لماذا لم ينزل عن الصليب؟

حجم الخط
15

في الشعر العربي وفي الرواية أيضاً إشارات إلى يسوع الناصري، عيسى ابن مريم، تستحق أن تُقرأ وتُدرس. فالناصري الحاضر في أدبنا، صار رمزاً متعدد الوجوه، لكن أهم ما فيه هو أنه رمز عربي عام وليس رمزاً دينياً أو طائفياً، كأنه في يوم ميلاده، يتحدى الانحطاط، وينبثق في وعينا كلقاء بين الأضحية والضحية.
نستطيع أن نبدأ من التأويل الجبراني ليسوع ابن الانسان ونمضي في منعرجات الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، لنكتشف أننا أمام شخصية تراجيدية ترث الحكايات الكنعانية عن الموت والانبعاث التي احتلت حيزاً كبيراً في نتاج من أطلق عليهم اسعد رزوق اسم الشعراء التموزيين، لكنها تفترق عنها في أنها لا تحتفي بالانبعاث، على طريقة استحضار الاله الكنعاني تموز أو أدونيس، بل تحوّل الموت اطاراً لتمجيد الضحية، أو شكلاً لرسم ملامح الانسان العربي، على صليب ارتفع فوق تلال الروح.
ثلاثة مقتربات أساسية لحضور عيسى في الشعر العربي المعاصر، بدأت مع العراقي بدر شاكر السيّاب في رائعته «المسيح بعد الصلب»، وانعطفت مع اللبناني خليل حاوي في التماهي بين المسيح ولعازار في قصيدته « لعازار عام 1962»، ووصلت إلى ذروتها مع انتشار المسيح في العديد من قصائد الفلسطيني محمود درويش وخصوصاً في «الجدارية»، حين يقيم الشاعر حواراً تراجيدياً مع السيد المصلوب.
المسيح ليس حاضراً في الشعر فقط، بل ان حضوره في الرواية يكاد أن يكون موازياً لحضوره الشعري، وخصوصاً في أعمال الروائي الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا.
التأويل الجبراني للمسيح الذي ينحو منحى نيتشوياً ممزوجاً بالصوفية، له فضل كبير في تحرير هذه الشخصية من بعدها الديني ووضعها في سياق دنيوي، وفتح الباب أمام صيرورة المسيح من رمز مرتبط بشعائر الدين المسيحي، إلى رمز عربي مصنوع من تجربة الألم والاحتضار والولادة.
بدر شاكر السيّاب دخل إلى هذا العالم الرمزي من بوابة جيكور قريته العراقية التي صار الشاعر مسيحها وابنها وضحيتها ومطرها. فجاء المصلوب ليجسد بعدين متداخلين: الشاعر النبي الذي يبحث عن نبوة لا يجدها، والعراق المصلوب على خشبة الاستبداد.
«بعدما أنزلوني سمعت الرياحْ/ في نواح طويل تسفّ النخيلْ/ والخطى وهي تنأى إذا فالجراحْ/ والصليب الذي سمروني عليه طوال الأصيلْ/ لم تمتني، وأنصتّ كان العويلْ/ يعبر السهل بيني وبين المدينةْ/ مثل حبل يشدّ السفينة/ وهي تهوي إلى القاع كان النواح/ مثل خيط من النور بين الصباح/ والدجى في سماء الشتاء الحزينة».
هذا التوحّد بالألم الذي يشكل احدى خصائص القصيدة السيّابية، يصل إلى ذروته عندما يرى الشاعر صلباناً تمتد إلى ما لا نهاية:
«كل شيء مدى ما ترى العين/ كالغابة المزهرةْ/ في كل مرمى صليب وأم حزينةْ/ قدس الرب/ هذا مخاض المدينة».
يعود السياب في رحلته مع الصليب إلى ترسيمة الانبعاث التي شكلت محوراً أساسياً في شعره، بينما ينفض خليل حاوي عن شعره تفاؤلية الانبعاث التي صاغتها مجموعته الشعرية الأولى «نهر الرماد»، ويغرق في عتمة القبر الذي بدأت ملامحه في الظهور مع فشل تجربة الوحدة السورية- المصرية، ليمهّد للهول الذي جاءت به الهزيمة الحزيرانية المروعة.
لعازر طريح القبر ويرفض أن يستمع لنداء المسيح القيامي، ويعلن تمرد الحقيقة على الرمز:
«عمّق الحفرة يا حفارُ/ عمقها لقاع لا قرارْ». هكذا يستقبل لعازر موته، لكن حضور السيد ونواح مريم قائلة «لو كنت هنا لما مات أخي»، كما ورد في الأناجيل تدفع المسيح إلى اجتراح معجزة القيامة التي يشكك لعازر بها قبل أن يرفضها:
«صلوات الحب والفصح المغني في دموع الناصري/ أترى تبعث ميتا حجّرته شهوة الموت ترى هل تستطيع/ … صلوات الحب يتلوها صديقي الناصري/ كيف يحييني ليجلو عتمة غصت بها أختي الحزينة/ دون أن يمسح عن جفنيّ حمّى الرعب والرؤيا اللعينة».
وعندما يعود لعازر حيا كطيف ترفضه الحياة، يصرخ بصوت الشاعر:
«الجماهير التي يعلكها دولاب نارْ/ من أنا حتى أردّ النار عنها والدوارْ/ عمّق الحفرة يا حفّارُ/ عمّقها لقاع لا قرارْ».
رحلة الانبعاث بتلاوين الموت السيّابية تنتهي في قصيدة خليل حاوي يأساً. فالانبعاث الذي بشرنا به الشعر في حداثته القومية تلاشى في عتمات مقبرة الهزيمة. وكان على شخصية يسوع الناصري أن تنتظر شاعرها الفلسطيني كي تتحرر من ثنائية الموت والانبعاث، وتصير رمزاً شاملاً للضحية.
في شعر محمود درويش لا يعود المسيح صورة يستوحي الشعر معانيها ويقوم بتأويلها، بل يصير المسيح هو الفلسطيني، ليس كرمز بل كحقيقة ملموسة، وينتشر في الشعر الدرويشي كتجربة شخصية يعيشها الشاعر. فالمسيح يقف على أطلال البروة التي طرد منها لاجئا، يُصلب في السجون، وحين يعود يجد نفسه لاجئا في وطنه.
في «الجدارية» يعيد الشاعر تأويل المسيح، يلتحم به وينفصل عنه في آن معاً، يمشي معه على ماء بحيرة طبريا أو بحر الجليل، يصعد معه إلى خشبة الصليب، لكنه يقرر أن لا يتابع الرحلة إلى الموت:
«ومثلما سارَ المسيحُ على البحيرةِ/ سرتُ في رؤيايَ/ لكنّي نزلتُ عن الصليبِ/ لأنني أخشى العلوَّ/ ولا أبشّر بالقيامة».
الشاعر الذي كتب قصيدته بعد خروجه من حافة الموت، يرسم المسيح أفقاً مختلفاً، يدعوه إلى مائدته الفلسطينية بدل أن يذهب كما فعل أسلافه إلى مائدة الناصريّ الرمزية. يحرره من الأسطوري ويدخله في العادي، فالمسيح ليس ضيفاً على المائدة الفلسطينية، انه المائدة التي صنعها ألم الضحية.
حكاية يسوع الناصري التي تجذرت في أدبنا العربي المعاصر لا علاقة لها بالدين وجدله الإيماني، وهذا ما فات استاذنا الكبير إحسان عباس في تحليله النقدي القاسي لقصيدة السيّاب. انها حكاية تتألف من فصلين:
فصلها الأول يتجسّد في كسر الهويات المقفلة، عبر تملّك ثقافي عميق لشخصية يسوع الناصري، وادراجها في متن ثقافة عربية تسعى إلى الانعتاق بحثاً عن جذورها الثقافية المتنوعة. وفي هذا تذكير لأسياد مرحلة السقوط والاستبداد والعتمة التي تفرض ظل الموت على حياتنا العربية، بأن هذا السقوط طارئ انحطاطي لا يستطيع أن يستمر.
وفصلها الثاني اسمه الحب، فالناصري يولد من جديد في أدبنا مجبولاً بإيقاعات الحب التي تخمّر أروحنا. فنفاجأ به مثلما يفاجئنا الحب، ويمضي بنا إلى حيث يشاء.

لماذا لم ينزل عن الصليب؟

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول غادة الشاويش -المنفى:

    *ميلاد مجيد لنا جميعا يا صاحب القلم الذهبي المستقيم الياس خوري .. اتت ميلاد المسيح الناصري .. ليرحل عنا المطران المناضل هيلاريون كبوتشي رحمه الله .. نيافة المطران الذي مشى طريق الالام .. نيافة المطران كبوتشي الرجل التسعيني .. الذي عاهد المسيح على ان يقلب صناديق باعة الحمام والصيارفة .. ويخرجهم من معبد الله الرجل الذي اجتمع فيه طهر راهب عاااازف عن الدنيا وروح ثاءر اتتذكرونه وتقفون على تخوم روحه التي سافرت الى بارءها يوم ميلاد الناصري ! وكان العظماء بعد ان يتموا اعمارهم النبيلة يولد فينا الف مسيح يتحدى .. المطران كبوتشي يا اخوتي في القدس العربي الرجل المناضل الذي حمل غي سيارته اسلحة للمقاومة الغلشطينية لتهريبها في سيارة نيافته للمقاومة الفلسطينية وحكم عليه بالسجن 12 عاما ليخرج بعد تدخل اابابا بعد اربع سنوات ضمته سجون العدو ليمهر فلسطين باسم المسيحيين البررة الذين حملو صليبهم ليولد الهلال واستشهدو في مواجهة الاحتلال المكران كبوتشي يا اخوتي .. الرجل الذي رافق اسطول الحرية الى غزة بعد سنوات نفيه في روما كان معاقبا لانه قلب صناديق الضيارفة وباعة الحمام كان مكرووها لدى الاحتلال بقدر ما كان محبوبا لدينا .. المطران التسعيني .. وبعد ابعاد كل من هم على سفينة اسطول الحرية يعود ليركب البحر صدقوني ما كانت الكنيسة تخشعه بقدر عيني فلسطين التي تحمله على السجود عاد اليها كعبير هواء مع اسطول السفينة مرمرة .. وبقي يصدح ضد ابناء الافاعي بقي يجادل من كرسيه الاكليروسي الفريسيين قساة القلوب اتذكروه انه ارتفع يوم الميلاد اظنه يشتاق لعينيها من هناك .. رحم الله نيافة المطران ولا رحم من ماتت ضماءرهم فضيعوا جهاد ابناء فلسطين المسيحيين والمسلمين البررة حين سكبو ماء وجوههم وخانو كل امانة في ملف العار المسمى ملف التنسيق الامني وداعا يا نيافة المطران .. وسنبقى على الطريق وسنمشيها طريق الام تلك حتى نعلف على صليب من حب فلسطين وميلاد مجيد لنا جميعا ثوارا على دربنا الماسي نحو علياء الوطن
    جريحة فلسطينية منشقة عن المنظمة التي صلبت الف مسيح سوري على جدران الغل والحقد الطاءفي بل انها تتصرف احيانا كيهوذا الاسخريوطي الذي انكر المسيح !

  2. يقول Passerby:

    مع إحترامي الشديد لثقافة إخواننا المسيحيون، ولكن لماذا يصرًون على أن المسيح ُصلب؟ وهل يليق بالمسيح أن يصلب أصلاً وهو نبي الله والله تعهد بحماية أنبياءه؟! النص القرآني كرم المسيح بذكر نهايته المشرفة بأن رفعه الله إليه وخلًصه من الأشرار الذين أرادو به سوءً. لماذا يصر إخواننا النصارى أنً هذا ليس شرف كاف لسيدنا عيسى وذهبوا بعيداً في زعمهم أنه ُصلب!! وأنه إبن الله تارة وتارة هو الله!!! على سيدنا عيسى الصلاة والسلام وعلى أمه الطاهر البتول.

  3. يقول كنعان - ستوكهولم:

    يسوع الناصري اليوم هو القادم من مدينة حلب ويحمل هويتها حتى وإن صلب، رفع إلى السماء ليعود مقاوما لنظام الاستبداد والظلم الطائفي، هو المتمرد على القهر والاستبداد باحثا لشعبه عن الحرية والكرامة، هو من يطعم شعبه من دمه ولحمه لانبعاث قادم ، لم يهن، لم يستكين بعد صلبه على يد الغزاة حثالة الميليشيات القادمة من أصقاع الأرض لتشاهد لا على صلبه وإنما على انبعاثه مجددا وهي ترتجف رعبامنذ اليوم التالي لدخولها ملكوته ، يسوع الناصري هو جلمود صخر لمواجهة تلك القوى الباغية وتحقيق النصر برسالته عن السلام والمحبة.يسوع الناصري هو ليس ” مسيحهم” مسيح الغرب ، يسوع”نا” هو الفلسطيني بالولادة ، عربي بالرسالة، يؤمن بالمحبة الصادقة والسلام للكافة.

  4. يقول سمير عادل المانيا:

    اولا ابارك الاخت غادة على الاسلوب الرشيق والجميل ونعزي كل محبي الحرية والسلام بموت المطران الذي كنا نتابع أخباره ايام الاعتقال بشغف وحيرة وارتباك.لقد عرف السياب كيف يستثمر الرمز بشعره وكذلك الاساطير وهو قد جسد المعاناة الشخصية من خلال معاناة المسيح.من وجهة اخرى يمكن النظر للصلب كتضحية من فرد للمجموع وليس كما يحصل في بلداننا حيث يضحي الشعب كله بنفسه من أجلالفردالفرد الحاكم.

    1. يقول غادة الشاويش -المنفى:

      شكرا اخي سمير وسنبقى مسلمين ومسيحيين يدا واحدة ضد الظلم والاحتلال والوحشية

  5. يقول جوجو:

    قطعة من الأدب الرفيع توازي تأوليات جبران ورائعة بدر شاكر السياب وتماهي خليل حاوي وجدارية محمود درويش. تحيط بهذه اللوحة الفنية الرائعة تعليقات رائعة أيضا من غادة الشاويش – المنفي وكنعان – ستوكهولم.

  6. يقول عبد الكريم البيضاوي . السويد:

    لدى المسيحيين خاصية لايلتفت إليها المسلمون كثيرا, وهي حريتهم المطلقة في الحديث والكلام في دينهم , بإمكانهم أن يعزموا المسيح على مائدة الطعام مثلا ـ بحسب رأيي ـ هم لايزالون يرون فيه الإنسان, القابل لفعل أي شيء, عكس الأنبياء الآخرين حيث التكفير والزندقة أقرب إلى الشفاه منها إلى خالقهم.

  7. يقول سمير عادل المانيا:

    الاخ من الجزائر اولا هذه لا تسمى ثقافة بل عقيدة مسيحية .ثانيا أن المسيحيين يتخذون من كتبهم مراجع لعقيدتهم كحال المسلمين الذين يتخذون من القران والسنة مراجعهم. ومن ثم ما السوء أن كان صلب او لم يصلب أن كان مات على الصليب كما في الأناجيل ثم قام في اليوم الثالث من الموت وبعدها صعد الى السماء او انه رفع من الصليب او شبه لهم بحسب القران. ثم هناك من الانبياء من تعرض للتعذيب والضرب والمرض المزمن والسجن وغيرها من الامور.علينا فقط احترام عقائد الاخرين لكي يحترم الاخرين عقائدها لكي نعيش مع بعض في هذا العالم الذي أصبح يصغر كل يوم بمحبة وسلام بعيدا عن القتل.

  8. يقول عبد السلام دروش رءوف-الناصرة:

    المسيح لم يُصلب،ولكن شُبِّه لهم كما قال قرآننا العظيم.كيف ينزل المسيح إلى القبر لمدة ثلاثة أيام،ثم ينهض على نحو ما يعتقد الإخوة المسيحيون؟ كيف يكون المسيح إلهًا وإنسانًا في وقت واحد؟ لقد أخذ الإخوة المسيحيون أسطورة التثليث من الديانة المصرية القديمة؛من إيزيس وأوزوريس وحورس؛لتصبح الآب والابن والروح القدس.أمَّا محاولة عَدِّه رمزًا عربيًّا كما يحاول إلياس خوري فهي محاولة تأويلية كسيحة،لم تضف شيئًا جديدًا.

    1. يقول عبد الكريم البيضاوي . السويد:

      الأخ عبد السلام دروش رءوف-الناصرة.
      هل بمقدورك أن تناقش الإسلام كما تناقش المسيحيين في دينهم الآن ؟ هل تسمح للمسيحيين العرب مثلامناقشتك في دينك وربما الإتيان بأشياء لايرونها هم كما يجب أن تكون؟.
      للأديان غاية واحدة, متى عرفها الإنسان يبتعد عن مقارنتها ببعضها.

  9. يقول سمير عادل المانيا:

    اذا كان صلب او شبه لهم من يستطيع اثبات الحالتين يا اخ عبد السلام

  10. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    رحم الله المطران كبوتشي وأسكنه فسيح جناته فهو مثال رائع وقدوة لنا جميعاً. وفيما يخص المسيح كنبي أو شخصية إنسانية عربية فهو بلا شك رمز عربي عام يمكننا قراءة ذلك ليس فقط في الأدب بل أيضاً عند العامة كما أوضحت عن ذلك الأخت غادة الشاويش في تعليقها. فالإخلاص للوطن هو جزء من الإخلاص للمسيح ورسالته الإنسانية وطريق النضال هو جزء من درب الآلام التي مشى عليها السيد المسيح.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية