ليس قبل التسوية التاريخية والاستواء الجمهوري

حجم الخط
0

لا تزال السجالات الفرعية تتفجر بفعل فاعل من هنا وهناك، تثير غبارا يجعل من تركيز الرؤية على محور المعضلة التي تحول دون تحرر الجزائر من قيود الوضع المفروض منذ الاستقلال، أمرا مستحيلا، إذ في كل مرة تعاود جسد الأمة آلام الاغتصاب الذي حصل للسلطة صيف 1962 تعمل أجهزة تسويق الوهم المتجددة جيليا وآليا، على كسر أسئلة العصر، التي هي وحدها كفيلة بتنوير الناس وجعل وعيهم يستوي على عودة الأمر الذي سيمكّن البلاد من تصحيح المسارات التي تولد المضار في محطات عمر الجزائر المستقلة.
من ذلك ما تفجر من سجال حول دور الجيش في السياسة، إثر إقدام السياسي والوزير السابق والباحث نوردين بوكروح على طلب تدخل الجيش للإطاحة بسلطة بوتفليقة، التي استولت على كل أجهزة الدولة الحساسة، واضعة بذلك البلد في حالة شلل سياسي تسبب في شلل اقتصادي، قد يهوي بالجميع تداعيا للأزمة المالية الخانقة، التي تعترف بها سلطة بوتفليقة ذاتها، والناجمة ليس عن تراجع أسعار النفط، كما يسوق في منابر الإعلام المأجور، بل عن فساد فوقي وعمودي غير مسبوق، وإخفاق فظيع في تسيير الشأن العام.
لكن ثمة أهمية ظرفية لوضع الجيش ودوره في الحياة السياسية، تجعلنا نستثنيه مؤقتا من مظاهر التهويل الفرعي المتعمد من أجل تمييع جوهر الحقيقة وتحويل الأنظار عن محور الأزمة الذي هو تاريخي سياسي، ونحاول معرفة طبيعة الغياب والحضور السياسيين للجيش الجزائري، ومصداقيتهما في واقع الجزائر، والظروف التي قضت بتداخلها تاريخيا وسياسيا، وما الذي يتوجب معرفته ثم إنجازه لفك هذا الاشتباك الملتبس الذي أتعب الجزائريين وحال دون خلاصهم من وهم المؤسسات المدنية وسلطتها الشكلانية، التي تعيد إنتاج الماضي بلا تاريخ، لكونها ليست حقيقة تاريخية، شأنها شأن الأوراق النقدية التي يُعاد طبعها بلا مقابل في السوق.
ثمة مغالطة تاريخية تسكن الخطاب الوطني عموما، مفادها أن الجيوش الإفريقية والعربية، لاسيما في الدول المحورية الكبرى هي التي أنجبت الدولة الوطنية وأسستها بعد الاستقلال، وهذا إيهام لغوي يستبطن خطابات الوطنية، ويعمل كل مرة على التشويش على الوعي الوطني الناشئ أو المتجدد، وفق تطور مسألة الدولة والتاريخ في الفكر الإنساني عامة، مشكلتنا هي أننا ندرس العلوم الإنسانية بأدواتها وموضوعتها الكونية في كل الحقول، لكن في التاريخ الوطني وكل ما يرتبط بالذات ووجودها، ندرس الوطن بمنهج مغناطيسي حديدي حدودي لا يتعدى أعتاب القطر المقفل.
الوطنية الجزائرية والعرب إفريقية عموما منشأها مدني سياسي، وهي التي استقامت على وعي تراثي مشترك، أعادت من خلاله اكتشاف الذات القومية وجزئياتها القطرية، وشرّبتها للأجيال، خيالا وخطابا، نثرا وشعرا فكرا وعملا، فتفرعت عنها سبل التحرر والاستقلال وفكر التنمية والتدبير، بين منظر نخبي وعنفي عسكري، فالعسكري لم ينشئ ذاتا بنسقها ومعانيها وأمانيها، وما ينبغي لها، بل هو نتاج هذا الوعي بالذات بكل أبعاده القطرية والقومية، فقط تغلّب بأداة القوة التي ورثها عن لحظة العنف الثوري والكفاحي، من أجل استقلال تلكم الذات الواعية التي استنزفت أنهارا جارية من الحبر والدماء.
في النموذج الجزائري، ولا يختلف عنه الوضع في كثير من دور المحور العربي، كسوريا، مصر، ليبيا (القذافي) والعراق، تضخم الحضور العسكري في الوعي السياسي المؤسس للقطرية الخاصة، بفعل المصالح والطموحات الشخصية التي قد لا تسمح السياسة وحدها بدون أداة قوة بالوصول إليها. حرارة ذلك الطموح شعر بها آباء السياسة في الحركة الوطنية، وحاولوا إخمادها وكتمها مبكرا، وإذا لم لم يتيسر ذلك، فليخفف على الأقل من حدتها، عبر سلسلة من المقترحات الإجرائية كان أشهرها ما أوصى به مؤتمر الصومام وأولوياته الشهير، وعلى رأسها أولية السياسي على العسكري، على اعتبار أن الأول هو العقل المؤسس والمنتج للوطنية معنى ومشروعا، ومديرها وظيفيا. والثاني الآلية التي تجسد ذلك الإنتاج وتحميه على أرض الواقع.
طبيعة اللحظة العنفية أمالت الكفة للعسكري، وصار السياسي لا ينتج وعيا خطابيا أو خطابا واعيا، بل صار بوقا للعسكرة التي تم تنزيلها قسرا على كل مفاصل المجتمع، فاستحال الوطن كذاك الذي يمشي على يديه رأسه في الأسفل وقدماه في الآفاق!
وشخصيا استغرب ممن يتساءلون لماذا لم نصل بعد إلى حد الحسم في أبجديات البناء الوطني، من هوية، وبُنى مجتمعية واقتصادية صلبة تمضي وفق نسق واضح وثابت؟ ولماذا نعيش فوضى دستورية بعضها يعدل بعضا وبعضها ينسخ أو يمسخ بعضا؟ وكأن الخواء التأسيسي للقُطر الذي حصل باستيلاء العسكري على مقاليد إدارة المجتمع، لم يتم استيعاب تبعاته الموضوعية والمنطقية، فلا شيء بلا تداعيات آجلة أو عاجلة، وهذا ما هو حاصل في تجربة الوطن والوطنية المصادرين في الجزائر منذ الاستقلال.
إنه وعي خاطئ نشأ بنشوء الخطيئة الكبرى، يوم قتل العسكري السياسي، قربانا للطموح الشخصي والمصلحة الشللية ذات مرحلة قلقة من عمر الوطنية، والأسئلة التي تطرح في ساحات السجالات العامة والنخبوية على حد سواء، تكشف عباراتها ومفرداتها عن هذا الوعي الخاطئ، الذي تتجلى لطخاته في بياض اللغة، حين تتلبس المعاني والدلالات، فترى المدنية نقيضة أحيانا للعسكرية، وأحيانا أخرى للدينية. مثلما ترى السياسة نقيضة للاقتصاد من جانب، وملازمة للمال من جانب آخر، والجمهورية هي الترجمة الحقيقية للديمقراطية. وكل ذلك كان من حصائل الاقتياد القسري العسكري للمجتمع وفق منظور تسلطي خالص قاطع مع الإرادة في التحرر، التي نشأت بنشوء الوعي بالذات في حقب ما بعد الاستقلال الوطني.
وعليه ليست المسألة الجدلية حاصلة في لغة البيانات المتضادة بين دعوة الجيش للتدخل لقلب السلطة، وتنزه هذا الأخير عن السياسة، سوى صورة من صور النفاق الخطابي لا غير، لدراية أو لادراية هؤلاء وأولئك بأن المعضلة هي أعمق بكثير من رغبة إجرائية متضاربة، بل هي كامنة في وعي مبتور بقضية الانتظام الوطني وقدسية مؤسساته ودستوره، عملت سلطة النظام المتعسكر، أو العسكر المنتظم في سلطة على استبقائه هكذا مبتورا واقفا على أرض خلاء.
والمؤلم أن تجد الإرادة المستمرة في الاستعمال العسكري لتسوية قضية سياسية تاريخية قديمة، تصدر في العادة من نخب يفترض أنها المناوئ الأول للمؤسسة العنفية، حين تدنو من فضاء السياسة، لما يمثله ذلك من تهديد منطقي للحرية أساس الحياة المدنية وترياق السياسة الأمثل عبر الأزل.
هذا الغوث النخبوي الصادح صداه في بعض محطات التجربة الوطنية، يظل زلالا أبديا يعتور مسار تجربة العقل السياسي الوطني، من يوم اخترقه رصاص العسكري، قبل وبعد الاستقلال، لاسيما في الدعوة والترحيب بالانقلابات التي قيل إنها جاءت لتحمي الجمهورية، لا بل الديمقراطية!
من هنا يتضح أن فخ السقوط والتساقط الجدلي بخصوص أزمة السلطة في الجزائر إنما يستقر في طيات اللغة وعبثية توظيفها الدلالي، فمطالبة الوزير السابق بوكروح للجيش بالتدخل لقلب نظام الحكم، ومنح مفتاح الديمقراطية للجزائريين ثم العودة مشكورا إلى ثكناته! ورد الجيش ببياناته على أنه لا يتدخل في السياسة، وكأنه فعلا خارجها وخارج مدار السلطة، مع أنه حاضر في كل اجتماعات مجلس الوزراء ومجلس الحكومة، باعتبار قائد أركانه نائبا لوزير الدفاع الذي هو رئيس الجمهورية، هو اختزال سخيف لحقب من التأسيس الرمزي والوظيفي للذات الوطنية، حاول أحبار النظام ترسيخ وعيه بأن الجيش هو مؤسس الذات الوطنية، ومؤسس الدولة، وليس نتاج وعي تاريخي عميق للعقل السياسي الوطني، بل هو العبث الذي يتوجب الخلاص منه من خلال إعادة التأسيس الوطني، وفق وعي جديد متجدد، يشمل تسوية تاريخية لكل المفاهيم التي لاكها المواطن بلسانه دون عقله، ويفكك كل الملابسات التي حضرت بآثامها عشية الاستقلال وفرضت نفسها وفق ترهات ووهم خطابي وطني فوقي رفضه، في ما بعد، الزمن، ولفظه وعي المواطن الجديد والمتجدد، الذي لم يسمع ولا مرة ببلدته دوي رصاص المستعمر، لكنه سمع مرارا رصاص العسكر، ويظل سعيه الحالي هو أن يستكمل مسار التحرر.

٭ كاتب صحافي جزائري

ليس قبل التسوية التاريخية والاستواء الجمهوري

بشير عمري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية