قبل الإجابة على هذا السؤال فإن المرور عبر سؤال آخر يبدو حتمياً: ما يضير الجوار الإيراني القريب أو البعيد في هذه المراهنة الإيرانية على الأصولية، ألا يعد هذا الأمر شأناً داخلياً؟
للإجابة نقول إن الأصولية في نظام الولي الفقيه تعني استعادة خلافات الماضي، بالتركيز على ما فيها من نقاط تستبعد أي لقاء مع الآخر. المقصود بالآخر هنا هو المسلم السني، الذي بنيت هذه العقيدة الأصولية على تكفير كبار أئمته بمن فيهم أقرب الصحابة إلى الرسول (ص) وهو ما يوسع الهوة ويجعل تكفير المعاصرين من أهل السنة واستباحة الاعتداء عليهم أكثر سهولة، في ظل تعرض العوام للدعاية اليومية المكثفة المتمثلة في وسائل الإعلام التحريضية، والمناهج الدراسية من جهة، وحلقات العلم والتدريس التي تزيّف معنى الإيمان وتحوله لدوائر مغلقة من الأعمال الانتقامية من جهة أخرى.
بهذه النظرة لا تبقى الأصولية شأناً داخلياً، حيث ترتبط بالضرورة بالخارج وبثنائية «نحن» مقابل «هم». هذه الثنائية لن تكتفي بعدم الاعتراف بأي مذهب إسلامي داخل إيران غير المذهب الإثنى عشري، وهو ما سيولد ضغوطاً متزايدة على الأقليات الأخرى، خاصة أتباع المذهب السني، بل سيكون كل ذلك مرتبطاً بما سمي في أدبيات النظام الأولى «تصدير الثورة»، وهو الأمر الذي سيشكل مخاطر كبيرة لن تتوقف عند محاولات تشييع البسطاء في أكثر من بلد من بلاد المسلمين السنة، ولكنها ستنتقل إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو ربط أبناء هذه الطائفة من الشيعة، أو من الذين تم تشييعهم، بمشاريع عابرة للأوطان، تقوم على التسليح المرتبط بالدوغمائية، الذي يقود في كثير من الأحيان لخلق شبكات متنوعة من الأحزاب المرتبطة بأجنحة عسكرية أو ميليشوية.
ولأن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، يلجأ النظام الإيراني في كثير من الأحيان إلى وصم الدول السنية بالأصولية، أو اتهامها بدعم الإرهاب. صحيح أنه في المقابل هناك دعوات لرموز سنية تسيء إلى القيم الإسلامية السمحة، وهناك جماعات سنية في أكثر من مكان قد احترفت صناعة الفوضى والإرهاب، إلا أن الفارق الكبير هو أن هذه الجماعات لا تحظى بدعم سياسي مكشوف ومفضوح كالجماعات الموالية للولي الفقيه، التي تحترف الجريمة والإرهاب، بل إن الخطاب التكفيري أو الأصولي المتشدد يبقى معزولاً ومرفوضاً ومستهجناً في أغلب دول المنطقة. أما أن تتبنى دولة مثل هذا الخطاب وتتماهى معه وتتحدث باسمه مبررة له ولجرائمه، فإن هذا لا يحدث إلا في الحالة الإيرانية التي تمارس الميليشيات المرتبطة بها الإرهاب، في الوقت الذي تدعي فيه أنها تحارب الإرهاب والتطرف وتدعو للوحدة الإسلامية.
آخذين في الاعتبار أن الشيعة، خاصة أصحاب مذهب الاثنى عشرية المتشدد، هم في غالب البلدان مجرد أقلية، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا تصر هذه الأقلية على تحدي الأكثرية والدخول معها في صراعات وحروب مباشرة أو بالوكالة، بدل التعايش معها في علاقة احترام وتعاون وتبادل للمنافع؟
الأمر المنطقي هو أن تسعى دولة الأقلية لخلق علاقات حسن جوار محترمة مع غيرها، إلا أن ذلك لم يحدث، بل حدث ما هو أغرب، وهو أن السياسيين ورجال الدين المقربين منهم لم يعودوا يتمسكون بفقه التقية، الذي يسمح للشيعة بعدم إظهار حقيقة أفكارهم ونواياهم أمام غيرهم، بل أصبح أولئك يلجأون في أغلب الأحوال للمجاهرة بأفكارهم وتصوراتهم للعلاقة مع المختلفين، ليس فقط من أهل السنة، ولكن حتى من أطياف الشيعة الأخرى، وهو ما لخصه العميد غلام حسين غيب برور القيادي في الباسيج والحرس الثوري بقوله، قبل أيام، ألا فرق بين قتلة الحسين، عليه السلام، ومن خرج عن خط الولي الفقيه.
من الواضح أن دولة الملالي الأصولية ما عادت تبالي بانفضاح مشاريعها. ربما يرجع السبب في ذلك لحالة الضعف والتفكك واختلاف الأولويات التي تعيشها المنطقة، خاصة أن ردات الفعل لا تكون في كثير من الأحيان بحجم تلك المشاريع، بل كثيراً ما تلجأ الأطراف المعنية لإعادة الحسابات متراجعة عن خطط التصعيد، بل مقدمة أحياناً بعض التنازلات. هذا الواقع يشبه إلى حد كبير تعامل الدول العربية المرتبك مع الكيان الصهيوني، الذي لم يرد حتى هذه اللحظة على المبادرة العربية التي تنازلت له عن نصف فلسطين مقابل التطبيع ووقف العدائيات. الكيان الذي تضخم وتغذى عبر السنين بفضل أنابيب الحياة التي تصله من الأعداء المفترضين، لم يعد يكتفي بهذا النصف المعروض عليه، بل صار يحلم بحدود أكبر قد لا تشمل فقط الأراضي الفلسطينية.
الطموح الصهيوني يستند إلى قوة مادية وعسكرية، وكذلك الحال مع الطموحات الإيرانية، ولذلك فقد كان الحصول على السلاح النووي بالنسبة لإيران مسألة حياة أو موت وأولوية لا تسامح حيالها، فبهذا السلاح تستطيع الأقلية أن تلوي ذراع الأكثرية، وتستطيع الدولة المعزولة التي تعاني ما تعانيه من مشاكل اقتصادية واجتماعية أن تفرض صوتها ووجودها على الساحة الدولية التي ستجبر على أن تعمل لها ألف حساب.
الأمر نفسه منطبق على تعامل الدولة الإيرانية مع الاتفاق النووي الذي كان نجاحه كفيلاً بانتشال طهران من عزلتها، وإعادتها إلى دورة المال والسياسة العالمية. إيران تبدو غير مبالية حياله ورافضة تقديم أي نوع من التنازلات سواء تجاه تحسين سلوكها الإقليمي، أو حتى تجاه احترام النصوص الفنية الواضحة لهذا الاتفاق. يعتمد النظام الإيراني في ذلك على أن الغرب أصبح أمام الأمر الواقع وأنه لن يستطيع أن ينسحب مجدداً من الاتفاق، مهما بدر من الشركاء في طهران. لهذا فإن تهديدات الرئيس الأمريكي لم تزد متخذي القرار، خاصة من أصحاب العمائم الذين كانوا يتحفظون على هذا الاتفاق ابتداءً، إلا تصميماً على متابعة تشددهم.
بعد أيام من تنصيب الرئيس روحاني لولاية جديدة، صرح وزير دفاعه أمير حاتمي قائلاً إن تطوير الصواريخ الباليستية وكروز وتعزيز قدرات فيلق القدس هي أهم برامج الحكومة الإيرانية العسكرية. (تجريب كل ذلك، خاصة الصواريخ الباليستية ينتهك قرارات مجلس الأمن). هذا التصريح ليس معزولاً حيث تلى خطاب التنصيب الذي بدا فيه روحاني نفسه متشدداً تجاه المطالب الغربية.
أسباب مراهنة رموز النظام الإيراني على التشدد لا تعود فقط إلى ضعف وتشتت المنافسين في الخارج، ولكن هناك أيضاً عوامل ضغط داخلية كالإحباط الناتج عن صدمة الكثيرين من الذين كانوا ينتظرون تغييراً اقتصادياً ملموساً وسريعاً. هناك أيضاً دور مهم للجهات الداخلية المتضررة من هذا الاتفاق والتي تعتبر أن علاقة جيدة مع الغرب لن تمر إلا على حساب مكتسباتها السياسية والاقتصادية. هذه الجهات، وأبرزها مؤسسة «الحرس الثوري» المهدد بالحظر والمقاطعة، تضغط بقوة في سبيل استمرار الرهان على القواعد الأصولية كصمام أمان للجمهورية. حتى الآن تبدو هذه الجهات مسيطرة بشكل يجعل الخروج عن الخط الذي رسمته صعباً، حتى بالنسبة لأكثر الشخصيات السياسية انفتاحاً.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح