مأساة ترامب وملهاة جيجيك

حجم الخط
3

لعلّ سلافوي جيجيك، الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني الشهير، أكثر الناس تحمساً للبرهنة على جدارته بلقب خاصّ اقترن باسمه منذ سطوع نجمه: أنه إلفيس برسلي الفلسفة، بمعنى يُردّ إلى اشتهار المغنّي الأمريكي الراحل بالرقص القائم على الاهتزاز والنواس والتذبذب. والرجل الذي اعتاد مزج فلسفة هيغل بالنكتة القديمة السلافية أو اليهودية، والتحليل النفسي حسب لاكان بفيديوهات السخرية من الألبان والبوسنيين؛ اهتزّ أخيراً، ثمّ ناسَ وتذبذبَ، ليخرج بـ«أطروحة استفزازية» كما وصفها بنفسه، مفادها أنّ دونالد ترامب، المرشح للرئاسة الأمريكية عن الحزب الجمهوري، هو «ليبرالي الوسط»، أوّلاً؛ وهو، ثانياً، أقلّ خطراً من هيلاري كلينتون، مرشحة الحزب الديمقراطي؛ الأمر الذي يدفع جيجيك، ثالثاً، إلى حضّ الأمريكيين على انتخابه.
ولكي يُنصف الرجل، الذي يحظى بشعبية واسعة عالمياً (ولدى «يسار الممانعة» العربي، خاصة)؛ هنا اقتباسات شبه حرفية من تصريحاته في تبرير الموقف المؤيد لانتخاب ترامب. ففي حوار نظمته صحيفة الـ«غارديان البريطانية»، وأداره غاري يونغ، أواسط نيسان (أبريل) الماضي؛ قال جيجيك: «إقرأ ترامب جيداً ـ وأعرف أن هذا الأمر صعب ـ فإذا أفلحتَ في استبعاد حماقاته العنصرية والجنسية، سوف ترى أنه هنا وهناك، وحيث يقدّم مقترحات متكاملة، ليس سيئاً أبداً». وأيضاً: «ترامب مفارقة: إنه بالفعل ليبرالي الوسط، ولعله أيضاً أقرب إلى الديمقراطيين في سياساته الاقتصادية، وهو يسعى يائساً لإخفاء الأمر. وهكذا فإنّ وظيفة كلّ هذه النكات القذرة والحماقات هي التغطية على حقيقة أنه سياسي عادي تماماً من خطّ الوسط».
فاضح، دونما حاجة إلى أيّ تفلسف، أنّ النجم الهيغلي ـ اللاكاني يستسهل تصريف سياسات تمييز عنصرية وجنسية جسيمة وخيمة العواقب، إلى محـــــض «حماقات»؛ قبل أن يستسهل، بل يحضّ على، استبعادها من النقاش!
وفي مطلع حزيران (يونيو) الماضي، خلال حوار مع سيرجيو كانتوني على فضائية «يورونيـــــوز»، سُئل جيجيك إنْ كانت أمريكا تشهد ثورة مع ترامب، فأجاب: «بالطبع. ترامب مقزز كشخص، بنكــــاته العنصرية الرديئة، وابتذالاته، وما إلى ذلك. ولكن هل لاحظتَ، في الآن ذاته، كيف قال أشياء صحيحة تماماً عن فلسطين وإسرائيل؟
قال إن علينا أيضاً أن نرى المصالح الفلسطينية ونقارب الموقف بطريقة أكثر حيادية. قال إنه لا يتوجب علينا الاكتفاء بمنازعة روسيا، بل البحث عن حوار معها. حتى أنه طالب برفع الحدّ الأدنى للأجور. وألمح إلى أنه لن يلغي نظام الرعاية الصحية الذي أدخله أوباما». فهل ترامب ليبرالي وسط؟
يجيب جيجيك: «هذه هي أطروحتي الاستفزازية! لأنك إذا مسحتَ السطح المضحك، وأقرُّ بأنه خطير أيضاً، فإنّ ترامب مرشح وصولي ولعلّ سياسته الفعلية ليست سيئة أبداً»! والحال، هنا أيضاً، أنّ ما قاله ترامب عن الفلسطينيين يمكن أن يقوله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه، إذْ تظلّ عبارة «مصالح الفلسطينيين» غائمة وغامضة وفضفاضة؛ وفي المقـــــــابل، أعلن ترامب سلسلة مواقف منحازة لإسرائيل، انحيازاً واضحاً أعمـــى، وشبه مطلق، يبدأ من الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، ولا ينتهي عند توصيفه لذاته بـ»مؤيد إسرائيل الأكبر». أمّا الموقف من روسيا، فمَن قال أصلاً إنّ واشنطن في نزاع مع موسكو!
أخيراً، وقبل أيام، نقلت «القناة الرابعة» البريطانية تصريحات جديدة للفيلسوف السلوفيني، حين سُئل: إذا كنت أمريكياً، لمن تصوّت؟ «ترامب. إنه يفزعني. ولكني فقط أعتقد أن هيلاري هي الخطر الحقيقي. لماذا؟ لأنها شيّدت تحالفاً شاملاً مستحيلاً»، أجاب جيجيك؛ ثمّ أردف: «في كل مجتمع هنالك شبكة كاملة من القواعد غير المكتوبة، حول كيفية اشتغال السياسة، وكيفية بناء الإجماع. ترامب خلخل هذا، وإذا فاز فإن الحزبين الكبيرين، الجمهوريين والديمقراطيين، سيتوجب عليهما العودة إلى الأسس، وإعادة التفكير في الـــــذات، وقد يحــــدث شيء ما هنا. هذا أملي اليائس، اليائس للغايــــة، في أن يفوز ترامب. أنظر، أمريكا ليست بعد دولة ديكتاتورية، وترامب لن يُدخل الفاشية إليها، ولكن قــد يكون الأمر أشبه باستفاقة. سيرورة سياسية جديدة سوف تتحرك، وسوف تُطلق. ولكني مدرك تماماً أن الأمور بالغة الخطورة هنا، ليس فقط حول مجموعات التفـــــوّق العرقي الأبيض، ولكن إسمعْ: قال ترامب بصراحة، وهنالك تقرير يشــير إلى أنه قد يفعلها، وأنت تعرف أهمية المحكمة العليا في أمريكا. قال بأنه سوف يعيّن فيها أعضاء من اليمين، ولهذا فهناك خطر، ولكني خائف أيضاً من أن هيلاري سوف تساند هذه العطالة، وهي الأخطر بين الاثنين. لأنها من جماعة الحرب الباردة، وما إلى ذلك، مرتبطة بالمصارف، وتزعم أنها تقدمية».
فأي غرابة في أن يهتزّ برسلي الفلسفة المعاصرة، وأن ينوس ويتذبذب، إزاء ترامب؛ هو الذي، قبل ثلاث سنوات فقط، برّأ بشار الأسد من الهجمات الكيميائية على الغوطة، واعتبر أنّ «سوريا بشار الأسد ادّعت أنها دولة علمانية على الأقلّ، ولهذا فلا عجب أنّ المسيحيين والأقليات الأخرى تميل اليوم إلى الاصطفاف معه ضدّ المتمردين السنة»! وكيف لا يلجأ المرء إلى كارل ماركس، واستطراداً إلى عنوان واحد من مؤلفات جيجيك نفسه، لتوصيف حصيلة آرائه السياسية: «كمأساة أوّلاً، وثانياً كملهاة»!

مأساة ترامب وملهاة جيجيك

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بشير الزين/سوريا:

    يتحدث الكاتب عن الفيلسوف جيجيك و رأيه حول المرشحين للرئاسة الأمريكية وبعدها يقوض مصداقيته لأنه قال بأن سوريا بقيادة الرئيس صرحت أنها دولة علمانية . لا أعرف لماذا يشكك الكاتب في عقول وتحليلات السيد جيجيك و لا يجري مراجعة للمفاهيم الذي يستند عليها في تحليلاته وهل الرئيس الأسد هو الشر المطلق أم الجماعات المترزقة من تسمية نفسها ( معارضة ) وما لف لفها هم الشر المطلق بالإضافة لمن يساهم في الترويج لهم وتبرير أفعالهم .

  2. يقول عاطف - فلسطين 1948:

    مقال جميل جدا. ولكن اليست كلنتون المرتميه في حضن اسرائيل هي فعلا اخطر من ترامب الذي سيدعم ولكن مع مقابل.

  3. يقول عاصم عبد الله:

    نشكر الكاتب على نقله إلينا كلام جيجيك المهم والمعقول والمحترس، بخلاف تعليقاته هو.

إشترك في قائمتنا البريدية