للتذكير لا التشهير

حجم الخط
1

أذكر مرة كنت أتحدث فيها مع مفاوض فلسطيني كبير وسألته السؤال الذي لا يزال يسأل حتى الآن من حوالي 20 عاما «ما أنتم فاعلون للتصدي للإجراءات الصهيونية التهويدية في القدس والضفة، وما هي مخططاتكم لمواجهة الجمود السياسي والانتهاكات الإسرائيلية على صعيد البناء الاستيطاني وأعمال القتل والاقتحامات والأسرى ألخ؟».. جاء جوابه ساخرا: «سنصدر التعليمات لطائراتنا ومدافعنا لقصف تل أبيب».
هذه الجملة بمضامينها الكثيرة والخطيرة، تتحدث عن المأزق الذي وضعت فيه القيادة الفلسطينية نفسها، في العقد الأخير من القرن الماضي وعجزها في النصف الثاني من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وهو المأزق نفسه الذي عجزت عن الخروج منه بعد كل هذه السنين.. مع فارق غير بسيط وهو أن الأوضاع ازدادت سوءا بل تندفع وبسرعة نحو الهاوية إذا ما تداركت هذه القيادة الأمر.
فتهويد القدس الشرقية سائر على قدم وساق وبوتيرة أعلى وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع… عملية تهويد ممنهجة تشارف على نهاياتها باطباق الخناق عليها من جميع الجهات وفصلها التام عن بقية الضفة الغربية واخلاء ما يمكن اخلاؤه من أهلها وسرقة البيوت عبر سماسرة فلسطينيين وفرض الضرائب الباهظة، والعمل على أسرلة مناهج التعليم في المدارس الفلسطينية والآن نشر مزيد من مراكز الشرطة في الأحياء العربية.
وعلى صعيد الحرم القدسي الشريف ستشهد المرحلة المقبلة مزيدا من الاقتحامات، ويتوقع ان يكون مصيره كمصير الحرم الابراهيمي في مدينة الخليل جنوب الضفة. فبعد فرض التقسيم الزماني، سيلحق به التقسيم المكاني.. وربما يمنع المسلمون من رفع الآذان فيه كما في الحرم الابراهيمي قبل ان يمنعوهم عنه على الاطلاق.
وللتذكير فقط فان الحرم القدسي يقع تحت مسؤولية الأردن، وها هي شرطة الاحتلال ورغم تعهدات حكومة نتنياهو بالابقاء على الوضع الراهن، ولا أحد قادر ان يحدد ما هية هذا الوضع؟ تتدخل حتى في أعمال الصيانة في مصلى قبة الصخرة واعتقلت رئيس اللجنة وعددا من العاملين على خلفية هذه الأعمال. وتشترط الحصول على أذون منها ومن سلطة الآثار للقيام بأي أعمال ترميم. واقتحم طاقم من سلطة آثار الاحتلال الأقصى وهدد حراسه «مكانكم هنا مؤقت» وما تحمله هذه الكلمات من معان خطيرة، تهديد لا يأتي من فراغ كما كل تهديدات سلطات الاحتلال بل جس للنبض وردود الأفعال، للخطوة التالية.
أما على صعيد الضفة خاصة المناطق المصنفة «ج»، وهي المناطق التي تخضع أمنيا وإداريا لسلطات الاحتلال بموجب اتفاق اوسلو المشؤوم، وتمثل 60٪ من أراضي الضفة، فتهويدها أيضا قائم بوتيرة متسارعة بالمصادقة على مزيد من البناء الاستيطاني ومصادرة الأراضي وتفريغها من أهلها الذين أصبحوا يمثلون الأقلية، ولا يزيد عدد الفلسطينيين في هذه المناطق عن 50 ألفا مقارنة بمئات آلاف المستوطنين، عبر حرمانهم من مقومات الحياة وهدم المنازل وعدم توفير المياه ناهيك عن تدمير محاصيلهم وتجويع مواشيهم، وحتى لو قرر هؤلاء البقاء على أرضهم فان إسرائيل لن «تغلب بهم» مقابل ضم الأرض، ما يعني القضاء وإلى الأبد على أمل الدولة الفلسطينية.
هذا هو السيناريو الأسوأ والنتيجة الحتمية التي نسرع الخطى نحوها إذا ما بقي حالنا على ما عليه وإذا ما استمرت القيادة في سياستها ونهجها المتواصل منذ قيامها، هذا النهج الذي أثبت فشله المرة تلو المرة. لم تحاول ولو مرة إجراء أي تغيير في الوجوه والعقول التي تحجرت وتكلست ولم تعد قادرة على العطاء هذا إذا أحسن الظن بها (معدل عمر عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة يزيد عن السبعين عاما).
وجوه ملت الناس من رؤيتها وشخصيات لا تكل ولا تمل من تكرار نفسها يوما بعد يوم وعاما بعد عام وحتى عقدا بعد عقد، «القدس خط أحمر لن نسمح بتجاوزه؟ نطالب المجتمع الدولي بالتحرك فورا لوقف الإجراءات الاحتلالية… مخطط الاحتلال لبناء وحدات استيطانية يأتي في إطار حسم موضوع تهويد المدينة بعيداً عن المفاوضات.. دولة الاحتلال تدفع بالأمور نحو الأسوأ (فما هو الأسوأ الذي تتحدثون عنه) بتشجيعها للاستيطان (ألم تزداد وتيرة ذلك في عصر السلام)… الخارجية ستعمل لوضع خطة لمواجهة سياسة «الأسرلة» (بعد مرور 22 عاما على قيام السلطة تتذكر بوضع خطة!!)… وزارة الخارجية تدين (أهلا يا إدانة) مشروع بناء وحدة استيطانية على أراضي بيت حنينا ومصادرة قطعة أرض في حي جبل المكبر بهدف انشاء كنيس وحمام تطهير للمستوطنة المقامة على أراضي الحي (وما الجديد في ذلك فهي تقيم كنيسا ومتحفا قرب الحرم القدسي)… الأهم من ذلك أن الخارجية تتابع باهتمام بالغ تطورات الهجمة الإسرائيلية (لكن الوزارة نفسها تعترف أن هذه الهجمة بدأت مع بداية الاحتلال ولم تتوقف ولن تتوقف طالما اكتفينا بهذه البيانات التي لا تطعم خبزا)… وستواصل الوزارة عملها السياسي والدبلوماسي والقانوني لفضح (الفضيحة لشيء سري وليس لقرارات معلنة) هذه السياسة مع الدول كافة وفي جميع المنابر الدولية المختصة… نطالب المجتمع الدولي والأمم المتحدة خاصة مجلس الأمن الدولي بالتحرك العاجل والسريع لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بوقف هذه الانتهاكات، والخروقات الفاضحة للقانون الدولي )وهل توقفت إسرائيل يوما عن هذه الانتهاكات) وتدعوه إلى تحمل مسؤولياته السياسية والقانونية في لجم تمرد إسرائيل على قرارات الشرعية الدولية (وهل التزمت يوما باي قرار دولي. وبعد كل هذه السنين ما زالوا يأملون خيرا من مجلس الأمن… أحسدهم على هذا النفس الطويل)… يطالبون المجتمع الدولي بعدم الاكتفاء ببيانات الإدانة واتخاذ الإجراءات العملية لايقاف دولة الاحتلال (هذا مطلب جيد ولكن إذا كانوا هم يكتفون بالإدانات فكيف يتوقعون من غيرهم ان يفعل ما لا يفعلون). وهذا ليس إلا غيض من فيض. نستخلص مما تقدم أنه وبعد23 عاما على ما يسمى باتفاق اوسلو لم تتعلم القيادة الفلسطينية ولو درسا واحدا من أخطائها، ولم تحاول حتى إعادة النظر في أساليبها البالية في التعامل بشكل صحيح مع أي قضية من القضايا ولا تستطيع الزعم بانها نجحت في حل ولو مشكلة واحدة من المشاكل وهي عديدة، وأنها لا تزال تستخدم الخطاب السياسي القديم نفسه الذي أكل الدهر عليه وشرب، خطاب لا يقدم بل يؤخر. هذا أولا.. وثانيا وهو الأهم انه إذا كانت هذه القيادة لا تحترم وعودا تقطعها على نفسها ولا تنفذ تهديدا واحدا من تهديداتها فكيف تتوقع من دول العالم احترام وعودها أو الاذعان لتهديداتها، بل كيف تتوقع من العدو ان يأخذ تهديداتها على محمل الجد؟
وللتذكير فقط نسرد بعضا من هذه الوعود والتهديدات التي لم تر النور وربما نكرر أنفسنا لكن لا بد من التكرار فهو يعلم من لا يتعلم… و»الزن على الذان بيجيب فايدة» كما يقولون.
التهديد بالتحلل من كل الاتفاقات مع إسرائيل طالما لا تلتزم هي بها (خطاب الرئيس في الأمم المتحدة في ايلول/سبتمبر 2015)..
وعد وقف التنسيق الأمني بموجب قرار المجلس المركزي في آذار/مارس 2015.
الغاء اتفاق باريس الاقتصادي الظالم (قرار للمجلس المركزي).
التهديد بسحب الاعتراف بدولة الاحتلال والتراجع عن اوسلو الذي لم يبق من بنوده سوى السلطة الاسمية. مقاطعة المنتجات والبضائع الإسرائيلية.
التهديد بالتوجه للمحاكم الدولية والانضمام إلى مزيد من منظمات الأمم المتحدة.
مشروع فلسطيني أمام مجلس الأمن، لا يقدم.. ومشروع فرنسي لن يرى النور. ايجاد فرص عمل للفلسطينيين الذين يلجأون للمستوطنات مضطرين.
تجاهل قرارات بترتيب البيت الفلسطيني بما يعنيه ذلك من تحقيق المصالحة وإعادة بناء منظمة التحرير على أسس صحيحة وسليمة تكون جامعة كما كانت في الماضي للكل الفلسطيني على أسس ديمقراطية.. وإعادة بناء روافدها من نقابات عمالية ومهنية ونسائية وطلابية على أسس جديدة وتنشيط المؤسسات داخل السلطة.
واختم.. لو كررنا السؤال أعلاه اليوم على المسؤول نفسه فاننا سنتلقى الجواب نفسه. ولكن ما نسيته قيادة منظمة التحرير أو تناسته طيلة سنين ما بعد اوسلو، هو المخزون البشري الاستراتيجي الموجود أمام ناظريها ولا تراه. إنه هذا الشعب الذي تهمله وتستهين هي بقدراته لا العدو… إنه سلاحها الوحيد بعد ان خلا بها حتى الأشقاء والأصدقاء.
نعم هذا الشعب هو سلاحها الأقوى من أحدث طائرات الاحتلال الحربية ودباباته، لو أحسنت استخدامه… إنه الشعب الذي لبى ويلبي دوما نداء الواجب ولم يتقاعس يوما عن العطاء والتضحية. إنه هذا الشعب الذي حافظ على البقاء والتمسك بهويته. إنه هذا الشعب الذي بعد قرن كامل من محاولات القضاء عليه ومحو هويته، لا يزال على أرضه صامدا وقادرا على العطاء والتضحية لا تنقصه سوى قيادة حقيقية تقوده وتثق بقدراته، فبه تستطيع الصمود في وجه كل المؤامرات وبه تحقق ما فشلت في تحقيقه كل المفاوضات، وبدونه لن تكون هناك قضية ولن تكون هناك فلسطين. هذا اجتهاد غرضه الدفع نحو التذكير لا التشهير.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

للتذكير لا التشهير

علي الصالح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    اي مجتمع في الدنيا قوامه الاقتصاد و الامن و هذه نقطة ضعفهم و نقطة قوتنا.
    كم منهم يتحمل افتقاد الامن و الاقتصاد لا سيما ان البديل لديهم جاهز و هو العودة حيث اتو. او الذهاب لامريكا عند اخوانهم الذين لم يتركوها انما يجدون في دعم من اقام في ما يسمى اسرائيل اذى و عدوانا. عدد اليهود في امريكا يقارب عددهم في فلسطين المحتلة و يمكن لامريكا استيعابهم بسهولة لو كان موقفها منهم اخلاقيا و انسانيا !!!!

إشترك في قائمتنا البريدية