إن أي مادة يُشكَّل منها بناءٌ ما، سواء أكان مادياً أو معنوياً، لا بد أن تحتكم إلى أُسس ومعايير يُطمأنُّ معها إلى متانة البناء وقوة الأسس.
أما في حالة الأدب، والكتابة، فليس أهون من مادتها المستخدمة لبناء النصوص وإنتاج الأشكال الأدبية، التي يُطلق عليها طيلة الوقت «الإبداعية»، من دون الارتكاز على شروط مُتعارف عليها ومتفق على معياريتها في ضبط هذا النسق البنائي لتعريف مفهوم «الإبداع».
ليس هناك ما هو أضعف من هذه المادة.. الكلمات. ومن هنا فقط نشأت سوقٌ سوداء تبيع وتشتري في هذه المادة، التي يُفترَض أن تكون نبيلةً، فأهانتها جماعةٌ من المُرتزقة الذين يعرفون جيداً كيف يقلِّبون مواضع الكلمات، وكيف يصنِّفونها، ويرصونها رصَّاً، ويتشدّقون بنظريات النقد ومصطلحاته وفق المطلوب من الخطاب المُستهلك للمناسبة: إن كانت ندوة أو أمسية، أو على مستوى آخر، إن كان تقرير لجنة تحكيم لمسابقة (هنا يُتطلّب التقعر والتفاصح بقدر الإمكان، والإسهاب في المصطلحات النقدية الضخمة، ولا بأس من القيام ببعض الإحالات المُقارِبة على نظريات انتهت تطبيقياً منذ وقتٍ طويل، على الأقل في بلدان ظهورها، كالحداثة وما بعد الحداثة والتفكيكية والبنيوية وما هو خارج النص وموت المؤلِّف).. إلخ.
لا شيء أسهل أو أهون من الكلمات. والأهم لدى جماعة الكَتَبة من هدر دم الكلمات هو المردود، جائزةً أو شيكاً أو تكريماً أو استضافةً في مؤتمر أو سواه. النقد مقابل «النقد»، هو الوجهة الحديثة للتوجُّه النقدي الزائف، حيث لا أدوات أو منهجية تحكم المؤتمِرين، وفي أحيانٍ كثيرة لا إطار فكري ينتظمهم في مقاربتهم لإحدى محاور المؤتمرات. ما يجمعهم فقط هو القيمة المادية التي سيحصل كل منهم عليها بعد انتهاء المؤتمر. أكثر ما يجمعهم أيضاً هو القاعة التي يجلسون فيها!
السؤال الذي يقف يتيماً دائماً أمام أصحاب الحقائب الجاهزة هذه والمحشوّة بالنظريات: أي مقاربة يقدّمونها بنظرياتهم الغارقة في التجريد، والمحنية رأسها لشروط المانح، يقدمونها للإنسان العادي، للمواطن المطحون بملاحقة الحد الأدنى من متطلبات الحياة، الذي تُكرَّس كل القوى لفصله عن منابع الوعي لجعل حدود وعيه القصوى هي حدود بطنه وأمنه المهدد طيلة الوقت؟
ماذا فعل المثقفون لهذا الإنسان؟
ماذا فعلت المؤتمرات التي تُفصَّل وفق شروط المانح؟ وماذا قدَّمت للإنسان العربي الذي مازال يُكافِح الأميّة والبطالة والجوع ويذهب أبناؤه للمدارس الفقيرة غير المؤهَّلة؟
مؤتمرات وجوائز فقط، وندوات وأمسيات وملتقيات نقدية، تُذبح فيها الكلمات، وتُهدر شرقاً وغرباً، وصِراع ديكةٍ ومنظِّرون في ورش عملٍ لم ترَ الورش الحقيقة التي يعمل فيها الأطفال المصابون بالأنيميا، وقد حُرِموا من كل مستقبل، ورش مثقفين مادتها الكلمات، كلمات حُفظت من نظريات ميِّتة لا يبالي بها أحد من المؤتمرين، فالأمر برمته: ناقدٌ سيلقي ورقةً ويحصل على مكافأة يضعها في حقيبته ويسافر. وموظَّف ثقافةٍ يدير المكان، ويبتسم للضيوف ويُجلسهم ويوزّعهم في الفنادق، ويُفكّر في علاوة آخر الشهر على مجهوده المضاعف! وكاتبٌ أوقف مشروعه الفكري الحقيقي الحي، لم تعد تعنيه أسئلة الوجود والبحث عن إجابات لها في أعمال إبداعية جديدة، بعدما أعجبته لعبة الندوات والملتقيات ومكافآتها، فأتى إلى المؤتمر يسأل عن محوره ليكتب وفقه ويسأل عن الخزينة!
كَتَبَةٌ كَذَبَةَ.
هل سيُفلتون من التاريخ؟ هل سيواصلون التأصيل للكذب، وتكريس هذه المشهدية الغارقة في البؤس للإبداع العربي تنظيراً واستعراضاً؟ والغريب أن من بينهم كُتَّاباً ومشتغلين بالنقد (ولا أسميهم نقاداً) وموظفي ثقافة، وليسوا مثقفين، تجاوزوا الستين من العمر، ومازالوا يمارسون هذا الكذب بالنظريات والمصطلحات الرنانة المكرَّرة، في كل ملتقىً وكل محفلٍ، إما بقوة المناصب التي يشغلونها، أو اتكاءً على تاريخ طويل من النفاق في مغازلة السلطة، من دون أن تردعهم أراذل العمر التي وصلوا إليها عن استمراء هذا اللعب بالكلمات وهذا الملق الأصفر في تأسيس أوهامٍ جديدة للعقل العربي في منتديات تحمل دائماً كلماتٍ مغلوبةٍ على أمرها في المتاجرة بها، كسؤال السرد، ومساءلة النص، والحمولات المعرفية الطافحة في الخطاب.. إلخ.
إن صورة المنتَج الأدبي في أي مُجتمَع هي انعكاسٌ لوضعه الحضاري وموضعه من التاريخ وقدرته على الفعل والتأثير في العالم وفي الحضارات الأخرى. وإن مجرد نظرة عابرة لواقعنا الأدبي ومظهرياته الزائفة وجوائزه الهشَّة الآليات التي صارت تضع معياريات إنتاج الأدب وتُحدد قواعده وليس النقد، ومؤتمراتنا المُكررَة، كفيلةٌ بالإشارة إلى المستوى الحضاري المتراجع الذي وصلنا له، بواسطة المنتفعين، «أصحاب الياقات البيضاء»، والمصالح الضيِّقة، وسماسرة النقد.
ليت هؤلاء (المتناقدين).. مؤسسي المنتديات والملتقيات التي لا يحضرها الناس، الناس الحقيقيون، مِلح الأرض.. العُمَّال والطلاب والفقراء والباحثون عن المعرفة، هؤلاء الذين لا يعرفون شيئاً عن حتمية ارتباط قضايا الأدب بالطبقات المتلقية له وفق تراتبيات حياتها وسلَّم احتياجاتها المعرفية والمادية.. يعرفون أنهم كذَبَة، لن تُخلدهم مؤتمراتهم الفاخرة التي لا يحضرها أحدٌ سواهم. ولا مصطلحاتهم المكررة التي خلت من المعنى، مع تغير سياق استعمالها في ظرف حضاري مختلف عن ذلك الذي أنتجت فيه.
وليتهم يعرفون أن النقد ليس كرسياً في مؤتمر، إنما موقفٌ من العالم. موقفٌ ملؤه الرفض والمُراجعة ومساءلة السلطة وتحرير العقل، وليس تسليمه طواعيةً لمنصبٍ ومكافأةٍ وقاعةٍ فخمةٍ تنتهي بخزينةٍ وصرَّاف.
كاتب من مصر
حمزة قناوي