تنغمر الروائية المصرية، سهير المصادفة، في عوالم وأسرار الأبعاد الميثولوجية المصرية، وما تنطوي عليه هذه الميثولوجيا من حكايا، وأساطير وخرافات ومدوّنات كتابية، وأخرى شفاهية تتناقلها العامة من البسطاء، أولئك الذين يؤمنون بالسحر والجن والمستور والمتواري عن أعين البشر، مُتعللين بوجود قوى مهيمنة لا ترى، تتحرك في الخفاء وتعيش في الورى، مؤبّدة وخالدة وأزلية، لها وصاياها وحكمها وتراثها وأسفارها الرؤيوية، بين الماضي والحاضر والمستقبل. ولكونها تحمل سرّ الوجود فهي أبداً تعيش بيننا، ولكنها محمية بقوة الأزل من الرؤية، ولا سيِّما الرؤية البشرية، تلك التي لو رأتها وشهدت أعمالها وسياق حياتها المتواري وراء الأستار، لبطُلَ فعلها، ذلك أنها تحيا في الدُجنَّات وسط عالم الظلمة. إنه العالم الآخر الذي يعيش فيه الخالد والأبدي والمختوم بالميسم الأزلي، مثل الفراعنة وسلالاتهم الكثيرة والمنتشرة فوق الأرض المصرية. فهم الملوك الذين لا يموتون، الملوك المحمولون في الرؤى والأخيلة والأزمنة التي تحيا في الظل ولا تتداركها النهايات، وإذا ما فكر أحد من الخلائق بفض أسرارهم وكشف كنوزهم ومقابرهم وقصورهم ومسلاتهم ومسرحهم الذي كانوا يتحركون عليه، فستلاحقه حسب المنظور الشعبي والمفهوم التراثي، الشفاهي وتقاليده الموروثة، لعنة الفراعنة. ولسوف لن ينجو، ولسوف يُصاب بالعته وبمس من الجنون والتلاشي الإنساني، لمن تسول له نفسه العبث بمخلفات وأرواح ومصير الملوك الفراعنة.
إنطلاقاً من هذه المفهومة، وعبر هذا المنظور المتوارث لدى المصريين المتولهين بملوكهم القدامى، ملوك الإهرامات والتعاليم الأولى، تبني الروائية المصرية سهير المصادفة عملها المركب والمتشابك والحبيك، تبنيه مع أزمة غابرة وحالية، وأمكنة معلومة وحاضرة في راهننا، ومع شخوص فاعلين في النص المكتوب عن بلدة «ميت رهينة»، وهي من أعمال محافظة أسوان التي تزدهر بالتراث الفرعوني وبالمقابر الملكية، وبالتراث والكنوز المصرية القديمة.
يتضافر في هذا العمل الجديد للروائية المصرية سهير المصادفة، التي أصدرت العديد من الروايات، عاملان فنيان، هما المتخيل والواقعي، وتحاول عبر هذين الإقنومين السعي الى تشيِّيد عالمها الروائي، فالمُتخيل هنا يساعد الرؤيا على الفتح والبناء والكشف، بينما الواقع يساعد على الإتيان بالدلالة الفاعلة وبالترسيمة الرمزية، وبالشخوص الناهضين من طين الواقع وحرارته الساخنة، حرارة الحياة وما تجود به من شخصيات تعبر أفق هذا الواقع، وهي ترسم مصيرها الحار فوق أرض موّارة بالتفاصيل والمشاهد، وبالتحولات اليومية والتاريخية.
تربط المصادفة عبر سلك متقن ومرهف ودقيق، كل تلك التقلبات والتواريخ الفاعلة في الزمان والمكان المصريين، ومن ثَّمَّ، وهنا يكمن الأهم، تسعى إلى ربط كل ذلك بالزمن الحالي، زمن التحولات في الروح المصرية، عبر تشكلات أزمنتها الجديدة، تلك المتمثلة في الثورات التي سعت الناس والعامة بكل مشاربها لتفجيرها، بغية رسم مسرى آخر في حياة المصريين. ولذا فنحن نجد أنفسنا أمام عالم روائي قائم على عدة ثيمات وعلى عدة تمفصلات، تمظهرتْ في تحرُّك الشخوص الروائية في العمل الجديد، الذي يمتح من العالم السفلي للواقع المصري، حيث آلامه وشجونه وأنكساراته ونهوضه كذلك، غير ان جديدها هذا يتجوهر في بؤرة واحدة، ألا وهي سرقة الكنوز المصرية والاحتيال في طرق نيلها والاستيلاء عليها. وهي فكرة قديمة وتاريخية وليست وليدة اللحظة، بل هي عمل دائب ظهر في أعمال روائية كثيرة منذ بدايات نجيب محفوظ وتسليطه الضوء على الخريطة الفرعونية وعلى تراثها العالمي، ناهيك عن وتيرة الأفلام السينمائية التي عملتْ حول هذه الفكرة.
غير أن المصادفة تتناول هذه الفكرة، أو التجربة، بطريقة مختلفة ومغايرة، لتقدِّم نصَّها هي، نصها المجبول من واقع كتابتها المتميزة، والمجدول بعناية مع عدة عناصر تعتمد الحكاية والدهشة والنزوع البوليسي المتمثل بمعمار الحبكة ومحاولة الوصول إلى فك شفرتها ومعرفة القاتل. كل ذلك يحدث في سياق فني لا يعتمد الغرائبية أو النزعة البوليسية الصرفة، بل يعتمد على الحدس الحار وغليان المشاعر وتصاعد وتيرة الشك لكشف المُهرِّب والسارق والمشتري والمُتاجر بالكنوز الأثرية وقطع الآثار، عبر منافذ لا تحصى، وطرق ووسائل ومخارج عديدة وجديدة في كل مرة.
من هنا تثبت المصادفة أنها ولجتْ نسقاً آخر لروايتها، وهي بذلك، أي الرواية، لا تشبه أي عمل آخر سوى المماثلة في الشكل العام لمسألة سرقة الآثار والمتاجرة بها وتهريبها وبيعها في السوق السوداء.
توظف سهير المصادفة المكان كمركز رئيس في الرواية، والبؤرة التي تدور حولها وفيها الأحداث الجسام، عبر شخصيات مؤثرة وفاعلة في عمق مسردها الروائي، وفي تلافيف الوحدات الحكائية التي تحتل المتن والهامش فيها، فالمتن هو المكان الطاغي على النص الروائي، والهامش هو الأزمنة المتعاقبة التي تسند النص وتحميه من الانزلاق في الزوائد والحكي الفائض على سطح النص، وآية ذلك تتجلى في انجدال عاملي الزمان والمكان اللذين حميا بعضهما من التورُّم الكلامي والانثيالات الوصفية والعاطفية، ثم البَرَم الرومانتيكي الذي يستدعي الحشو أحياناً، عبر انجراف اللا وعي في التوغل العرفاني للعشق في بعض السرود الروائية، إلا في بعض الحالات التي تستدعي ذلك عبر التوله والحب والهيمان بالآخر، كما لاحظنا ذلك في حالة هاجر وحبها لأدهم الشواف التي أحبته، وحسب تعبير الرواية كـ «حب الكلب لصاحبه»، وقد نعثر على تلك الفيوض الوصفية في الكثير من الأعمال العربية التي تحاول تسمين العمل الروائي وضخ المزيد من الصفحات فيه، من أجل غاية ما، أو من أجل لفت النظر إلى الجهد المبذول فيه، متناسين «قوت الأرض» لأندريه جيد كم كانت قصيرة، وكذلك أعمال مواطنه دو سانت اكزوبري صاحب «بريد الجنوب»، وأعمال الألماني هرمن هسه، وكذلك نجد ذلك التقشف الكتابي في أعمال سوزكند صاحب رواية «عطر» ولا سيما في عمله الصغير «الحمامة» و»صحراء التتار» تحفة الإيطالي بوتزاني وغيرهم الكثير، كبهاء طاهر في روايته «واحة الغروب» وفؤاد التكرلي في رواية «خاتم الرمل» ورواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح.
أيضاً تبدو لي رواية «لعنة ميت رهينة» رواية مضغوطة، وزاهدة في الحكي من أجل الحكي، كون أبطال الرواية لهم أدوارهم المرسومة والمدروسة والتي لا تستطيع أن تفلت من زمام الصرامة ومنظومة دائرتها التي تدور فيها.
تدور الرواية ووفق الهيمنة المكانية عليها، في قرية «ميت رهينة» تلك القرية البسيطة والفلاحية والمسكونة بالكنوز الفرعونية يوم تتعرض إلى شيوع حالة من القتل والاختفاء عالي الوتيرة لأبنائها، يوم «تهامس الأهالي فيما بينهم عن الاختفاءات الغريبة لبعض ناس ميت رهينة، وأصبحوا فجأة يتابعون الجرائد اليومية، لعلهم يجدون بها ما يحدث في قريتهم، قرروا الا يخرجوا ليلاً أبداً لأي سبب من الأسباب، وأن يرسل شبابهم المتعلمون إلى مواقع التواصل الاجتماعي استغاثات حول حوادث الاختفاء التي يرونها غرائبية».
ليس ثمة شخصية مركزية، أو بطل يتمحور حوله العمل، بل في الرواية ثمة شخصيات لافتة وتحس أنها هي التي ستقود البناء الروائي إلى آخره، ولكنك حين توغل في بعض الصفحات ستظهر لديك شخصيات أُخرى، واحدة تزيح الأخرى، أو تحل بديلاً منها لحين، حتى تظهر الشخصية الأخرى المتنفذة واللاعبة والنشطة، لحظتها يُخيَّل اليك أنها هي الأخرى من ستمسك بزمام الأمور حتى السطور الأخيرة، فعلى سبيل المثال شخصية أدهم الشواف القادم من الحجاز، إلى ميت رهينة، وهو الشاعر التقليدي، غير المؤثر وقليل الموهبة، تظن حين يبدأ مسار الرواية أنه سيكون المتحكم بفصول الرواية كلها، كونه يبرز بقوة في الفصول الأولى، ولكنه بالتدريج سيكبر ويموت وهو في بداية الفصل الأول، فالشواف أتى إلى «ميت رهينة» هكذا بالصدفة، فهو تاجر مقاولات، لديه شركة يعمل فيها الكثير ومن جنسيات مختلفة بينهم مصريون، جاء في زيارة سياحية، وحين وجد «ميت رهينة» أحبها لحظة وقوعه على جمال هاجر الذي تتحدث كل نساء القرية عنه. لقد قاد عبد الجبار أيوب الشواف إلى هاجر بطريقة معينة، حتى وقع الشواف في حبها وحب القرية، فبنى فيها قصراً وطلب يد هاجر من أبيها، أراد أن يعيش تجارب حياتية كثيرة، من أجل كتابة الشعر والتفرّغ له، ومن هنا يشتري أرضاً ليبنيها، ثم يرسل والدها إلى الحج. القرية ستتطور لاحقاً وستحفل بالنشاط السياحي وبفندق وبقاليات جديدة، حتى عبد الجبار أيوب سوف يغتني من خلال السطو على الآثار، تلك التي سوف يبيعها في بور سعيد ليصبح ذا شهرة ومال وتجارة واسعة. كنا نخال أيضا أنه هو من سيحتل المشهد الروائي، لكنّ الزمن سوف يمضي ويكبر الجميع، فيموت أدهم الشواف وعبد الجبار ايوب ولطفي مرجيحة والد هاجر بعد عودته من الحج مباشرة، تلد هاجر ابنة هي ليلى، ستدرس في الجامعة الأمريكية وتعيش حياة حرة وعلى الموضة، ستحب أمريكياً، وتهاجر معه ومن ثم سيطلقها لتلد له ابنة ستسميها نور، والأخيرة هذه هي من سيقود العمل الروائي المثير إلى آخره، كونها حفيدة هاجر والشواف وصديقة لصلاح الذي يدرس معها، وهو ابن منطقتها. لها مواصفات خارقة وغير قابلة للتصديق، من خلال تصرّفاتها وتحوّلاتها الدراماتيكية في الحياة، وبما تحمله في عمقها من قوة سحرية وأخرى شريرة، لتفعل ما تفعل من خلالها بأبناء قرية «ميت رهينة».
هكذا وبالتدريج يتم اختفاء عبد الجبار أيوب التاجر الكبير، ويختفي كذلك الشيخ الطوبجي والأستاذ مور وابن بهانة وأرملة عبد الجبار وغيرهم من أبناء القرية، الذين يظهرون في الرواية ككومبارس، أو شخوص ترمم المشهد وتكمله وتملأه بالأحداث، فقارئ رواية «لعنة ميت رهينة» لا يستطيع مجاراة الشخوص الثانويين، كونهم بلا ملامح إلى حد ما، ولكن نور التي تهيمن على بقية المشهد الروائي بعد غياب أمها ليلى ودخول جدتها هاجر في الشيخوخة والخرف، يهنأ الجو لها، فهذه التي سكنتها روح شريرة وذكية منذ صغرها، هي التي ستسيطر على خواتيم الرواية، ومعها صلاح وداليا خطيبته التي تحوك لها نور الوقيعة تلو الأخرى، فهما اللذان سيكشفان سر نور التي تقتل ضحاياها بمسدس جدها الشواف، وفي هذه الأثناء سيتم أيضاً من قبل صلاح وداليا اكتشاف الباب السري الذي أقامه أدهم الشواف في بيته خلف المكتبة، والمؤدي إلى المقبرة الفرعونية في القصر الذي بناه عمار المصري الذي صمم القصر البديع والمدهش، ولكي لا يُعطي المهندس سرّ تصميم القصر إلى أحد غيره، يقتله الشواف ليدفنه خلف الباب السري، وهنا الرواية تذكر بجزاء سنَّمار ذلك المهندس الشهير الذي قتل بهذه الطريقة، كما تقول الحكاية التاريخية.
سهير المصادفة: «لعنة ميت رهينة»
الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2017
271 صفحة.
هاشم شفيق