■ إلى ليروس، الجزيرة المعزولة بجمالها وبساطتها، بحبها للحياة المعلقة بين البحر والسحاب أخذتني دروب اللجوء السوري مرورا بأماكن لم أتخيل ذات يوم أن أصلها.
بعد أن نزلنا من الطائرة المتخمة بالسائحين في جزيرة كوس، حجزنا تذاكرنا وركبنا السفينة في الطريق إلى ليروس، جلسنا مع غيرنا من المسافرين على مقاعد كمقاعد طائرة فارهة.
تحركت السفينة، وماجت الأمواج والبحر الصاخب بالسفينة العنيدة..
كاد أن يصيبني الدوار حين خرجت إلى سطح السفينة، الرياح تعصف وبالكاد أستطيع الوقوف، أقرر العودة إلى مكاني وصور اللاجئين الذين عبروا هذا البحر بقارب مطاطي تطرق مخيلتي، هل هي إرادة الحياة التي دفعتهم إلى هذه المغامرة، أم شبح الموت والخوف الذي كان كغول يطاردهم. بعد حوالي ساعتين وصلنا ليروس، الجزيرة اليونانية الواقعة على مرمى موجتين وحجر من تركيا، في رحلة للم شمل شتات القلب والعائلة ولو لأيام فقط.
رست السفينة.. حال وصولنا الفندق استأجرنا تاكسي للوصول إلى منطقة اللاجئين (المعسكر)
مر من الوقت أكثر من ربع ساعة ولم نصل، اقترب التاكسي من منطقة أحراش في الطرف الآخر من الجزيرة المدينة، ومن البعيد رأيت أختي التي فقدت زوجها تحت التعذيب في معتقلات النظام السوري، تقف مع صغيرها عند بوابة المعسكر بانتظارنا، كان وجهها حكاية تعب لا تنتهي.. قدمان مثبتتان في الأرض وعينان مغمستان بالمرارة. ثم التحقت بنا بناتها الأربع ليكملن حكاية العذاب التي حملنها على ظهر قارب مطاطي يعاندن الموج والغرق.
لم تشفع الدموع لكل الغياب والعتب على ثقل الايام التي تكومت فوق أكتافهم دون ضمة قلب او تربيتة يد.. كان لقاء متخما بالحزن والعتب.
في لحظة اللقاء الذي تحول إلى نشيج يشبه العويل، بكى رجل شرطة وشرح بإنكليزية ركيكة أن هذا المكان أفضل لهم من سورية، سائق التاكسي الذي نقلنا إلى نقطة المعسكر بكى معنا وكأنه أحد إخوتنا، وفي اللحظة ذاتها كان يقف رجل شرطة آخر تحول إلى صوت بلا روح تهيأ لي أنه يخرج من آلة، طلب الأوراق الثبوتية لأختي وعائلتها، وجوازات سفرنا وسبب الزيارة، ثم منعني من الدخول إلى المعسكر، كنت أود أن أعرف كيف تعيش.
وبدأ سيل من الأسئلة لماذا.. ومن أين… وكيف أسئلة تشعرك بأن اللجوء في تلك البقعة المنسية من العالم تهمة لا يحب أحد ان تلتصق به، وإن كانت ملامحه تفضحه.
في ليروس لا يرى اللاجئ بهاء المكان، لا يرى عشق الأخضر للأزرق اللازوردي، وذوبان الجغرافيا في عمق التاريخ، بل يرى غيابه عن الحياة، إقصاءه عن الحلم، هناك رأيت طفلا يبكي غياب المدرسة والكتاب، وطفلة تبحث عن صديقاتها اللواتي لمهم الموت وباتوا صورا معلقة في الذاكرة.
إلى بوابة المعسكر، كان يعبر اللاجئون الكرافانات (البيوت) في طريقهم إلى ما وراء السياج ليستنشقوا انفاس الحياة. كان كل ما فيهم لاجئ، حلمهم لاجئ، لغتهم لغة اللاجئ، كانوا يمضون أيامهم كأنها قطعة من العمر خارج الروح، لن تعد من أعمارهم ولن تضاف إلى ذكرياتهم. يرمقون الأفق بنظرات حائرة تشدها كسرة الخيبة حيناً وبريق الأمل في لحظة أخرى.
هناك في المعسكر وما حوله تراهم ينبشون السماء علها تدلهم على نجمة لطريق يرتمي وراء البحر، يبحثون في التراب عن أرض ثابتة ووطن، عن مساحة بعيدة عن أيام الموت والعبث والضياع.
كلما اقتربت من المخيم «النقطة الساخنة « التي كانت مركزا للعمليات العسكرية إبان الحرب العالمية الثانية وأصبحت الآن معسكرا مسيجا يفصل اللاجئين عن سكان الجزيرة، أو حتى عن السائحين الذين جاؤوا من أقاصي الأرض بحثا عن الهدوء والجمال، كنت أرى عددا أكبر من اللاجئين يمشون وكأنهم يتحركون في أحياء وبيوت كانت لهم في وحي من خيال. في منطقة المعسكر بيوت مهجورة بعضها مهدم وبعضها تخترقها رصاصات منذ الحرب العالمية الثانية شوهتها وتعيد منظر الخراب إلى ذاكرة العيون الحزينة. يقول أهل المعسكر من اللاجئين إنها كانت بيوتا للمجانين يتوسطها مشفى للمجانين، ولكن وبعد زيارة المتحف الحربي في الجزيرة تبين أن ما قيل عنه مشفى كان قبلها مركزاً للعمليات العسكرية في الحرب العالمية الثانية، اما الكرافانات (البيوت) فقد تم تشييدها على عجل بدل فسحة كانت على ما يبدو أنها ملعب كرة قدم.
كانت في الجزيرة حياتان، حياة مسيجة بالأسلاك ومدججة بالجنود والعسكر، وحياة أخرى وادعة ترتمي على قمة جبل أو تتمدد تحت شمس دافئة على شاطئ البحر.
وبين هاتين الحياتين كان خميس وأبو تيسير وهما لاجئان أحدهما فلسطيني والآخر سوري يتشاركان درب الحلم في الهروب من المعسكر (السجن).
كنا نراهما في الصباح يغادران المعسكر نحو حلم ربما يتحقق، وفي المساء كنا نراهما في طريق العودة يجرجران غياب يوم وولادة حلم ليوم آخر، كانا يتدحرجان صبحا ومساء كصخرة سيزيف التي لا تمل السقوط ولا تتعب من الصعود.
خميس شاب غزي ترك عائلته وباع بيته على أن يتم تسليم البيت المباع بعد عدة أشهر توقع أن يكون في وقتها صار لاجئا رسميا في بلد أوروبي ما، ثم يستقدم عائلته، ولكن حساباته لم تنطبق على حسابات العالم الخائف من اللاجئين، وتأخرت أوراق لجوئه وعلق في الجزيرة النائية لتصبح عائلته في العراء بعد طردهم من البيت بانتظار هجرة ولجوء لم يأتيا بعد.
أما أبو تيسير فهو سوري من الجولان يحاول أن ينسى خذلان أخيه الذي تركه وحيدا في الجزيرة ولم يبق أمامه إلا حلم اللجوء وانتظار ان ترسو به الجغرافيا في مكان يبدأ منه كتابة بداية جديدة.
ام عامرالتقينا بها ونحن نجلس على شاطئ قريب من المعسكر، كانت تتوق للكلام ولقص حكايتها، هي سيدة كبيرة في العمر، جاءت من ضواحي دمشق هربا من الموت الذي يجتاح المكان، حملت معها كتبا لتعلم اليونانية والألمانية والهولندية بخمسة ايام، زوجها في ألمانيا وهي بانتظار لم شمل تأخر وباتت معلقة مع أولادها وأحفادها في هذا المخيم.
ابو احمد رجل مسن سبقته زوجته إلى ألمانيا أيضا، أما هو فيمضي نهاره بانتظار ان تحمله الأيام اليها ذات يوم قبل ان تهد جسمه لوثة الحنين. صبيتان فلسطينيتان، سبقهما الأهل الى ألمانيا، وهما معلقتان في ظل عائلة أختي بحثا عن الأمان في وحدتهما على شاطئ قصي في ليروس واستعصى لم الشمل عليهما لتجاوزهما عمر الثامنة عشرة ببضعة أشهر وعام. صبيتان جاءتا للسلام علينا، هما من مخيم حمص، كانتا تضحكان وتتكئان على بعضهما بعضا كغصني بان صغيرين، قتلت أمهما في السلمية، فغادرتا خوفا من الموت الذي مازالت كوابيسه تطاردهما.
تلك قصص بعض اللاجئين التي تناثرت أمامي، أما أهل الجزيرة فقد ترى المحبة والتعاطف في عيون بعضهم بقدر ما ترى الخوف والحذر من ملامح لاجئ متوسطي رماه القهر على شواطئهم. ولكن بعض المحبة لم تنس اللاجئين خوفهم من الماضي الذي خلفوه وراءهم، ولم تستطع أن تعزز ثقة اي منهم بالقادم بعد أن خذلهم العالم أجمع.
ذات يوم، قرر أبو صالح وشباب آخرون من المعسكر أن يسبحوا ويبتعدوا في عمق البحر، ولم يكن يعلم بوجهتهم إلا الله. على مرأى من نظري رأيتهم وقد وصلوا عمق البحر وحاول بعضهم التسلل إلى سفينة راسية… لم ينته المشهد عند هذه اللحظة الحاسمة ، بل استمر بمجيء الشرطة التي طوقت المكان وبدأ رجالها بالنداء على أبو صالح وجماعته.
وقف رجال الشرطة بانتظارهم على الشاطئ وجاء أبو صالح ورفاقه تباعاً حيث بدأت الشرطة في التحقيق معهم، وبعد طول جدال تركتهم ليمضوا وهم يجرون أذيال حلم مبلل بملح البحر. كنت أعتقد أن المشهد انتهى عند هذا الحد، ولكن ملامح الشرق التي ترتسم على وجوهنا مع عائلتي وعائلة أختي جاءت بالشرطة إلى طاولتنا في المطعم حيث كنا نجلس نتبادل الذكريات والضحكات. وفي لحظة واحدة، أصبحنا نحن أيضا متهمين بمحاولة الهروب من ليروس، أنقذنا جواز السفر الأجنبي المعمد بأسمائنا وعزز من براءتنا من اللجوء إلى أطراف هذه الجزيرة المنسية بعد أن نشر الجنود غيمة من الضيق سرقت فرحتنا بهذا اللقاء من بين الرموش.
دحضنا تهمة اللجوء، أو محاولة الهرب، واعترضنا وغضبنا، ثم غادر الجندي اليوناني ممتعضاً، في حين بقيت قامته القصيرة ونظراته العنصرية معلقة في وجوهنا، ولم نستطع بعدها أن نبتلع بضع اللقيمات التي كانت ترتمي في صحوننا كجيف باردة، ولاحقتنا الغصة التي علقت في حلوقنا حتى لحظة الوداع.
لا يعيش في المعسكر لاجئون من سورية فقط، بل هناك لاجئون من العراق وأفغانستان واريتريا و….
قيل لنا قبل يوم من وصولنا إلى الجزيرة، أبلغت مفوضية اللاجئين التابعة للامم المتحدة اللاجئين الأفغان أنه سيتم ترحيلهم من المعسكر إلى بلادهم، ما أدى إلى موجة عنف وتكسير وتحطيم أغلب محتويات المعسكر من قبل اللاجئين الأفغان بالتعاون مع لاجئين آخرين تعاطفوا معهم. أحداث العنف أدت إلى مزيد من التضييق على اللاجئين جميعهم في المعسكر وحرمانهم من الطعام ليوم كامل، ومنعهم من الخروج وإحضار تعزيزات عسكرية في محيط المعسكر.
الأفغان هم الأقل حظا وتبين أنه سيتم ترحيلهم فعلا بعد أسبوع من الحادثة الأولى، وتم إبلاغهم بهذه الحقيقة وتسليمهم أوراقا رسمية بهذا الشــــأن بالتزامن مع وجود تعزيزات عسكرية في المكان خوفا من موجة عنف جديدة..
الثرثرة والإشاعات داخل المخيم لا تتوقف، لا تكل ولا تمل، وكل حكاية تصبح شخصا له رأس كبير بيدين وقدمين يمشي في المخيم ويكبر كل ساعة، إشاعات سرت عن إجراءات أكثر قسوة، وإشاعات أيضا تجول في المعسكر عن مظاهرة مناهضة لوجودهم في ليروس، حيث سيخرج أهالي ليروس للتنديد بوصول اللاجئين إليها ولكني لم أتبين دقة هذا الكلام ولم أر هذه التظاهرة.
بعد أسبوع من فرحة اللقاء والخوف من المجهول الذي قد يجمعنا بأحبتنا مرة أخرى أو قد لا يفعل، جاءت اللحظة التي سنترك فيها الجزيرة القصية ونعود إلى حياتنا.
كان الوداع نشيجا مكتوما، لم يكن صريحا كما كان اللقاء.. أفلتت بعض الآهات منا،
كنت أريد الوداع سريعا خاطفا بلا التــــفاتة إلى أحـــبة تركناهم في دروب لجوئهم يمشون الهوينا في الجزيرة.
تركنا الجزيرة وتركنا أحبتنا وراء السياج في حلمهم المدفون في السحاب، في صهيل خيول الأمواج حين تغضب. تركتهم وهاماتهم تعانق الجبال وأحلامهم تسبح في السماء خارج السياج والجزيرة إلى عالم قد يكون أرحب.
٭ إعلامية فلسطينية
سعاد قطناني
ليبارك الله في قلمك الفلسطيني أيتها الكاتبة اللمع.إنه عرض كالبنوراما : فيه إحساس وحسّ وسمع.فهكذا تكتب التحقيقات الميدانية بحرْفية وبروح المعاناة والدمع ؛ لأنها قضية إنسان مروّع ؛ لا مجرد ( روبرتاح صحفي ) لزيادة توزيع النسخ بالبيع.
سلمتْ يَراعُكِ على هذا الأسلوب القصصي الرائع…
من زمان لم نقرأ من إبداعِكِ في هذه الصحيفة، يا صديقتي الغالية سعاد… !!!
وفقكِ الله وسدَّد خطاكِ أينما حللتِ وأينما نزلتِ…
مقال أكثر من رائع
ابي وامي وابنت اختي في جزيرة ليروس وامي مريضة سكري وضغط وقلب وابي ايضا مريض وانا اريدهم عندي في السويد ولااريده تقديم اللجوؤ في اليونان لان اليونان تريد مساعدة فكيف لليونان ان تقدم المساعدة ثمن دواء 5 يورو لم يستطيعو دفعها لاامي