والتطبيع مع عدوه فإذا كانت فرنسا التي استعمرت ارضه ونهبت ثرواته وحاربت دينه وهويته قد غفر لها وتناسى ذاك التاريخ الاليم بدليل العلاقة الحميمية والمتميزة مع فرنسا ثقافة واقتصادا وسياسة فلا نستغرب نسيانه لآلام كثيرة خلفها حكم بورقيبة وبعده بن علي
    فالمسألة هي قابلية للنسيان وعدم الاعتبار من التاريخ وليست الكوميديا او غيرها من التفاهات التي تعرضها القنوات المائعة هي من ستغرس فيه هذا النسيان .

إشترك في قائمتنا البريدية