مأساة غزة ومأساة العراقيين

■ إذا كان من الطبيعي والواجب التركيز على فضح جرائم القتل والتشريد التي يتعرض لها شعبنا الفلسطيني في غزة من قبل الإعلام العربي والعالمي، نظرا لحجم المأساة من جهة، ولأهمية القضية الفلسطينية وارتباطها بمستقبل المنطقة من جهة أخرى، بيد ان تزامن حدوثها بعد أسابيع من سيطرة «الدولة الإسلامية» وإعلانها «للخلافة» في الموصل، وتصريح السيد البارزاني بالانفصال ومشاركة إيران العسكرية في فرض الأمر الواقع لعراق مُقسم بحماية عملائها في بغداد، قد لا تشد أنظار العالم العربي ولا تشغل الرأي وتبعده عن ما يحدث في العراق، نظرا لعمق القضية الفلسطينية قوميا ودينيا وأهميتها في الشارع العربي والإسلامي، إذا أخذنا بعين الاعتبار ان القسم الخطير من جريمة تقسيم العراق والتطورات الأخيرة قد تم وقوعها خلال الأسابيع القليلة الماضية التي سبقت العدوان الإسرائيلي على غزة، وان تكريس هذا الواقع التقسيمي الجديد وتحويله إلى وضع قائم ودائم بالوجود الأمريكي والإيراني قد يحتاج إلى بعض الوقت لهضمه ومن ثم فرضه كحقيقة على الأرض. ففي الوقت الذي تقصف مدينة غزة بالقنابل، تتغير خارطة العراق الاجتماعية والديمغرافية ويتصاعد التهجير القسري الُمنظم للعراقيين، ويُفرغ البلد من مكوناته الأساسية، من خلال أجندات خارجية يتم تنفيذها تارة على يد المليشيات الطائفية الحكومية، وتارة من قبل التنظيمات الجهادية، حيث كان للعداء المصطنع ما بين طرفي الدين السياسي الإيراني التي يمثله النظام العراقي، ونقيضه الجهادي الذي تفرضه «الدولة الإسلامية» الأثر الكبير في خلق واقع عراقي جديد ينذر برسم خارطة جغرافية سياسية جديدة لبلاد الرافدين، بعد إزالة الحدود بين سوريا والعراق من جهة ودخول إيران في بغداد والجنوب من جهة أخرى.
من هذا المنطق، وفي الوقت الذي تصوب الدبابات والطائرات نيرانها على أهلنا في غزة، تثير تزامن تداعيات المشهد العراقي الأخيرة في مدينة الموصل، وقيام تنظيم «الدولة الإسلامية» بتهجير المسيحيين، الكثير من التساؤلات عما إذا كانت هذه المجموعة «الجهادية» هي المسؤولة فعلا في تخطيط عملياتها، ووضع إستراتيجيتها العسكرية والسياسية، خاصة ان المساحة الشاسعة التي استولت عليها، والمدة القصيرة التي استغرقتها في السيطرة على المدن، لا تتناسب مع قوتها العسكرية وتعداد قواتها البشرية.
لا شك ان توقيت عملية تهجير مسيحيي العراق من الموصل من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية» هو جزء آخر جديد من مسلسل مؤامرة التقسيم وحلقة جديدة تضاف إلى جرائم النظام الطائفي في بغداد ومليشياته، التي عبثت ببلاد الرافدين فسادا بقتلها وتشريدها للعراقيين في مدن وقصبات البلاد، خصوصا في العاصمة بغـداد وحزامها، حيث ان ما يحصل في الموصل وتلعفر هو نتيجة حسابية مكملة للممارسات الطائفية التي بدأتها الأحزاب الفئوية، من خلال محاولة تغييرها لديموغرافية المجتمع العراقي في بعض المدن، وتهميشها وتهجيرها للمكونات الأخرى، وبشهادة الأرقام التي نشرتها المنظمات الدولية، والتي تفيد بأن أكثر من ستة ملايين عراقي اضطروا إلى ترك منازلهم منذ بداية الحرب في العراق.
لا يخفى على أحد إن مشروع تهجير السكان الأصليين لبلاد الرافدين، وشطب 6 آلاف سنة من التاريخ الإنساني، قد يُسهل محو ذاكرة هذه الحضارة، ومن ثم قتل روحها المقدسة،. فقضية التهجير في العراق بشكل عام، والمسيحيين على نحو خاص، واحدة من أخطر المسائل التي تهدد الكيان العراقي، كما انها تمثل شهادة لتقارب وتجانس غير معلن في دور فصائل هذه التيارات الطائفية والمتطرفة من مليشيات الدين السياسي «الجهادية» وميليشيات إيران ووقوعهما في النهاية في حلقات مسلسل مخطط «رأس الهرم» لتنفيذ جريمة تفتيت العراق وتقسيمه، عن طريق الدين السياسي المتخلف والسني المتطرف، ويضع النقاط على الحروف لفهم الأسباب التي قد تعجل في تقسيم العراق، على الرغم من تباين الاتجاهات الأيديولوجية وغياب الصلة المباشرة المعلنة بين منفذي التقسيم وعرابيه وصناعه، ناهيك عن عدم معرفة الطبقات الدنيا المنفذة على الأرض حقيقة مرجعية زعماء هذه المجاميع والجهة الخارجية المرتبطة معهم. فالذي سمح لملالي إيران في احتلال العراق وتنصيب أحزابها الطائفية، هم نفسهم الذين أعدوا المكان والأمان لأبو بكر البغدادي ولدولة الخلافة الموصلية. إن ما لمسه العراقيون من تطورات سريعة على الأرض، خصوصا الإعلان عن دولة «الخلافة الإسلامية» دفع الكثير منهم إلى الحديث عن مخطط يستهدف البلد، في إطار مؤامرة خارجية لتفتيت بلاد الرافدين وإطالة الصراع بين أهلها. وهذا ما يدفعنا للتأكيد على ان الحفاظ على وحدة تراب العراق وشعبه لا يتم الا بمحاربة الثقافات الطائفية الدخيلة على ثقافة الأمة العراقية المتسامحة من قبل جميع القوى الوطنية العابرة للطوائف، المؤمنة بأن «الدين لله والوطن للجميع»، وليس بوضع «اليد باليد» مع تيارات طائفية متطرفة أخرى لا تعترف بالآخرين. ان نبذنا لطائفية «الولي الفقيه» لا يعني قبولنا بدولة «الخلافة البغدادية». فعراقنا له أكثر من 6 آلاف عام من الوجود والقوة، وهما تكفيان لإعادة بناء حضارته وإرجاع السلام والاطمئنان لإنسانه.
إن ما يحدث في العراق لا يقل خطرا عما يحدث لأهلنا في فلسطين، وإن كانت عيوننا تذرف دمعا على أهلنا في غزة، فإن قلوبنا وأجسادنا لا زالت تنزف دما على ما يجري في بلدنا العراق. وإذ كان حرصنا ومسؤوليتنا كعرب ومسلمين، هو في الدفاع عن شرف الأمة العربية والإسلامية والوقوف إلى جانبها في هذه الأيام العصيبة، فمن الطبيعي أن يكون اهتمامنا على ما يحدث في العراق بقدر ما يحدث في فلسطين.

٭ كاتب من تيار المواطنة العراقي

أمير المفرجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Saadoon:

    والله لانك محق في كل كلمه كتبتها. لان الدستور بنى على اساس طائفي. واتوا بطائفيين وانفصاليون من امثال البرازاني وغيره. الذي لم يتكلم عن العراق بل كل مانطق فهمه الاول والاخير جمهوريه كردستان.

  2. يقول أم محمد العراق:

    يبدو ان هذه المجموعات المتطرفة هي المفضلة لدى القوى صاحبة الشأن في مصير العراق. تقول لقد سمح للاحزاب الإيرانية في استلام الجنوب والأن يتم فصل الجزء الأخر . هذا صحيح ولكن ان المسؤول الأخير هم هؤلاء الذين يكملون المهة على الأرض حسبنا الله ونعم الوكيل

إشترك في قائمتنا البريدية