لأنها نهضةً ممنوعةً أم مانعة لعصر تنويرها؟

حجم الخط
0

عانى الفكر النهضوي العربي من إشكالية بنيوية كانت تغيب ملامحها عن رؤية أكثر المشتغلين على مفاهيم التخلف والتحديث، عبر أجيال من القرنين الأخيرين. فلم يكن ثمة تنبه واضح للفصل بين النهضوي والسياسوي الراهن. بما يعني أن أسئلة النهضة قلَّما كانت متميزة عن الظروف الآنية المحيطة بها، ومن أهمها ولا شك ضغوط التحديات السياسية التي كانت غالباً ما توصف بكونها تحديات مصيرية، تتعدى الهمَّ الفكري الخالص، كيما تتناول وجود الأمة واستمراريتها عينها. وهو أمر يكاد يكون مألوفاً ومفهوماً بالنسبة لأمة واقعة دائماً تحت تسلط القوى الأجنبية ذات التميز بعوامل التفوق الحضاري التي حُرمت منها هي لأسباب عديدة، وطيلة عصور مغرقة في القدم.
فكان الوعي النهضوي مشدوداً دائماً على وتيرة وحيدة. يحتلها عنف المضاهاة بين الذات والآخر. إنه ذلك العنف الذي يغذي سيكولوجية الإضطهاد الجمعي تحت وطأة الشعور بالدونية المسلوبة الارادة، إزاء طغيان الآخر ليس بأدوات سيطرته المادية المباشرة فقط، ولكن كذلك بأسرار الشخصية الحضارية المعقدة والغامضة، القائمة وراءها – هذه العلاقة الضدية بين الذات والآخر تحكمت في تأسيس الدوافع الأولى للحراك العام الموصوف بالاجتماعي. الأمر الذي أعاق نشأة الفكر بما يرجع أولاً لذاته. فكان انشغال النخبة الثقافية بابتكار الحلول الآنية لتراكم المشكلات العامة الراهنة والطارئة، يجعل النهضة في منأى عن طرح الأسئلة الأساسية، المتعلقة بالعقل العربي نفسه الذي يسعى إلى فهم الواقع والتعامل معه. وفي حين تقع المتغيرات الموضوعية من سياسة واقتصادية وحتى العسكرية من حول الإنسان العربي، إلا أن طريقة وَعْيهِ تظل في منأى عن مساءلتها لأجهزتها المعرفية، وقد راحت تمارس عاداتها الذهنية التقليدية، خاضعةً لذات المعايير التي يتبناها الفهم الجمعي التقليدي لأشياء العالم من حوله. ما يمكن التعبير عنه فلسفياً بالقول إن الحالة اللامعرفية، أو ما قبل المعرفية تتابع طغيانها على الحالة المعرفية البعدية اللاحقة بها. ما مؤداه أنه إذا كان العقل يرى إلى العالم من خلال منظار أسود، فسوف يستمر في رؤيته مظلماً، وإن كانت تجتاح العالمَ عواصفُ الأنواء والأضواء من كل جهة. إن فهم العالم لا بد أن يكون عالمياً كونياً من طبيعة موضوعه، بينما أمسى ينوء الوعي العربي أخيراً تحت أظلم رِدَّة نحو بدائيته الخاصة.
لذلك كانت ثنائية الذات والآخر التي تحكمت في مسيرة النهضة، تفجّر مراحل جدليتها التاريخية عبر معارك عقيمة لا طائل تحتها، ما دامت لا تستطيع أن تتعامل مع الآخر إلا بذات أنظمتها المعرفية التي تتعامل بها مع نفسها وتدير شؤونها بحسبها. فراحت كل حقبة في تاريخانية النهضة تعيد إنتاج حصائل عين الحقبة التي سبقتها. ذلك أن الفكر النهضوي كان معاقاً باستمرار، سواءً اتجه إلى تفكيك عِقَدِ الذات والكشف عن آليات تكوينها، أو اتجه نحو فهم الآخر في محاولة لتخطي ممارساته الضدية، وصولاً إلى سبْر جذور تفوقه. فالأسئلة المعرفية معطلة تحت وطأة البحث عن وسائل الدفاع الآنية لدى الذات للرد على تحديات الآخر الذي غالباً ما يملأ الفضاء العربي بالمعارك الحدية خلال غزواته الاستعمارية أو هجوماته الحضارية المتواصلة. من هنا كان وقوع الوعي النهضوي تحت وطأة إشكالية التقليد وتظاهرات المماثلة، وحالات التماهي مع الآخر والردّ عليها بالرفض الحدّي تارة، أو تجاهل إشكالية العلاقة أصلاً، والاعتراف بخطرها تارة أخرى، ما يشكّل سيكولوجية معقدة متراكبة، مانعةً مقدماً، للبحث عن أي عملية تجسيرِ تواصلية سليمة بين نشوء وتكون أسئلة الذات عبر الآخر، وبين عملية اكتساب وتنمية الأجوبة التي تخصّ الذات وحدها باستقلال أنطولوجي عن عنف الثنائية الصراعية عينها بين القطبين؛ بحيث آن أصول التقدم وشروطه، ماكانت لتنبع من ظروف المجتمع وإمكانياته الخاصة. فجدلية المثاقفة كانت ممتنعة عن التحقق التلقائي. وكان البديل الدائم عنها هو سهولة التقليد. إذ أن المثاقفة تتطلب إمكانية التبادل.في حين أن المجتمع المحجوز في إسار تأخره التاريخي عندما يُفاجأ بكل فعاليات الآخر المتقدم عليه في كل شيء، لا تسمح له صدمة المفاجأة المستمرة أن يتجاوز عتبة رد الفعل الغريزي، المتمثل في الاندفاع وراء جاذبية التقليد المباشر، القائم فقط على فعل الأخذ من الآخر، دون القدرة على إعطائه ما يقابله. فالتقليد هو أخذ بدون عطاء، بينما لا تولد المثاقفة إلا من جدلية الأخذ والعطاء معاًعلى أن يفهم العطاء هنا تجديداً للذات، فالهوة قاطعة بين الموقفين: التقليد والمثاقفة. وقد يتمادى الأول حتى التغلغل في نسيج الثاني. وكثيراً ما تكون علّة تعثر الفعل النهضوي ناجمة عن ممارسة المثاقفة كامتداد لآليات التقليد عينها، ولكن عبر التباساتها بمظاهر التقدم الزائفة.
في حقبة الانبهار الأول باكتشاف الغرب، سيطرت ثنائية أوروبا والشرق على بدايات الفكر النهضوي. فاحتلت أوروبا موقع النموذج الذي يفرض على الآخر أفعال المضاهاة بين أحواله المتردية ومزايا النموذج الطاغي. والمضاهاة لم تكن تخرج عن المقارنة بين مظاهر القطبين، لا بهدف تفكيك عوامل كل منهما، بقدر ما كانت المقارنة مشفوعة بإطلاق أحكام القيم من تحبيذ وتعظيم للآخر أو للذات، أو من رفض وتسفيه للمعتقدات والمسالك العامة والفردية. كانت الدوافع نحو المماثلة إلى درجة التماهي مع النموذج المتفوق تعمّق من جهةٍ الشعورَ بدونية الذات، ومن جهة أخرى تحرّض على الممانعة والمدافعة بتطوير نزعات الرفض والاستعلاء المعاكس، والتقهقر نحو جنائن الماضي المفقودة. وفي مثل هذه الظروف البائسة من الانغمار تحت موجات أحكام القيم الصادرة مرة بحق الآخر، ومرة أخرى بحق الذات، ما كان مقدراً للفكر النقدي أن يولد، أو يستقل عن سلطة المضاهاة الفورية .
إن السؤال المعرفي الذي طرحه محمد عبده عن سبب تفوق الغرب (المسيحي) وتأخر الشرق المسلم، لا يزال معلقاً في الفراغ. ولم تأت الأجوبة عليه، وبدءاً من صاحبه نفسه الذي أعلنه، باكتشافات فكرية أو بنيوية واقعية إلا من خلال سيطرة لثنائية جديدة، ذات رنة بلاغية. وهي الأصالة والحداثة، وتناظر ثنائية الذات والآخر. فتغدو الذات محلاً مرجعياً للأصالة، ويظل الآخر مالكاً حصرياً للحداثة، وموزّعاً لحِصَصٍ منها على بقية العالم. وبذلك فات الوعيَ النهضويّ، في مختلف حقباته. طرْحُ إشكالية الحداثة من أصولها الوجودية (الأنطولوجية)، تحت وطأة طغيان التقييم المعياري الذي يمارسه الفرز الاحتكاري لمصطلحيْ الأصالة والحداثة؛ وذلك كلما لاحت في منعطفات الحدث التاريخي، ملامحُ موضوعية لثقافة التأسيس في المختلف وضرورتها المطلقة الحيوية بالنسبة لتحولات المصير العام، كما تَتَبيّنه النّخبُ الفكرية، من أزمة كارثية إلى أخرى. فكيف يمكن الكلام عن الحداثة بدون عقل حداثوي، يكتفي بوظيفة التقاط أقانيم وطقوس وشعارات تتداول أشباه الأفاهيم الشائعة عن التقدم والتغيير، دون أن يكون العقل هو نفسه مُنْتجَ الأفكار التي تغيّره، قبل أن يكون متلقياً لأفكار سواه.
الواضح إن إشكالية الحداثة، ترجع أساساً إلى اشكالية العقل التي لم تطرح لدى مفكري النهضة عامة إلا من خلال ما ينبغي تبنيّه سواء من الأفكار أو المذاهب وصولاً إلى الأيديولوجيات وعصرها، أو ما لا ينبغي الأخذ به. لم يجرِ التنبّه إلى المبدأ القائل أن العقل الحداثوي هو ما ينبغي أن يكون أولاً موضوعَ استفهامه البدئي لذاته عبر مختلف إنتاجاته. فقد اقتصر التعامل مع العقل بصورة عامة، وليس الموصوف بالحداثوي بَعدُ، كما لو كان جهازَ اختيارٍ وانتقاد للأفكار الجاهزة التي يلتقطها من لدن متحفيْـن أحدهما لبضائع الغرب، والآخر لمأثورات التراث. فبعد إفلاس كل جيل من طوائف هذه الاستعارات، يعود العقل إلى اكتشاف غربته الأولى إزاء كل ما كان استعاره من بضائع الآخرين وألصقه بكيانه، كما لو كان من صنعه ومن علاماته. لكنه سرعان ما يغطي غربته السابقة باستعارة أدلجات أخرى من خارجه.
من هنا، لا يكشف تاريخ الأفكار النهضوية عن حركة نمو أو تطور في مسيرة وعي متكامل بقدر ما تبرز المشاهد الثقافية عبر نقلات بين أنظمة ذات صياغة سياسية أكثر منها فكرية، تلبي حاجات آنية مرتبطة بمتغيرات الظروف العامة المحيطة بالمجتمعات خلال مرحلة الاستعمار، و ما جاء بعدها من مرحلة الاستقلالات الوطنية وبناء الدولة الحديثة. فقد تغلبت على هذه المسيرة آلية استعارة حلول وأجوبة لمشكلات الآخر الغربي على أنها حلول صالحة لمشكلات الذات. بمعنى أن التفاعل مع الآخر، لم يولد تفاعلَ الذات مع إنتاجاتها. لم يحدث أن حاولت الذاتُ التعرفَ إلى نفسها، والكشف عن بنيتها، إلا من خلال ما كانت تلتقطه صُدفةً من بيانات الآخر عن أحواله الخاصة به. فكانت هناك عمليات من استعارة إشكاليات الآخر الظاهرة، وإلصاقها بالذات؛ بحيث أنه في كل منعطف، كان يمكن أن يولد فيه النقدُ من مسبباته الخاصة العائدة إلى معاناة النُخَب، واستشعار الظروف المحيطة بخواصها وعلاماتها الفارقة؛ لكن تتجدد سلطة الالتباس مع أشباهها الناتئة لدى النموذج الغربي المسيطر. فلا تنمو ثمة وظيفة حقيقية للنقد. لا يتعرف إلى أدواته، ولا يثير نقاشات واعية حول مناهجه، في الوقت الذي يفشل في اكتشاف موضوعاته كما هي. وبالتالي عندما تضيع لحظة النقد الذاتي من زمن النهضة، يغدو من العسير أن تتقوّم العناصر التاريخية المؤدية إلى انبناء أُقنوم واضح ومستقل لمفهوم الحداثة. وعندئذ يخبط التغيير خبط عشواء عاجزاً عن تشكيل أية مُراكمةٍ لإنجازات متكاملة في بنية المجتمع. ويغدو الحراكُ العام مجرّدَ انتقالاتٍ بين بدائل لفظوية خالصة، تقذف بها التحولات السياسية وما يرافقها من شعارات مؤدلجة، تهبُّ من العالم الآخر، حيثما كلُّ متغيراته إنما تسير وفق تكامل عضوي بين وقائعه العامة وأفكاره القائدة والموجهة. في حين يبقى الوعي الثقافي العربي عقيماً من كل تأثير في الذهنية المتوارثة للجماهير الواسعة، والراكدة ركودَها اللازمني تحت مويجات العواصف الأيديولوجية التي تتدافع على سطحها، ويمسح بعضُها الجديد اللامع بعضَها الآخر القديم العابر أصلاً.
لا يصّح الحديث عن صدمة حقيقية للحداثة في الوقت الذي عجزت ثقافة النهضة، وفي أعلى مستويات نضجها النسبي، خاصة خلال حقبة الاستقلالات الوطنية، عن فرض الاستشعار بضرورة طرح لإشكالية العقل، متخطيةً حالاتِ الغرق الدائمة في تداول المذهبيات السياسوية، ومتوجهة رأساً إلى تعرية العقل نفسه والحفر، حتى عمق نظام أنظمته المعرفية. فلقد اكتفت ثقافة النهضة باستخدام العقل كأدوات تعليل وتسويغ لما ينبغي عليه أن يتبنى من الأفكار والمذاهب والأيديولوجيات. وما لا ينبغي له الأخذ به من تلك الأنساق الفكروية المعروضة والواردة غالباً كأطياف صاعدة أو هابطة على هوامش الحركات والتيارات السياسية. لم تدق بعدُ ساعةُ النقد الجذرية المستقلة في الزمن النهضوي المتعثر. لقد بقي نظام الأنظمة المعرفية المتوارث لا شعورياً، مسيطراً كلياً على عمليات الفهم الحاضرة بين التبني أو الرفض للأفكار والمذاهب. كأن ثمة كأساً تمتلئ بسوائل ذات ألوان مختلفة متغيرة. لكن تظل الكأس هي عينها ناجية من أي تغيير تستعيره من محتوياتها. فالحداثة ليست في الأفكار بقدر ما هي في الآلة الصانعة للأفكار. ومثل هذه البداهة لم تتوصل إلى كشفها أية طُفرة أيديولوجية أو سياسوية ادّعت تجديداً للبنى الثقافوية المتوارثة.
تحت وطأة مضاهاة الذات المستضعفة بالآخر المستقوي بتفوقه والمداهم، لم يكن ثمة فسحة معرفية تتيح للعقل أن يغدو موضوعاً مركزياً لاستفهامه لذاته أولاً. وبالتالي مثلما تجاهلت النهضةُ طرْحَ إشكالية العقل العربي كاستفهام لذاته أولاً، كذلك لم تأتها لحظةُ وعي، تدفعها إلى استطلاع العقل الغربي نفسه، وطريقة تعامله مع إمكاناته. فاقتصرت أفعال النقد على إنتاج حلقات متوالية من ثقافة المضاهاة، التي منعت في المحصلة تحقّق تلك القفزة النادرة من توالي تمسرحات المشاكلة وحدها، إلى الفعل المثاقِف، الذي من شأنه أن يكسر من حدية التقابل بين قطبي الثنائية: الشرق / الغرب. لم تكن تلك الثنائية قادرة على إنتاج أية جدلية معرفية بين قطبيها. فالمشاكلة تحبس التقابل في مرتبة التضاد العقيم، الذي بدوره يؤدي إلى الموقفين التقليديين: إما التسليم بطغيان الآخر والتماهي معه إلى درجة الانمحاء، وإما رفضه ومضاعفة التماهي مع الذات في موروثها المعهود خارج كل لحظة تاريخية راهنة. ما يجعل العقل عاجزاً عن إعادة تأسيس ذاته اختلافياً في آن واحد، عن كل من الموروث المكرور أو المجلوب المستعار، إِثر كل دورة أيديولوجية مستنفذة.
هذا العجز لا يصدر فقط عن ممانعة الظروف واشتداد قهرها الشامل والمتنوع للفرق المختلف، ومبادراته المستقلة، بل آتية كذلك، وفي أهم أسبابها، من فشل العقل نفسه في الإقرار بعقم أُوّاليته ذاتها، المحتكِرة لفعاليته النقدية، والمتمثلة في التشرد الصدفوي، والتنقل بين الأنظمة المعرفية كبدائل عن بعضها دون الفوز بتلك القفزة النوعية والاستثنائية خارج مسلسل البدائل، واكتشاف قانونها الأساسي والكلي: وهو نظام أنظمتها المعرفية، وذلك بالتصدي له وتفكيك ألغازه المستورة والمتوارية دائماً وراء تلك النقلات العبثية.
إنه العصر التنويري الذي لم تَلِدْه أبداً أزمانٌ التغيير الفكروي السياسوي، ولا تمكّنت مرة من صناعة البوصلة المشيرة إلى ملامحه المستحيلة. وما يمكن تسجيله في المحصلة البائسة للمشروع النهضوي ككل، التي تتنوع تسمياته دون أن تتحرر من خطاباته الأحادية، هو أن الخطر الحقيقي المداهم الذي ينبغي وصفه بالخطر الحضاري، هو أنه بات يُحدِق بإرادة التغيير نفسها ولا ينجم عن استعصاء موانعها الخارجية فحسب، فلم يبدّد أو يفقد المشروعُ النهضوي عصرَه التنويري وحده فقط، بل يكاد يفقد الشعور بهذا الفقدان نفسه

❊٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية