حوار منى حسن: يرى الشاعر الكويتي رجا القحطاني أن الجوائز الشعرية هي وقود ثقة يخبرنا أن المسار الشعري مازال ممتدا وقابلا للاستمرار. وأن الشعر بنبضه الإنساني قد يكون هو الحل الوحيد في زمن المتاجرين بالدِّين والراقصين على جراح الضحايا.
والقحطاني شاعر كويتي يؤمن بالشعر العربي كنقطة وصل بين العرب، تتوحد عنده أهدافهم ورؤاهم. وهو من جيل الشعراء الشباب الذين واصلوا سقيا نبتة الشعر العربي في الكويت وانحازوا له. تخرج في كلية الآداب قسم اللغة العربية من جامعة الكويت، ونال عضوية رابطة الأدباء الكويتيين، وحاز في مسيرته الشعرية عدة جوائز محلية وعربية أبرزها جائزة الدولة التشجيعية في مجال الشعر عن ديوانه «سماوات لمطر أخير» 2016، والمركز الأول في مسابقة مبرة البغلي في الشعر 2016.
عمل محررا لصفحات الشعر في جريدة «الرأي» الكويتية لثلاث سنوات، وشارك في العديد من الفعاليات الأدبية والأمسيات الشعرية داخل وخارج الكويت. صدر له ديوانان من الشعر الفصيح: «من وحي المتنبي»، و»سماوات لمطر أخير». التقيناه عبر أثير مضمخ بالشفافية فكان هذا الحوار:
■ يقول جبران: «لا أحد سواك يعلم حقا من أنت»، فهلا أخبرتنا من أنت؟
□ أنا العربيُّ عرقا لا أضحّي بطيب عقيدتي لو طاب عرقُ كنت في مقتبل العمر أؤمن بمبادئ القومية العربية، وأكثر قصائدي تعانق القيم العروبية وأحلام النصر في فلسطين حتى اكتشفت كذبة القوميين (باستثناء البعض) فكانوا «قومجية» يتكسبون من وراءهذا الشعار الكبير، ولا تهمهم إلا مصالحهم الخاصة فتاجروا بالقضايا العربية إلى حد الاشمئزاز، وما حدث لبلدي الكويت من غزو ومعاناة شديدة كان بمثابة الصدمة الكبرى، ليس على مستوى انهيار المثال فحسب، بل على مستوى المعاناة الشخصية. لذا فأنا لا أتبرأ من العروبة ذاتها، فهي بكينونتها العامة فكرة سامية، وهي أولى خطوات الوحدة السياسية، لكنني أبرأ من العروبيين المزيفين. ومن هنا فإسلاميتي قبل عروبتي، وإن كنت وما زلت منفتح الفكر على الثقافات الأخرى.
■ حدثنا عن بداياتك، بمشقاتها وعثراتها، وأولى الخطوات في طريق الكتابة؟
□ ربما تقصدين بداية البدايات، بلا تصنع، مازلت أرى أن من الأفضل ألا أشعر بأنني حققت إنجازا كبيرا في الشعر، كي أستمر في تطوير لغتي الشعرية. ما رأيك بشاب لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر يضحي بجزء كبير من وقت اللهو مع أقرانه ليذهب بصورة شبه منتظمة إلى المكتبة العامة في منطقته. يقرأ بشغف وفضول دواوين الشعراء القدماء والمعاصرين، التي كانت تزدحم بها رفوف المكتبة. لم يقف الأمر عند القراءة، حاول هذا الشاب الصغير كتابة شيء توهمه شعرا حقيقياّ. لم يجرؤ على أن يستمزج آراء الآخرين إزاء كتاباته شبه الفوضوية، أو لم يكن حوله من يدرك حقيقة الشعر حتى يرشده إلى الطريق الأصوب. ظل يكتب ويشطب، يخطئ كثيرا في الوزن ودقائق النحو. إلى أن أخرجت شجرة القريحة ثمرة مكتملة النضج القصيدة، على الأقل من الناحية الفنية.
معلمو هذا الشاب كثر، لم يلتق بهم شخصياّ، إنما صافحهم وتعرف عليهم من خلال قصائدهم العملاقة، ومن خلال مراحل زمنية مختلفة أولهم المتنبي، مرورا بشوقي ونزار وانتهاء وليست النهاية بمحمود درويش.
■ لمن قرأ رجا القحطاني من الشعراء؟ وماذا عن تأثرك بجيل الرواد في الكويت؟
□ كما ذكرت آنفا يعجبني من القدماء المتنبي وأسميت مجموعتي الأولى «من وحي المتنبي»، هو عنوان لقصيدة أناجي بها أبا الطيب في إسقاطات سياسية وإنسانية. وأعشق شعر أحمد شوقي كان مغايرا لشعراء زمنه، من دون أن أقلل من حافظ الذي قرأت له الكثير. ومن شعراء الماضي القريب يدهشني نزار ويدهشني أكثر محمود درويش ولا أستسيغ كثيرا شعر أدونيس، رغم أنه شاعر عملاق من دون شك. من زملائي المعاصرين يعجبني حسن شهاب وعمر عناز وأحمد بخيت ومنى حسن وتميم البرغوثي، من شعراء الكويت يعجبني شعر خليفة الوقيان وهو من شعرائنا الرموز، واستفدت كثيرا من قراءة دواوينه وكتبه النقدية وآرائه وهو الذي شجعني على الاستمرار في مغامرة الشعر، وكنت حينها قد تجاوزت العشرين من العمر وكانت لديّ حصيلة شعرية، أو هكذا ظننتها، «شعرية» مستوفاة الشروط الفنية «الوزن، القافية» لكنها تحتاج إلى الكثير من النضج الرؤيوي.
■ يقول باوند: لا جدوى من محاولة فعل شيء قد فعله آخر بأفضل طريقة يمكن القيام بها، قم بشيء مختلف»، هل ترى أنك وجدت صوتك الشعري الخاص والمختلف؟
□ دعيني أجد ذاتي أولا. في غمرة الحروب الأهلية المقيتة وتمزق الوطن العربي تتفجر حمم المخاوف وتصرخ أعاصير اليأس وتظلم مشارف المستقبل. وينعكس ذلك كله على إحساس الشاعر الذي هو جزء من المجتمع يشاطره آماله وآلامه. هل يتمكن الشعر من إعادة بناء المجتمع العربي فيخمد نار الحروب والطائفية البغيضة، قد يحدث ذلك. يكفي أن قصيدتي انعكاس لتفاعلي الوجداني حتى أراها صوتا خاصا، أو هكذا أتمنى أن تكون.
■ هل ما زال في إمكان الأدب أن يشكل لصاحبه حياة بديلة؟
□ هو رئة ثالثة أتنفس بها.
■ حصدت عدة جوائز شعرية مهمة في الكويت في مسيرتك، فماذا عنى لك ذلك؟
□ هذه الجوائز تعني لي بأن لكل مجتهد نصيب. فرحت جدا بأول جائزة شعرية أفوز بها عام 1985 وكانت القصيدة عن الشهيد المصري سليمان خاطر .الجائزة مهمة في قيمتها المادية لكن مساحة أهميتها أوسع من الجانب المعنوي. هي وقود ثقة أن المسار الشعري مازال ممتدا وقابلا للاستمرار نحو منارات الإنجاز.
■ «سماوات لمطر أخير»، لم جعلته أخيرا؟
□ قد يختلف معي الآخرون في الرأي إلا أنني أرى أن كتابة الشعر عملية وجدانية شديدة الصعوبة، لا أتحدث عن انعدام القدرة أو العجز أو التكلف. لكن ولادة القصيدة من رحم القريحة أمر لا يستهان به. فكأنما الشاعر يتصور أنها الولادة الشعرية الأخيرة «مطر أخير».
■ يقول المنصف الوهايبي: إن «الشعر العربي هو طريقة في المزاوجة بين إيقاع الزمان وإيقاع المكان»، فإلى أي مدى ينطبق هذا الوصف على قصيدتك؟
□ قصيدتي لا تعتمد على معايير فلسفية أثناء تشكلها فهي معجونة بأبعاد اللحظة وكينونة الإحساس بغض النظر عن إيقاع الزمان.
■ ماذا عن حركة النقد في الكويت، هل هي على مواكبة مع المنجز الأدبي؟
□ أصدقك القول إن الحركة النقدية في الكويت لم تبرز نقادا لهم أعمال متميزة ومكانة مرموقة بين النقاد العرب. هناك اجتهادات من بعض الأقلام لكنها لا ترتقي إلى النقد الحقيقي، أي تناول النصوص الأدبية نقدا وتحليلا واستنتاجا. لكن في المقابل لدينا كتاب متميزون في رصد الحركة الأدبية في الكويت من الناحية التاريخية. وبعضهم شعراء مبدعون أمثال خليفة الوقيان وهو شاعر كبير، وإبراهيم الشطي، والراحل خالد الزيد، وغيرهم. عرفنا من خلال مؤلفاتهم بداية الثقافة والأدب في الكويت منذ القرن الثامن عشر.
■ هل تؤيد الآراء التي تختزل الشعر في إيقاعه؟
□ الشعر كما أشرت آنفا لا يخضع لقوانين معينة ولا يصلح أن يوضع في قوالب اشتراطية محددة، قد يكون إيقاعيّا يتشح بالفيض الموسيقي، لكنه يأتي نمطيا تقريريا لا يلامس مشاعر المتلقي. وقد يتخلص الشعر من الموسيقى الظاهرة فيأتي مدهشا، محركا للحس بموسيقاه الداخلية «تناغم الجمل التعبيرية».
■ الصورة، المعنى والإيقاع، أيها يختزل الآخر في قصيدتك ولماذا؟
□ الشعر صورة تنطوي على المحفزات الأخرى من معنى وإيقاع، وهكذا أبني قصيدتي.
■ في ظل التحولات المصيرية الكبيرة كيف ترى واقع الشعر المعاصر؟
□ رغم أن الشعر طائر حر يحلق في فضاءات الحرية، ولا ترتبط قيمته الإبداعية بحالة محددة أيا كانت هذه الحالة، إلا أن الشعر فضلا عن أنه متنفس وجداني للإنسان في حياة متخمة بالجفاء البشري والصخب المحموم، هو مرشح بقوة لأن يلامس وعي الإنسان لينتشله من نيران التطرف والجنون البشري المعاصر إلى واحات السلام والاستقرار. ستواجهه عقبات الواقع المؤلم الذي نكابده في عالمنا العربي. لكن قد يكون الشعر بنبضه الإنساني هو الحل الوحيد في زمن المتاجرين بالدِّين والراقصين على جراح الضحايا والمؤمنين بحوار القنابل، لكن ما نفترضه تفاؤلا يختلف عما نعانيه، وهنا مكمن الإشكالية.
■ ماذا عن قراءتك للمشهد الشعري المعاصر في الكويت، وهل تؤيد الصوت القائل إن «البدون» يتصدرون المشهد الشعري الكويتي؟
□ لدينا شعراء حقيقيون من الجنسين يكتبون الشعر بوعي واحترافية. ربما لم تصل أصواتهم إلى العالم العربي لأسباب عديدة، منها ضعف التواصل وقلة الملتقيات الشعرية، لكنهم يقدمون نتاجاتهم في أمسيات شعرية محلية، ويمكن التعرف على عطاءاتهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. أما البدون – رغم أني لا أحبذ هذا المسمى واعتبرهم كويتيين- هم أحبائي ولهم إسهامات قيمة في المجال الأدبي، والشعر لغة عالمية ولا يعترف بالانحياز الفئوي.