ليبيا: «الدول الكبرى التي أسقطت النظام الليبي تقاعست في بناء الدولة الجديدة»

حجم الخط
0

 

اختير الوزير اللبناني السابق طارق متري مبعوثاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا في 12 ايلول/سبتمبر 2012، أي بعد يوم واحد فقط على اغتيال السفير الأمريكي في ليبيا كريستوفر ستيفنز، الذي نفذته عصابات ليبية مسلحة هاجمت مقره.
بقي متري في هذا المنصب حتى ايلول /سبتمبر 2014 حين عيّن الأمين العام بان كي مون الاسباني برناردينو ليون (مبعوث الاتحاد الأوروبي السابق إلى ليبيا) في هذا المنصب.
ولعل من المفيد التركيز على استنتاج قدمه متري في خاتمة كتابه لفهم الصعوبات الكبيرة التي واجهها في محاولة القيام بدور المبعوث المفكك للنزاعات بطريقة عادلة ومحايدة وموضوعية.
ويؤكد الكاتب في أحد المقاطع الأخيرة من فصل كتابه الختامي ان «الدول التي أسقطت النظام الليبي لم تفعل إلا القليل من أجل بناء الدولة الجديدة». وبرغم ان صناعة التوافق الوطني، حسب قوله، هي مسؤولية النخب السياسية في المقام الأول، فان النخب الليبية قصّرت تقصيراً خطيراً في هذا المجال وكانت قليلة الخبرة ومستعجلة لقطف ثمار السلطة واقتسام «الدولة الغنيمة». أما الدول التي أسقطت النظام (شأنها شأن أجهزة الأمم المتحدة) لم تعرف الكثير عن ليبيا وظلت تعتقد أن الليبيين ومن دون جهد لبناء دولة مركزية قادرون على معالجة مشاكلهم القديمة والمستجدة وتركت البلد في حالة فوضى سياسية وميدانية.
وبعد محاولات متكررة لتنظيم حوار سياسي فاعل في ليبيا أجراها متري، أبلغ في مجلس الأمن الدولي ان إجهاض الحوار السياسي الذي دعا إليه في 18 و 19 حزيران/يونيو 2014 ضيّعَ على ليبيا فرصة قوية للتأكيد على أن المواجهة المسلحة لن يتحقق فيها النصر لأحد ولن تأتي لمصلحة ليبيا.
وعلى الرغم من ان متري حظي بدعم شخصيات فاعلة في الأمم المتحدة، ومن بينها جيفري فيلتمان، وكيل الأمين العام للشؤون السياسية (المساعد السابق لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، وسفير أمريكا السابق في لبنان) بالإضافة إلى يان الياسون، نائب الأمين العام ووزير خارجية السويد الاسبق، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، فان بعض خصوم مواقفه من سياسيي ليبيا اعتبروا أنه ينتمي إلى خط سياسي منذ كان عضواً في الحكومة اللبنانية التي ترأسها الرئيس فؤاد السنيورة.
ويشير في الفصل الرابع من الكتاب إلى انه استُقبل بتظاهرة منددة بزيارته لكتائب «الزنتان» طالبت باستقالته مستنكرة انحيازه المزعوم، واعترضت على وجود عربي على رأس البعثة الأممية. وفي مقابلة له مع إعلامية شابة بعد التظاهرة سألته عن علاقة سياسته في بلده بمواقفه في ليبيا، فأجابها انه ليس ممثل لبنان في ليبيا. فأضافت قائلة انه في دوره الوزاري السابق في لبنان انضوى في المحور السعودي ـ المصري الاماراتي ما أسهم في اختياره للعمل في الأمم المتحدة لتحقيق أهداف هذا المحور. ولم تمضِ فترة طويلة حتى اتُهم متري من قبل بعض السياسيين، حسب قوله في الكتاب، بانحيازه إلى المحور القطري التركي ومؤيديه في ليبيا.
وكان أشار في الفصل الأول إلى انه ظل على علاقة جيدة بسائر القيادات العربية التي لعبت دوراً بارزاً في ليبيا، وحاول تحسين علاقة الدولة الليبية الجديدة بها. وبين هذه الدول قطر والإمارات العربية المتحدة ومصر وتونس وغيرها.
إلا انه كان يشعر بتحفظ المندوب الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين تجاه ما حدث من تبديل في النظام الليبي ومن محاولات «تعويم» النظام الجديد، عبر الأمم المتحدة. ويقول في الفصل الأول من الكتاب: «أجريت محادثة طويلة مع المندوب الروسي فيتالي تشوركين، الذي عرفته من قبل عندما كلفني مجلس الوزراء اللبناني الذهاب إلى مجلس الأمن أيام العدوان الإسرائيلي لعام 2006. يومها كان تشوركين أكثر أعضاء مجلس الأمن الدائمي العضوية استعداداً لإدانة العدوان الإسرائيلي». ويضيف: «لم يخفِ المندوب الروسي شكوكه في نجاح العملية الانتقالية في ليبيا. فالتدخل الدولي الذي أدى إلى إسقاط نظام القذافي لا يكفل وضع ليبيا على طريق النجاح». وحذره انه إذا أخفق في مهمته فان الدول الكبرى التي ساهمت في تبديل النظام في ليبيا، ستلقي باللوم عليه وتحوله إلى «كبش محرقة» لتتجنب الاقرار بفشل سياساتها. وأفهمه تشوركين أن روسيا لم تمارس حق النقض ضد قرار التدخل العسكري في ليبيا (رقم 1973) خشية من مجزرة قد يرتكبها نظام القذافي ضد المدنيين ولكنها لم تقدم أي شرعية للدول الكبرى بالذهاب في العملية إلى أبعد من حماية المدنيين، ولذلك تحفظت في مواقفها في مجلس الأمن إزاء تدخلات عسكرية في دول أخرى في المنطقة من دون موافقة قادة هذه الدول، في مناسبات لاحقة.
ويذكر في الفصل الثاني ان رئيس الحكومة الليبية السابق علي زيدان، وفي زيارته لنيويورك للتحدث أمام مجلس الأمن في آذار/مارس 2013، عبّر عن رغبته في الاجتماع بالمندوب الروسي (رئيس المجلس لذلك الشهر) برغم ان الروس لم يُحسَبوا أصدقاء للثورة الليبية.
وفي تشرين الاول/اكتوبر عام 2013، وتعليقا على تقرير في صحيفة «التايمز» اللندنية ان منظمة «القاعدة» تسعى للحصول على مخلفات نظام القذافي من الصواريخ ومادة اليورانيوم، يذكر متري في الكتاب ان تشوركين تحدث إلى الصحافة على ضوء إمكان انعقاد جلسة استثنائية لمجلس الأمن لافتاً إلى خطورة إنتشار الأسلحة المدمرة المتطورة في ليبيا وتصديرها، بما في ذلك أسلحة المواد السامة، ومقترحاً على مجلس الأمن إصدار قرار يمنع تصدير الأسلحة من ليبيا وبفرض العقوبات عليها في حال المخالفة.
وفي الفصل الثالث «تعثر العملية السياسية» يشير إلى واقعة حدثت في نهاية عام 2013 تدعم مقاربته بأن بعض الدول الكبرى لم تكن ترغب في حل أزمة الدولة الليبية (بعد الثورة) حيث يقول (في ص 221): «واستغربت جهل أو تجاهل سفيرين يمثلان دولتين دائمتي العضوية في مجلس الأمن (لا يحدد هويتها ولكنهما على الأرجح من الدول الغربية) مما قاله ممثلاهما في جلسات المجلس. فلم يوافقاني القول أن الحوار الوطني العام الذي لا يُقصي احداً صار أولوية الأولويات، وهو الباب إلى معالجة قضية السلاح والمسلحين في ليبيا. بل قالا أن إصلاحُ وتعزيز المؤسسات الأمنية (تدريب نواة للجيش الوطني الليبي في الخارج) هو الأولوية، حسب ما أتُفق عليه ثنائياً بين الدولة الليبية ودولتيهما. وقد نصح متري بالتخلي عن المهمة التي أوكلتها قيادة مجلس الأمن إليه لأن دولاً ذات تأثير في ليبيا تفضل العمل بمفردها. ويشير إلى انه كان قد ضاق ذرعاً بممارسة تلك الدول المصرة على حقها بمعرفة الشاردة والواردة في عمل الأمم المتحدة.
ويضيف قائلا (ص 222): «لم يخفِ أحد السفراء غضبه من كلامي وزعم أني أرغب في إحتكار تفسير مواقف الساسة الليبيين على طريقتي «الشرقية» وان هؤلاء يصارحون «الغربيين» بما لا يبوحون به لعربي! فاختلف معه سفير آخر حول هذا الموقف.. ثم يقول في المقطع التالي: «تميز السفيران الفرنسي والايطالي عن الآخرين بمخزونهما الثقافي ولم يكثرا (على غرار سواهما من الحاضرين) من الأفكار المسبقة والأحكام النمطية». ويستطرد: «نظر السفيران الفرنسي والايطالي إلى بناء الدولة (الليبية) من زاوية التصدع الكبير في البنيان الوطني، وسألاني عن فرص التوافق بين الأطراف المتنازعة، في ظل الإنكفاء إلى الهويات ما دون الوطنية. وكانا أكثر إدراكاً لمسؤولية أصدقاء ليبيا في درء تلك المخاطر، ما دعاهما إلى تأييد المساعي التي أقوم بها مع القوى السياسية، فيما لم يكترث الآخرون بما صنعه التاريخ وبتأثير الماضي لفهم الحاضر».
وفي نهاية الفصل الثاني بعنوان «عسر التحول الديمقراطي» يثير المؤلف قضية أساسية ما زالت تطروحة حالياً ألا وهي مفهوم «مسؤولية الحماية» في المجتمع الدولي عموماً ولدى الأمم المتحدة وفي ضرورة التدخل الدولي في ليبيا وغيرها. وكان قد طرحها في محاضرة بهذا الشأن القاها في روما عن «أخلاقيات التدخل الدولي» قبل عودته إلى طرابلس الغرب من مهمة دولية قام بها.
وقال: «كان عليّ ان أتعامل مع السؤالين المحرجين اللذين يرددهما الكثيرون: هل يستتبع التدخل لحماية المدنيين بالضرورة إسقاط النظام الذي يعتدي على مواطنيه؟ وهل يكفي إسقاط النظام وترك البلاد لأصحابها ليتخبطوا في حالة فوضى؟ صحيح ان حماية المدنيين من عنف النظام بدت متعذرة ما لم تسقطه. لكن التدخل العسكري مجازفة كبيرة بالمستقبل إذا تم القضاء على النظام كله ثم حصل توقف». وهذا التوقف وصفه الكاتب بالمأزق الأخلاقي الذي لا يريد المعنيون الاعتراف به عندما تطغى المصالح ولا تأمر باستئناف التدخل.
ويشير إلى ان فشل التجربة الليبية ساهم في العزوف عن حماية المدنيين من انظمتهم في أمكنة اخرى. وكان من الضروري ربما إرسال بعثة أممية قوية وكبيرة إلى ليبيا فور إنتهاء العمليات العسكرية وتكليفها الشروع في بناء الدولة الجديدة.
لا شك ان هذا الكتاب يتضمن تفاصيل دقيقة وهامة عن الخلافات بين الجهات الليبية المختلفة وارتباطاتها بدول إقليمية وخارجية وبايديولوجيات متنوعة ومصالح مادية كبيرة نظراً لثروة ليبيا الضخمة في مجال الطاقة والنفط.
وتجدر الإشارة إلى كون متري بذل مجهوداً كبيراً لإنجاح مهمته، وتحاور مع الجميع وحاول جمع الأفرقاء المتنازعة على طاولات حوار في أكثر من مناسبة. ولكن، لا يبدو أن سياسة «الفوضى الخلاقة» التي تمارسها بعض الدول الكبرى للسيطرة على خيرات بلدان الشرق الأوسط الغنية بالمواد الأولية، ومنها ليبيا تشمل بالفعل إنشاء أنظمة ديمقراطية مستقلة القرار تسودها العدالة السياسية والاجتماعية، لأن مثل هذه الأنظمة قد تتضارب مصالحها مع مصالح الدول الكبرى وشركاتها الضخمة والمتعددة الجنسية للنفط والطاقة وتصدير الأسلحة.
طارق متري: «مسالك وعرة»
دار رياض الريّس للكتاب والنشر»، بيروت 2015
340 صفحة

سمير ناصيف

إشترك في قائمتنا البريدية