أخيرا اتخذت الحكومة الألمانية في يونيو 2017 قرار سحب قواتها من قاعدة انجيرلك التركية، ونقلها إلى الأردن، مع اعتراف من بعض المسؤولين الألمان بأن القدرات الألمانية على مواجهة تنظيم «داعش» ومكافحة الارهاب ستكون أضعف بعد مغادرة قواتها تركيا.
علما بأن سحب القوات جاء من طرف واحد هو القرار الألماني فقط، فلم تمانع الحكومة التركية هذا الانسحاب ولم تطلبه، بل تركت الخيار فيه للحكومة الألمانية وحدها، ومع ذلك نقول: إن الأزمة بين ألمانيا وتركيا لم تنشأ في أصلها بسبب منع السلطات التركية، وفداً برلمانيا ألمانيا من زيارة القوات الألمانية المرابطة في قاعدة إنجيرلك الشهر الماضي، وإنما بسبب النظرة الاستعلائية لدى الحكومة الألمانية في تعاملها مع الحكومة التركية، وكأن المطلوب من الوزراء الأتراك الخضوع للأوامر الألمانية فقط، ولا حق لهم بمناقشتها، وإذا ما جاء البرلمانيون الألمان إلى تركيا فعلى الأتراك استقبالهم بالحفاوة، وهذا منطق غريب، ربما استمرأته الحكومات الألمانية السابقة مع الحكومات التركية السابقة، قبل حزب العدالة والتنمية، وبكلام أدق قبل انقلاب يوليو 2016، الذي تورطت فيه جهات ألمانية لصالح تنظيم غولن الارهابي، بدليل أن الحكومة الألمانية لا تزال تقدم الدعم لعناصر تنظيم غولن في ألمانيا، وتمنح الضباط العسكرين الانقلابيين العاملين في المانيا واوروبا حق اللجوء السياسي، وتقديم الحماية القانونية لمنع تسليمهم للسلطات التركية، رغم المطالبات القانونية والقضائية التي تقدمت بها الحكومة التركية لألمانيا، بأسماء أكثر من ثلاثمئة عسكري فار، فضلا عن المساعدات التي تقدمها الحكومة الألمانية للتنظيمات الارهابية التابعة لحزب العمال الكردستاني داخل ألمانيا وأوربا، والدعم السياسي والعسكري للأحزاب الانفصالية في تركيا وسوريا وغيرها، إضافة إلى ادعاءات الحكومة الألمانية تراجع الديمقراطية التركية وانتهاك الحقوق الانسانية والاعلامية دون دليل، واخيرا الحملة الاعلامية المعادية لتركيا بسبب الاستفتاء على التعديلات الدستورية، بعد انقضائها لأكثر من شهرين، وتطالب الحكومة الألمانية الحكومة التركية بغض النظر عن كل هذه الانتهاكات ضد تركيا، وان تستقبل البرلمانيين الألمان وتسمح لهم بالتحرك بحرية، بينما منعت ألمانيا وزراء أتراكا من لقاء الجاليات التركية في ألمانيا، أثناء التحضير لعملية الاستفتاء قبل شهرين، في مخالفة صريحة للأعراف الدبلوماسية، بحسب القوانين الدولية المعتمدة.
لذلك كان طبيعيا ان تمتعض الحكومة التركية من التصرفات الألمانية، وجاء تصريح وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو قبل يومين قائلاً:» إنّ على ألمانيا أن تُدرك أنها لا تستطيع أن تُملي على تركيا ما تريد وتسيّرها كما تشاء»، وأوضح أوغلو: «أنّ تركيا ليست دولة يتم تحديد أجندتها من الخارج، ولن تعود كما كانت عليه في السابق». هذه التصريحات من الخارجية التركية تؤكد أن نقطة الخلاف التركية مع المانيا سببها أخطاء ألمانيا، التي لا تحسن التعامل مع الحكومة التركية، وبالتالي لا تحسن التعامل مع الشعب التركي، والمطلوب أن تغير الحكومة الألمانية من طريقة تعاملها مع الحكومة التركية حتى يمكن عودة العلاقات بينهما إلى طبيعتها، فعندما يشتكي وزير خارجية تركيا من طريقة التعامل الألمانية، وأن ألمانيا لا تستطيع ان تملي على تركيا ما تريد، فهذا كلام واضح وصريح، بأن الألمان يتجاوزون حدودهم السياسية والدبلوماسية مع تركيا.
وعلق الوزير التركي على تصريحات المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التي قالت في وقت سابق، قبل قرار سحب القوات: «إنّ بلادها ستحسم أمرها حيال الانسحاب من قاعدة إنجيرليك، أو البقاء فيها، بعد محادثات أخيرة مع أنقرة»، قائلاً في هذا الصدد: «نرى أنّ الألمان يدعمون كل أمر يتعارض مع مصالح تركيا، وبرلين تمارس شتى أنواع الضغوط على مواطنينا، خاصة من أيّد التعديلات الدستورية»، وهذا امتعاض آخر وخطير من طريقة التعامل الألمانية، مع كل ما يخص مصالح تركيا، وكأن ألمانيا اتخذت قرار العداء لتركيا وليس قرار الانسحاب من قاعدة انجيرليك فقط. وأردف جاويش أوغلو: «على الألمان أن يدركوا بأنهم لن يستطيعوا أن يملوا قراراتهم علينا، فتركيا لم تعد كما كانت سابقاً، وإننا على تواصل دائم مع وزير الخارجية الألماني سيغمار غابريال، والأخير سيجري زيارة إلى أنقرة قريبا لإيجاد حل للأزمات القائمة بيننا»، وفي ذلك إشارة إلى ان تركيا حريصة على تحسين علاقاتها مع المانيا، ولكن بشرط التعامل بالمثل، وكدولة لا تقبل التجاوزات والأخطاء بحقها ولا بحق شعبها، سواء كانوا في ألمانيا أو في بلادهم.
ونقاط الاعتراض في السياسة التركية على السياسة الألمانية أو غيرها من سياسات دول الاتحاد الأوروبي أو غيرها، هو ان تركيا ترفض سياسة ازدواجية المعايير، حتى لو كانت مع شعبها وجاليتها، بينما ألمانيا تميز بين مواطن تركي وآخر، بحسب انتمائه السياسي، فالأتراك الذين صوتوا لصالح الاستفتاء يعاقبون على ذلك بعد نجاح الاستفتاء أيضاً، وفي النهاية فإن تركيا تعرف موقها الجغرافي والسياسي جيداً، وبحسب جاويش اغلو: «أنّ تركيا تعتبر واحدة من أهم البلدان الأوروبية، وأنقرة لا تتخذ مواقفا ضدّ الاتحاد الأوروبي ومجلسه، وإنما تعارض ازدواجية المعايير التي تتبناها تلك المؤسسات تجاه تركيا»، وفي المقابل على دول الاتحاد الأوروبي الوفاء لتركيا بحقوقها كاملة، أسوة بكافة دول الاتحاد التي دخلت الاتحاد بعد تركيا.
ومقولة الرئيس التركي أردوغان بعد نجاح الاستفتاء للاتحاد الأوروبي: «إما الانضمام او الوداع» لا تزال قائمة، فالخارجية التركية وعلى لسان وزيرها تقول: «إن الاتحاد الاوروبي ومؤسساته، خيّبت آمال تركيا عندما تأخرت هذه المؤسسات في التنديد بمحاولة الانقلاب الفاشلة، التي جرت منتصف يوليو الماضي، وعلى الاتحاد الاوروبي أن ينظر إلينا على أننا شركاء حقيقيين لهم»، كما أن على الاتحاد الأوروبي: «الوفاء بوعوده حيال فتح فصول جديدة بخصوص انضمام تركيا إلى عضويته، وتطبيق اتفاق الهجرة المبرم في مارس العام الماضي، إضافة إلى تعهداتها بإلغاء تأشيرة الدخول للمواطنين الأتراك الراغبين في زيارة منطقة شنغن الأوروبية»، بحسب مطالب الخارجية التركية، فالمطالب التركية واقعية وقانونية بينما المطالب الألمانية تجاوزها الزمن، وتغيرت عليها أحوال تركيا الجديدة.
كاتب تركي
محمد زاهد جول
تركيا اليوم تحمل مشروع حضاري عنونه العودة للجذور وهذا بحد ذاته يجعل أوروبا تتوجس وتخشى من القادم ومن الطبيعي أن تحاول عرقلة هذه النهضة، المهم أن تتعامل تركيا مع هذه السياسات بالحكمة المطلوبة وان تحافظ على علاقات متزنة وهادئة فهي ليست بحاجة لفتح جبهات جديدة.