«لازم نعيش»

حجم الخط
23

يا عم محمد: والله العظيم لم أتجاهل رسالتك ولم أتعال عليها، وكل ما في الأمر أنني كنت وقت تلقيها مرهقا ومكسور النِفس، بعد أن فُجعت بوفاة أقرب وأحبّ أساتذتي، ليمضي عام وعشرة أشهر دون كتابة، لذلك لم يكن ممكناً حين أعاود الكتابة، ألا أبدأها بالرد على رسالتك التي اتهمتني بالتعالي عليها وعليك، ليس لتصحيح صورتي لديك، فلعلك تدرك أن رضا الناس كان في الأزمنة الهادئة غاية لا تُدرك، فكيف يطلبه عاقل في هذه الأزمنة الخماسينية التي يستسهل الناس فيها فش غلهم فيمن استطاعوا إليه سبيلاً، بل لأن رسالتك الهادئة على قصرها ظلت تشغلني طويلاً، كلما فكرت في مشاعر ومصائر ملايين المصريين الذين أيدوا الوضع القائم في مصر، منذ أن ركب عبد الفتاح السيسي السلطة، ليس لأنهم بالضرورة عشقوا طلعته البهية، أو أيقنوا بعبقريته الجليّة، بل لأنهم رغبوا في أن تنتهي حالة الخوف والغموض والقلق التي عاشوا فيها منذ لحظات يناير الأولى.
كنت أرى هؤلاء الكتلة الأهم من المصريين، والأكثر تأثيراً من كُتَل الأفاّقين وأصحاب المصالح وهواة التعريص المدفوع أو المجاني، وفي اعتقادي لم يكن لهؤلاء مشكلة حقيقية مع خلع ثورة يناير لمبارك، طالما استقرت البلد سريعاً واستعادت أموالها المنهوبة لتوزع على الجميع بالعدل، لم يكن لديهم رهان على الأصوات الثورية ليس لكراهيتهم الفطرية لها، بل لعدم امتلاكها قوة ملموسة حاسمة، لم يكن لديهم مشكلة في تصدر الإخوان والسلفيين والمجلس العسكري للمشهد، طالما سينجح هؤلاء معاً أو منفردين في تحقيق الاستقرار وإخراس أصوات المظاهرات المزعجة والموتّرة، ولما بدا لهم أن حكم الإخوان لن يكون جالباً للاستقرار، بل سيتسبب في مزيد من الأزمات، وساعدهم الإخوان بعدد من الحماقات والخطايا على تأكيد ذلك الانطباع، انفضوا عنهم حالمين بعودة حاكم شاكم مخلص مسيطر، وحين توسّموا ذلك في السيسي أيدوه وفوّضوه وحاربوا من أجله في الشوارع والمقاهي والميكروباصات ومواقع التواصل الاجتماعي.
يصعب أن ألخص بمنتهى الدقة وقائع سنوات حافلة في سطور قليلة، لكن رسالتك كانت أقدر على تلخيص موقف هذه الكتلة العريضة التي تنتمي إليها، حين قلت فيها: «باختصار إزاحة الجيش عن السياسة يلزمه وجود بديل فاعل وقادر على إدارة مصر، خاب أملنا في الإخوان، وخاب أملنا في تيارات الثورة ولازم نعيش». لا أظنك غيّرت رأيك بالكامل بعد كل ما جرى من كوارث وإخفاقات خلال العامين الماضيين. عندي من حسن الظن فيك ما يجعلني أفصلك عن زمرة المهاويس الذين يرفضون الاعتراف بوجود أي كوارث وإخفاقات، وإن اعترفوا ببعض ما يستحيل إنكاره، رأوا فيه نعمة مخفية الحكمة، كأمر سيدنا إبراهيم بذبح ابنه اسماعيل. بل أظنك قد ذقت الأمرّين بفعل السياسات الخرقاء، التي خسفت بمدخراتك الأرض، وزادت أيامك ولياليك أزمات وديوناً وهموماً، إلا أني لا أظنك تبادر إلى إعلان معارضتك للسيسي، أو تؤيد الإطاحة به، فأنت في ظني لم تذكر اسم السيسي في ما كتبته، لأنك أصبحت تدرك أنه لا يمثل شخصه فقط، بل يمثل تحالفاً من جنرالات المؤسسة العسكرية ولواءات المخابرات والشرطة ومستشاري القضاء والأذرع الإقتصادية والدلاديل الإعلامية، وهذا التحالف المدعوم من قوى إقليمية ودولية، يمكن أن يفتك بشخص السيسي نفسه لو وقف ضد مصالح هذا التحالف، وربما استبدله بغيره على الفور، ولعلك تدرك أن محاولة التخلص الكامل من هذا التحالف ستكلف أثمانا باهظة لن تقوى البلد المهترئة على دفعها ولن يساعدك على أن تعيش، وهو ما يدفع رموز هذا التحالف الحاكم وأبواقه للحديث الدائم عما جرى في سوريا وليبيا واليمن بوصفه عبرة وعظة، فضلا عن الاستغلال المستمر للجرائم الإرهابية كوقود يجدد إشعال نيران الخوف من المجهول، كلما قاربت رياح السخط على إطفائها.
نعم، قد يجادلك إخواني ساخط في صحة شعورك بالخيبة من الإخوان، لأنهم لم ينالوا فرصة لائقة للحكم، وقد أحاججك في شعورك بالخيبة من تيارات الثورة، التي تعرضت لحملات قمعية وتشويهية شارك فيها الإخوان أنفسهم خلال أيام نفوذهم، لكن كل هذا ستتضاءل قيمته أمام آخر كلمتين ختمت بهما رسالتك: «لازم نعيش»، وهو ما تدركه سلطة السيسي جيدا، ولذلك لا تمل من تكرار الرسائل الواضحة «القارحة» للمصريين بأن مجرد بقاءهم على قيد الحياة، نعمة يجب أن يشكروا السيسي عليها، ولذلك يجري الضرب بأرجلٍ من حديد في محاشم وعلى أدمغة من يحاول أن يثبت للناس أن هناك بدائل عملية، غير مجرد بقاءهم على قيد الحياة، يستوي في ذلك أن يكون من رموز نظام مبارك، أو من رموز الثورة على مبارك، ولذلك تُستحكم قبضة التكويش على وسائل الإعلام لكي لا يتسرب منها بصيص وعي أو نقد، ولذلك تتم «تربية» الكتاب والإعلاميين والسياسيين الذين سبق أن باركوا قمع السيسي، وتتم مساومتهم على حياتهم ومصالحهم، ليصبح أمامهم إما التواري عن المشهد، أو أداء ما يطلب منهم بكل رُخص وفجاجة، ولذلك تستمر وطأة القمع الممنهج الذي يحسبه البعض عشوائياً من فرط غباوته وعناده، ولذلك يعود النظام ـ بعد غشومية دونالد ترامب ـ إلى لعبة التذاكي في استخدام ثنائية الحنجورية العلنية والانبطاح السري التي ابتدعها نظام مبارك من قبله، وأظنك وسط كل هذه المعجنة، تقرر أحيانا متابعة ما يجري على أمل أن تجد ما يبل ريقك، وتُفضِّل في أحيان أخرى الهروب نحو ما يفصلك عن الواقع، وأنت تردد لنفسك في الحالتين: «لازم نعيش».
يا عم محمد: لست من هواة الاستعلاء الأحمق، لأحاضرك عن فضائل الحرية التي لا يطيب بدونها العيش أياً كان الثمن، ولست من محترفي التنجيم السياسي، لأجزم باقتراب سقوط نظام يتصور دوام بقائه بفعل البطش، لتشرق من بعده شمس الحرية والعدالة، ولم أفقد ضميري بعد لأطالبك بدفع أثمانٍ لا طاقة لك بها، ولا أشعر أبدا بأفضلية متوهمة عليك، وعلى عكس ما تظن، سأسعد لو كان اختيارك صائباً وتمكنت من العيش فعلاً. وللأسف إن سألتني عن المستقبل القريب، لن أكذب عليك، ليست لدي إجابات نموذجية قاطعة، وأحسد الممتلئين باليقين في قدرتهم على صُنع عالم أفضل، وتشغلني أسئلة مربكة عن جدوى الديمقراطية الإنتخابية إذا لم تضمن عدم استبداد الواصلين إلى الحكم بمعارضيهم، وعن قدرة المواطن العادي ـ في عالم تتحكم فيه الماكينات الإعلامية الممولة ـ على القيام باختيارات سياسية لا تتحكم فيها غرائزه ومخاوفه.
لكنني برغم كل ما أعيشه من حيرة وأسى، أفكر أن هذه الفترة العصيبة التي يعيشها العالم، ربما كانت فرصة أخيرة، لكي نستعيد تعرفنا على حقائق جرّبتها شعوب كثيرة قبلنا، لكنها غابت عنّا، تحت وطأة السعي المتوهّم للحسم، تحت رغبتنا الملحة في أن نكون جزءاً من كُلٍ أكبر ننتمي إليه. فرصة لكي ندرك أنه ربما لا تكون الاختيارات الأخلاقية في السياسة مثالية بلهاء، بل هي الطريقة الواقعية لاستمرار الحياة بأقل خسائر ممكنة، فإذا لم نكن قادرين على دفع ثمنها كمواطنين، فلسنا مجبرين على التواطؤ العلني مع القتلة والجلادين، وإذا لم نستطع إيقاف الظلم والإعدامات والتصفيات والإخفاءات القسرية والتلاعب بالعدالة، فلسنا مجبرين على تبرير ذلك والاحتفاء العلني به، حتى وأن وقع على من نكرهه.
ربما ندرك يا عم محمد تحت وطأة الواقع الأليم، أن استسهال مباركة الوضع القائم لعلّنا نعيش، ليس سوى مساهمة خرقاء في صناعة أسباب جديدة لموتٍ أكيد، سيجد فينا هدفاً أسهل من جلادينا. ربما سنبقى طويلاً عائمين ومهددين بالغرق في الوقت نفسه. ربما تنجينا جينات التعايش الأزلي مع الفشل التي ورثناها عن أجدادنا. ربما كان علينا قبل كل شيء التوقف عن تصورنا أن تغيير الواقع سهل، لأن ذلك التصور دفعنا دائما نحو مسارات متسرعة خاطئة. ربما كان التغيير يتطلب أولاً أن نواجه أنفسنا بحقائق الأشياء، مهما بدت كئيبة ومريرة. ربما كانت المشكلة في إيماننا الدائم بنون الجماعة مع أنها تخفي خلفها انحيازات فردية ضيقة الأفق. ربما كانت بداية الطريق اللازم لكي نعيش، ألا نتصالح مع العيش على جثث ودموع ومظالم غيرنا، حتى ولو لم يوافقنا الجميع على ذلك الاختيار الصعب.
يا عم محمد: سلام الله عليك وعلى مصر البعيدة.

«لازم نعيش»

بلال فضل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رشا من مصر:

    حمد الله على السلامة

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية