مع نهاية عام 2015 احتفلت الأوساط الأدبية التركية، بمناسبة مرور مئة عام على ولادة الأديب التركي الساخر عزيز نيسين، كما أعلنت ذات الأوساط أن نحو مئة كتاب في القصة والشعر والرواية والمسرح والمقالات صدرت له، وعندما قابلته في مدينة اسطنبول عام 1984 ذكر لي أنه صدر له 76 كتابا حتى ذلك الوقت.
كما تذكرت الأوساط الأدبية والاجتماعية الإنسانية التركية الإنجاز المهم الذي كان يفتخر نيسين بإنشائه وإنجازه، والمتمثل في مركز إيواء الأطفال اليتامى والمشردين الذي أقامه في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وما زال حتى يومنا هذا، حيث تعلم وعاش في هذا المركز آلاف من الفتيان والفتيات، الذين وصل بعضهم إلى أعلى المراتب الجامعية التخصصية، كذلك في مهن عديدة، والتقوا بالحياة العملية المنتجة والمثمرة، لأنه لم يشأ أن ينسى سنوات الفقر والحرمان والحاجة التي عاشها في سنوات عمره (1915- 1995).
عمل في سنوات فقره في عشرات المهن المتواضعة، بعد أن تم تسريحه من السلك العسكري، لأن هذا السلك على ما بدا، لا يقبل في صفوفه كتابا يمكن أن يكونوا مشاريع للمعارضة والفكر الانتقادي، لذلك فإن نيسين انتحل اسما غير اسمه، كي يتفادى الملاحقات التي أخذت تطارده في حله وترحاله، وأينما توجه. مع ذلك فقد أمضى سنوات عدة في السجون التركية بسبب مقالاته، أو بسبب مضامين بعض أعماله الأدبية. وأسس مجلات وصحفا عدة، أشهرها «ماركو باشا»، مع مغامرين آخرين من أمثاله، إلا أن هذه المطبوعات كانت تصادرها السلطات بسبب كتاباتها النقدية المعارضة.
منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، أخذت أعماله تدر عليه بعض المال، كما ذكر لي أنه تزوج ثلاث نساء، وكن هن اللواتي يطلبن الطلاق منه بسبب سعيهن إلى حياة مستقرة، في حين كانت حياة نيسين قلما تعرف الاستقرار، بسبب مطاردات السلطة له. وفي عام 1980 عندما حصل الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال كنعان إيفرين، تم إغلاق اتحاد الأدباء الأتراك الذي كان يرأسه نيسين، وتم منعه من السفر، وبسبب ذلك تم رفع قضية أمام المحكمة الدستورية التركية بسبب هذا الموضوع، إلا أنه حتى عام 1984 لم تكن الأمور قد سويت بعد.
تغريب
تعتبر عناوين بعض أعمال نيسين من العناوين الصادمة، وفيها قدر كبير من السخرية المرة، والظرف في الوقت نفسه، وهذا ينطبق على مضامين نتاجاته التي تصب في اتجاه ما يسمى «التغريب»، وأبرز من طبقه ونظر له الكاتب الألماني برتولد بريخت، حيث يريد الكاتب «تبعيد» العمل وعدم دمج المتلقي نفسه به، كما يريد وخز وإيقاظ القارئ أو المشاهد أو المستمع من حالات الاستلاب والتخدير والتتويه منذ زمن طويل، عل ذلك يعطي جرعات من الانتباه والاستيقاظ والوعي والإدراك على واقع مأزوم وغير سوي، ومن بين تلك العناوين «دكة السروال»، «وسام للحمار»، «أسفل السافلين»، «مجنون على السطح»، و»آه منا نحن معشر الحمير»، «الحمار الميت لا يخاف الذئاب» وغيرها.
نال عزيز نيسين عن كتاباته الساخرة عشرات الجوائز المحلية والعالمية، وأصبحت له شهرته الموزعة في أنحاء العالم ككاتب ساخر من الدرجة الممتازة، ومن العوائد التي حصل عليها من كتاباته، تأسيس مركز بعنوان «وقف أطفال عزيز نيسين».
من الكتابات الأكاديمية التي تناولت نتاجات نيسين وغيره من الكتاب الأتراك، يمكن ذكر ما كتبه إبراهيم الداقوقي في مجلة «عالم الفكر» الفصلية الكويتية في العدد (1) من المجلد الثالث عشر من سنة 1982: «إن الأدب التركي الذي يمتلك ماضيا عريقا في حقل القصة القصيرة، بدأ في العهد الجمهوري يمتلك ناصية الرواية أيضا، بحيث خرجت الرواية التركية من إطارها المحلي إلى الإطار الإنساني العالمي بفضل الروائيين العظام أمثال، كمال طاهر ويشار كمال وعزيز نيسين ومحمود مقال وغيرهم». وذكر أيضا «لم يولد تيار الواقعية الحديثة في القصة التركية إلا بريادة القاص التقدمي صبا علي وأدباء الولايات الذين بدأوا في معالجة مشاكل إنسان الأناضول وصراعاته، أمثال بيلباشار، إلهان كاروس، صميم قوجاكوز، سماك هاليكارناس، كما استطاع كل من عزيز نيسين وخلدون تنر المزج بين الحكاية والنكتة الظريفة في قصص قصيرة استأثرت باهتمام القراء».
وكانت وزارة الإعلام في الكويت قد أصدرت من ضمن سلسلة مسرحيات عالمية عملين مسرحيين لعزيز نيسين هما «إفعلها يا مت» و»وش طوروس». ويقال إن نصف ما أنتجه نيسين من أعمال تمت ترجمتها إلى اللغة العربية بعلم الكاتب أو بعدم علمه.
فلسطين وقضايا أخرى
في ما يتعلق برأي نيسين في قضايا أدبية وسياسية، فإنني أنقل جزءا من حوار أجريته معه في مدينة اسطنبول في 16 أبريل/ نيسان 1984 عن السخرية، قال فيه: «موضوعاتي كلها استقيتها من الحياة التي عشتها وأعيشها، هناك أوضاع إنسانية لا يمكنك المرور عليها مرور الكرام، أوجاع وآلام ومشاكل، صخب حياة وظلم وتخلف وأمراض عديدة، ودوري ككاتب هو تكثيف هذه الحالات والتفاعل معها، وصبها في قوالب أدبية علها تبقى في وجدان القارئ، كي توجهه نحو خلاصه وخلاص غيره من الناس. أما من حيث الأسلوب، فإن تراثنا التركي مليء بالأدب الساخر. ولو سألتني أيهما أقرب إلى نفسي، فإنني أفضل الكتابة الساخرة».
أما في ما يتعلق بالتأثر بالثقافات السائدة عالميا، فقد ذكر «إن ثقافتنا في تركيا منفتحة على كل الثقافات في العالم إلى حد بعيد، وقد استفاد كتابنا من شتى الأساليب السائدة في العالم، والكثير من كتابنا يستوحون من ثقافتهم التقليدية ويمزجونها بالثقافة المعاصرة لتوليد أدب وطني له مميزاته الخاصة، وأنا أميل إلى الأدب الأخير».
وعن رأيه في ما يتعلق بالجوائز ومنها للكتاب، فأحب أن أسجل على لسانه التالي: «إنني عندما أكتب لا أفعل ذلك من أجل الحصول على جائزة، أي جائزة كانت، أنا أكتب لأن دوري في الحياة هو الكتابة، والكتابة عن حالات إنسانية تقتضي أن يكون موقفي في الحياة متوافقا مع ما أكتب، أي أن يكون ضد الظلم والكبت ومصادرة الحقوق والحريات، إن الكاتب لا يكتب ولا يعيش دوره وحياته من أجل الحصول على جائزة».
أما عن موقفه بالنسبة للقضية الفلسطينية، فقد ذكر: «إنني ضد الصهيونية لكنني لا أكره اليهود كشعب من حقه أن يعيش، مع ذلك فإنني أتساءل في هذا المجال ما هو دور الأمم المتحدة وفائدتها عندما تغمض عينيها عن اقتلاع شعب بكامله من أرضه وإخضاعه للظلم والمعاناة والحرمان، وموقفي هذا لا يختلف عن موقف أكثرية قطاعات الشعب التركي التي تشارك الشعب الفلسطيني آلامه وأحزانه وتطالب بحقوقه السياسية والاجتماعية».
كاتب فلسطيني
سليمان الشيخ