لنجعل جريمة ترامب مصدر قلق له ولنتنياهو

حجم الخط
2

فعل ترامب ما لم يفعله رئيس أمريكي من قبله، «فاركا بصلة حراقة كبيرة» في عيون كل العرب «موافق وممانع» سيان، مخالفا بذلك وضاربا عرض الحائط بكل القرارات الدولية، وحتى الموقف الأمريكي القائم منذ نحو 70 عاما، وكذلك التعهدات والضمانات التي قدمتها الإدارات السابقة للفلسطينيين بعد اتفاق أوسلو (المشؤوم) بشأن قضايا الحل النهائي.
فعلها ترامب واعترف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، الاعتقاد السائد أن قرار الاعتراف، ما كان ليتم لو لم يكن بالتنسيق مع أنظمة صديقة وحليفة وشريكة، في إطار ما يسمى بـ»صفقة القرن» التي كشفت عنها صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية،
وهذا ما أكده رئيس الدبلوماسية الأمريكية ريكس تيلرسون، مباشرة بعيد إعلان الاعتراف، إذ قال إن هذا القرار اتخذ بعد التشاور مع «الكثير من الأصدقاء والشركاء والحلفاء». وهذا يعني شيئا واحدا، وهو أن الكثير، إن لم يكن كل بيانات التنديد التي صدرت عن العديد من عواصم العرب، ليس إلا تمويها وإبعادا للشبهات، على الأقل في هذا الوقت، الذي تغلي فيه الدماء ويتعاظم فيه الغضب الشعبي. وتنتظر هذه الأنظمة هدوء النفوس وامتصاص النقمة وانتهاء المظاهرات المتوقع أن تستمر لأيام أو أسابيع، لتكشف عن الخطوة التالية.
وقبل الخوض في تفاصيل «صفقة القرن» نؤكد أنها أفكار حملها جاريد كوشنر صهر ترامب ومستشاره لشؤون الشرق الاوسط، وتبناها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال زيارة كوشنر للسعودية، وقضاء نحو اسبوعين هناك، وهي بالتأكيد ليست من بنات افكار كوشنر بل نتنياهو. والشيء بالشيء يذكر فإن كوشنر كما كشف مؤخرا يترأس مؤسسة تابعة لأسرته تقدم المساعدات المالية للمستوطنين.
وتتلخص «صفقة القرن» حسب «نيويورك تايمز» بدولة فلسطينية بدون سيادة متقطعة الاجزاء، أي محميات كمحميات الهنود الحمر في أمريكا، والأبورجنيز في استراليا؛ محميات متناثرة عاصمتها بلدة ابو ديس المطلة على قبة الصخرة الشريفة في البلدة القديمة، ما يعني التنازل بالكامل عن القدس، والإبقاء على معظم المستوطنات وكذلك منطقة الأغوار، والتنازل أيضا عن حق العودة، وطبعا إغراءات مالية شديدة.
وحسب مزاعم «نيويورك تايمز» فإن محمد بن سلمان، حاول الضغط على أبو مازن لقبول الخطة، لكن الرئيس الفلسطيني الذي أصيب بالصدمة والذهول والغضب، رفضها بالمطلق وقال إنها تخدم إسرائيل أكثر من أي مقترح قدمه أي رئيس أمريكي.
فعلها ترامب ونفذ وعده، واعترف بصراحة ووقاحة بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال. ولم يُعَرّف للقدس حدودا، بل تركها مفتوحة كل يفسرها كما يحلو له، والتفسير دوما لصالح الطرف القوي والمتحكم، اسرائيل، وهي التي لم تكن تنتظر هذا الإعلان لتبدأ تهويد المدينة المقدسة. فالعملية قائمة ومتواصلة منذ اليوم الأول لاحتلالها، في حرب الخزي والعار في يونيو/ حزيران عام 1967.
ألم تهدم قوات الاحتلال في اليوم الأول من الاحتلال في العاشر من يونيو 1967، حارة المغاربة وتسويتها بالارض، وتعيد تسميتها بحارة اليهود. هدمت الحارة ببيوتها الـ135، وهجر أهلها الذين يعود وجودهم إلى عام 1193 وجميعهم من الأمازيغ المغاربيين الذين آثروا البقاء إلى جانب المسجد الاقصى وأيضا طلبا للعلم. وبادر الملك المغربي الراحل الحسن الثاني «مشكورا!» إلى مساعدة البعض على الرحيل والعودة إلى المغرب، بدلا من تشجيعهم على البقاء فيها والدفاع عنها. فعلها «راعي السلام» واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولم يقدم في المقابل للفلسطينيين شيئا سوى وعود فارغة، منها التأكيد على أن هذا الاعتراف هو خطوة في الطريق لصالح السلام، وتأييد حل الدولتين باتفاق الطرفين وقبولهما. وهو بذلك يقدم القدس هدية لإسرائيل بل يضع بين يديها مفتاح حل الدولتين ومنحها قرار التسوية السياسية.
باختصار شديد فإن ترامب بقراره هذا أطلق رصاصة الرحمة على التسوية السياسية برمتها. كل ذلك بدون مقابل على الاقل ظاهريا. وان كان هناك من يعتقد أن الثمن الذي سيتقاضاه، ربما يتمثل بوضع حد لفضيحة «رَشْيا- غيت» التي تلازمه منذ ما قبل فوزه في الانتخابات قبل نحو سنة.
ما تشهده العواصم العربية والاسلامية من ردود أفعال ليست بمستوى الحدث الجلل. ولكن هذا ما كان متوقعا، فالانظمة المشاركة في المؤامرة لن تسمح بردود أفعال أكثر من تنفيس الاحتقان في النفوس لمنع الانفجار الكبير. وفي كل الاحوال ليس متوقعا أن تتواصل ردود الأفعال في العالم، والاعتماد الكلي سيكون على انتفاضة فلسطينية جديدة شعارها الاستمرار حتى تحقيق الانتصار. ولنا بهبة القدس في يوليو الماضي التي حققت اهدافها بصمود اهل القدس وتظافر جهود الكل الفلسطيني، مثالا حيا يحتذى به. وليتذكر الفلسطينيون أن انتفاضاتهم التي دوما تأتي في الوقت المناسب أفشلت غير مرة مؤامرات شطب القضية.. ولتثبت للعالم العربي قبل العالم الخارجي أن الشعب الفلسطيني اكبر من كل المؤامرات وقادر على تحطيمها على صخرة صموده. وها هو بعد قرن من محاولات شطبه لا يزال حيا يرزق والرقم الصعب في اي معادلة شاء من شاء وابى من ابى.
اعتراف ترامب سحب من واشنطن دور «راعية السلام» الذي لم يكن حقا لها بالاساس، رعاية فرضت فرضا. لم تكن يوما نزيهة، بل كنا نقنع أنفسنا بنزاهتها، يجب أن تعود المشكلة الفلسطينية إلى المكان الذي انطلقت منه، وهو الامم المتحدة.
اعتراف ترامب اثبت أن الولايات المتحدة لا تستطيع الا أن تكون منحازة لصالح اسرائيل فهما دولتان قائمتان على اساس اغتصاب ارض الغير. وأثبت أيضا أنه لم تعد هناك عملية سلام، فلا سلام بدون دولة فلسطين ولا دولة لفلسطين بدون القدس.
بفعلته أكد ترامب المؤكد. فأثبت مجددا أن سياستنا السلبية فشلت وجلبت الينا الدمار، واثبتت ايضا أن قانون الغاب هو السائد في المفهوم الامريكي للعلاقات الدولية، والضعيف هو الوحيد الذي يتمسك بها.. ونحنا ساوينا بانفسنا الارض فلم نحترم خطوطنا الحمر فلم يحترمها الخصوم والاعداء.
أرى في الإعلان إيجابية واحدة، اذا صح التعبير، فقد جاء ليقضي على وهم السلام، وهو وهم تمترست وراءه الأنظمة العربية لتخفي عجزها، عبر إطلاق شعارات من قبيل أن السلام خيارنا الاستراتيجي، وهذا شعار جميل، ولكنه يظل موقف الضعيف في غياب الخطة البديلة، في حال فشل هذا الخيار. وقد فشل و»ذاب الثلج وبان المرج».
قرار ترامب ليس النهاية، بل يجب علينا أن نجعل منه البداية لتصحيح الخطأ القائم لعشرات السنوات، وللتحرر من كل قيود ما يسمى بالاتفاقات السابقة القائمة على أسس غير منصفة، وفي مقدمتها اتفاق اوسلو. هذا الإعلان يجب أن يكون حافزا يدفعنا نحو تصحيح الخطأ التاريخي، حافزا لنعيد تعزيز صمود شعبنا على ارضه ووحدتنا حول الهدف والرؤى، عبر بناء ذاتنا ومؤسساتنا وكياناتنا الوطنية التي طالما أهملناها، على اسس وطنية وتمثيلية وديمقراطية ومؤسسية وكفاحية. علينا أن نحدد أهدافنا بوضوح، ونضع رؤى واستراتيجية جديدة تجعلنا نتخلص من السلبية والاحساس بالضغف، وتخرجنا من المواقع الدفاعية التي طالما تمترسنا خلفها وتلقينا فيها الضربة تلو الاخرى، لننتقل إلى الهجوم. واسلحتنا كثيرة ستؤتى اكلها لو أحسن استخدامها.
اعتراف ترامب سيزيد حالة الاستقطاب في المنطقة وحتى في العالم، ويجب أن نرى في ذلك قوة لا ضعفا، قوة لا بد أن نستغلها استغلالا جيدا بالعودة إلى لعب دورنا القيادي في المنطقة وكفانا سلبية، لقد حان وقت الحسم فإما أن تكون إلى جانب الحق أو تقف في صف الاعداء.. فلا خيار ثالث.
ويبقى السؤال هو هل سيتبع اعلان ترامب اعلانات اخرى هذه المرة من عواصم عربية؟ وحسب المثال «اليوم الخبر بفلوس وبكرة بيصير ببلاش».
واختتم بمقولة لرئيسة وزراء اسرائيل السابقة غولدا مائير بعد تلقيها خبر إقدام يهودي استرالي وصفوه بالمختل عقليا، وهي صفة يطلقونها على أي شخص غير عربي، أو مسلم يرتكب عملا ارهابيا، على حرق المسجد الأقصى: «لم أنم طوال الليل كنت خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل افواجا من كل مكان، ولكن عندما اشرقت شمس اليوم التالي علمت أن باستطاعتنا أن نفعل اي شيء وكل شيء نريده». ولنجعل من ردنا على جريمة ترامب، تصحيحا لاستنتاجات غولدا مائير… ردا يقلق مضاجع نتنياهو ومن يشد على يديه.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

لنجعل جريمة ترامب مصدر قلق له ولنتنياهو

علي الصالح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أبو عمر. اسبانيا:

    هذه فرصة ذهبية لنا نحن الفلسطينيين للتخلص من حل الدولتين. حان الوقت لتبني حل الدولة الواحدة المدنية التي يتساوى فيها الجميع بنفس الحقوق و الواجبات.

  2. يقول سوري:

    هذا هو الحل يا استاذ علي والمقاطعة هي جزء هام من المواجهة.

إشترك في قائمتنا البريدية