لندن رائدة التلوث البيئي

حجم الخط
1

حصل ذات مساء في عاصمة الضباب لندن.. في ذاك المساء من أمسيات الأسبوع الماضي كنت في طريقي من مقر عملي في «القدس العربي» في شارع «كينغ» في حي هامرسميث في غرب لندن إلى محطة القطارات الأرضيّة. كان الجو حارا جدا بالنسبة لصيف لندن والرطوبة عالية.
للوهلة الأولى شعرت وكأنني أسير في شارع في قرية في أحد بلدان العالم الثالث الأشد تخلفا. ولا أبالغ إذا قلت أنني كنت هدفا لهجوم مفاجئ كاسح من أسراب من النمل الطائر لم أر بحجمه من قبل في أي بلد آخر في العالم الأول ولا في الثاني ولا حتى في العالم الثالث..
لم أكن انا الصيد الوحيد في الشارع، فالنمل كان يحوم فوق الرؤوس أسرابا أسرابا قبل ان يختار بنك أهدافه وينقض عليها وكأنه طائرات نفاثة. ولم أكن المستهدف الوحيد في هذا الشارع الطويل الذي يعج بالمارة من كل الأجناس خلال ساعات العمل وبعدها، وكنت أرى المارة يترنحون يمينيا ويسارا ويأتون بحركات اكروباتية لتجنب عضة من هذا النمل العدواني. حصل هذا الفصل مرة واحدة ولم يتكرر لا قبلها ولا بعدها.
وحتى الآن لا أعرف سبب ظهور النمل الطائر المفاجئ ولا الشيء الذي استفزه على الخروج من مكامنه، ولا أسباب اختفائه المفاجئ.. ويقال على ذمة بعض الناس ان خروج النمل ربما لأغراض التكاثر والله أعلم. وانا لست خبيرا لا في شؤون النمل الطائر ولا النمل الأرضي ولا أي نوع آخر من الحشرات.
وللتعريف فقط فـ «كينغ ستريت» هو من أهم الشوارع التجارية في العاصمة البريطانية مثله مثل شارع «اكسفورد» في سط لندن، وشارع العرب «ادجوار رود» الذي يأتي في نهاية شارع «اكسفورد» من الناحية الغربية و»هاي ستريت كينسنغتون» وهو أيضا في غرب لندن و»نايتسبىريدج» للأثرياء الذي تقع فيه محلات هارودز الغنية عن التعريف التي إشتراها العرب، وغيرها من الشوارع التجارية المهمة في لندن.
وتكمن أهمية حي هامرسميث في كونه من الأحياء المهمة الأولى في لندن التي تستقبل الضيوف القادمين عبر مطار «هيثرو» الواقع في غرب العاصمة الذي تحط فيه كل طائرات الخطوط الجوية الرسمية القادمة من الشرق الأوسط والعواصم الأخرى ولا تستخدمه شركات الطيران السياحية الرخيصة. ومطار «هيثرو» هو المطار الرئيسي كما أسلفنا وان كان هناك مطارات أخرى تقع في أطراف لندن وهي «غاتويك» الذي يبعد مسافة 40 ميلا عن جنوب وسط لندن ومطار «لوتن» وهو على المسافة نفسها ولكن إلى شمال لندن و»ستانستيد» الذي يقع على بعد 50 ميلا إلى الشمال الشرقي من لندن.. وهناك بالطبع مطار «سيتي» وهو مطار صغير ويستخدم في العادة للطائرات الصغيرة والخاصة.
بيد ان التسوق في لندن ولا جغرافيتها هما مادة موضوع هذ المقال. ولم يكن حديثنا عن النمل الطائر الذي لم أشاهده في اليوم التالي ولا في الأيام اللاحقة إلا مدخلا للتلوث البيئي الذي تتقدم به عاصمة الضباب وأهم شوارعها التجارية التي سلف ذكرها وغيرها، على جميع العواصم الاوروبية والعواصم المهمة الأخرى في العالم. وهذا ما دفعني إلى مشاركتكم هذه المعلومات المرعبة التي توصلت إليها دراسة حديثة أجراها عدد من كبار العلماء في بريطانيا، لعل فيها فائدة للجميع.
فهل تصدق عزيزي القارئ ان آلاف اللندنيين يموتون بسبب هذا التلوث كل عام؟ نعم آلاف اللندنيين وعشرات آلاف البريطانيين يموتون سنويا نتيجة … تعددت الأسباب والموت واحد.
وتصدر بلدية لندن التعليمات والإرشادات للمشاة حول كيفية تجنب الشوارع الأكثر تلوثا إن أمكن. واذا كان لا بد من استخدامها، تقدم لك النصائح حول كيفية تجنب الهواء الأكثر تلوثا.. ومنها عدم السير على حافة الرصيف والسبب ان الهواء الأكثر تلوثا يحوم على طرفي الشارع، وينصحونك بالسير في أبعد نقطة من الرصيف أي بعيدا عن السيارات.. كما ينصحون بارتداء كمامة على الأنف والفم للحد من استنشاق الهواء الملوث.
لكن رغم هذه النصائح القيمة إلا ان عدد ضحايا التلوث البيئي في ازدياد في بريطانيا لا سيما في لندن. وهذا ما يؤكده تقرير نشرته صحيفة «ستاندارد» المسائية… وتقول الصحيفة في تقرير مطول تحت عنوان «ارتفاع كبير في عدد ضحايا هواء لندن المسموم» ان آلافا من اللندنيين أكثر مما كان يعتقد، يموتون كل عام بسب الهواء المسموم.. وفقا للأبحاث والدراسات السابقة الذكر، حول التأثير القاتل لنسبة ثاني أوكسيد النيتروجين السام جدا، في شوارع لندن. ووفق هذه الأبحاث فان هذا التلوث البيئي يتسبب في وفاة ما لا يقل عن 10 آلاف لندني كل عام. وحسب ما جاء في الأبحاث فان ملايين البشر يفقدون سنوات من أعمارهم جراء هذا التلوث الفتاك.
ويقدر التقرير الذي أعده أكاديميون من جامعة كينغس كوليج وهي احدى أشهر جامعات لندن، ان عدد ضحايا التلوث البيئي في بريطانيا يصل تقريبا إلى حوالي 90 ألفا في العام الواحد. وأثارت هذه الأرقام، الدعوات للحكومة ورئيس بلدية لندن لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتخفيض نسبة التلوث للحد من هذه الخسائر البشرية. ومع الإجراءات المشددة التي اتخذتها بلدية لندن لمواجهة هذه الأزمة الحقيقية التي شهدت تحسنا منذ عام 2010، يتوقع ان ينخفض هذا العدد. ورغم ذلك تؤكد الدراسة انه في حال ظل الوضع على ما هو عليه:
فأن كل طفل ولد منذ عام 2010 فصاعدا قد يفقد حوالي 17 شهرا من عمره (الاعمار بيد الله) جراء ثاني أوكسيد النيتروجين، وغيره من الجزئيات الملوثة مثل «بي ام» مقابل 15.5 شهرا من عمر الإناث.
أن الفين و410 حالة من الحالات التي تدخل المستشفيات بسبب مشاكل في التنفس و 740 حالة من حالات أمراض القلب أو شرايين الدم لها علاقة بثاني أوكسيد النيتروجين و «بي ام».
الخسائر المالية الناجمة عن هذا التلوث تتراوح ما بين 3.7-1.4 مليار جنيه إسترليني في السنة.
ان ألف شخص يمكن انقاذهم حتى عام 2020 في حال ما طبقت الإجراءات الوقائية التي تتخذها بلدية لندن ويرتفع هذا العدد إلى ثلاثة آلاف اذا ما دخلت الحكومة على الخط.
ان حوالي نصف التأثيرات الصحية في لندن سببها هواء ملوث قادم من خارج لندن، من بينها أدخنة الديزل والأدخنة الصناعية القادمة من باريس وبلدان أخرى في القاهرة الاوروبي.
واتخذت وتتخذ بلدية لندن جملة من الإجراءات والمحفزات لتخفيف هذا التلوث البيئي ومواجهة هذه الأزمة الحقيقية الأكثر خطورة التي تواجهها العاصمة. فهي من جهة تسعى إلى تخفيف العدد الهائل والمرجع من السيارات الذي يتدفق على العاصمة من الجنوب والشمال ومن الغرب والشرق بحث الناس على استخدام القطارات. وتحاول اقناع أصحاب السيارات في العاصمة بعدم استخدام سيارتهم أو التقليل من استخدامها ان أمكن واستبدالها بالمواصلات العامة مثل القطارات الأرضيّة أو الحافلات.
والشيء بالشيء يذكر.. فان عدد الحافلات المريحة والحديثة والملائمة لذوي الاحتياجات الخاصة، المميزة بلونها الأحمر سواء ذات الطابق الواحد أو الطابقين، يبلغ 27 ألف حافلة.. انا اتحدث عن لندن فقط… وهذا يعطي القارئ صورة عن المواصلات العامة التي توفر عليك مشقة البحث عن موقف لسيارتك ناهيك عن توفير تكلفته المرتفعة التي تصل إلى أكثر من 3 إلى 4 جنيهات في الساعة الواحدة وفقا للمنطقة وقربها من وسط لندن. وطبعا الوقت الذي يضيعه السائق في رحلاته من وإلى العمل في ساعات الصباح والمساء التي يكون الازدحام فيها شديدا جدا.
وتحث بلدية لندن الناس على شراء السيارات الأقل تلويثا للجو مثل التي تعمل على الطاقة الكهربائية التي بدأت تلقى رواجا. وظلت البلدية تزود إلى وقت قريب، من يرغب بشاحن كهربائي للسيارة وتركيبه له في خارج منزله مجانا. كما زودت كثيرا من شوارع لندن بالشواحن.
وترفع البلدية «ضريية الطرق»عن مثل هذ السيارات وتزيدها على السيارات الأخرى. وتضع رسوما على السيارات الخصوصية التي تدخل منطقة مساحتها تقدر بميل مربع وهي الأكثر ازدحاما وسط المدينة. وغيرها وغيرها من الإجراءات الرادعة والمحفزات.
فاذا كان هذا هو حال مدينة مثل مدينة لندن فهذا يجعلنا نتساءل كيف يمكن ان يكون عليه الحال في عواصمنا ومدننا العربية التي ترى السيارات فيها تسير وعوادمها تبث سموما سوداء وكأنها قطارات الفحم الحجري، ناهيك عن الملوثات الأخرى التي لا تعد ولا تحصى.. والله المعين.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

علي الصالح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    التلوث الموجود عندنا بالنرويج قادم من بريطانيا عبر البحر
    فمصانع النرويج تحت الرقابة الصارمة للمحافظة على البيئة
    ولذلك فتكلفة بناء مصنع بالنرويج يزيد 30% عن السويد مثلا

    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية