يلقي الكثيرون اللوم على مبعوث الأمم المتحدة الخاص بسوريا ستيفان دي مستورا الذي يعتبرونه فشل في أداء مهمته، وقد تصدرت التغريدات وعبارات الكاريكاتير التي تحمل اسمه مواقع التواصل الاجتماعي، حتى نافس بذلك غيره من رموز الحكم والسياسة.
أما مبادراته، من قبيل الأخيرة لإنشاء مجلس نسائي استشاري لنساء سوريا، فقد كانت محل سخرية وهجوم المتابعين، خاصة حين ذهبت أولئك النسوة إلى جنيف مطالبات بضرورة رفع العقوبات عن النظام السوري كأولوية.
سنتوقف هنا لنسأل سؤالاً بسيطاً: ما هو الشيء الذي كان مطلوباً من دي مستورا؟ هذا السؤال مهم، لأنه وبغض النظر عن موضوع نوايا الرجل الداخلية وارتباط تحركاته بخيوط ما يسمى في أدبيات بعض المعارضين، بالمؤامرة الكونيـــة ضد الشعب السوري، إلا أن الواقع يخبرنا أن العديد من العوامل المرتبطة بعمله تحول دون إنجازه أي حل شامل للمسألة السورية.
أهم هذه العوامل هو اختلاف المراقبين والمنخرطين في الصراع على تعريف المقصود بالحل الشافي أو الشامل، فهل هو بقاء النظام للحفاظ على الدولة السورية، ثم إنجاز انتخابات قد تعيد الوجوه القديمة ذاتها؟ أم تنحي النظام ورموزه فوراً وعلى رأسهم بشار الأسد؟ أم عودة الحكاية لنقطة الصفر ونسيان كل ما مر خلال السنوات الماضية مع إتاحة فرصة للمعارضين داخل السلطة الجديدة؟
الدول التي تكوّن الأمم المتحدة التي بعثت بديمستورا غير متفقة على هذا السؤال البديهي، فمن أين يمكن له أن يخرج بقرارات ناجزة وناجحة؟ هل يمكن له أن يخرج بقرارات بدون الرجوع إلى مموليه وباعثيه؟ بالتأكيد فإن هذا غير ممكن، ولذا فليس أمامه سوى تضييع الوقت ومحاولة التقريب وردم الهوة بين الوفدين الرسمي والمعارض عبر تدعيم وتلغيم الوفد الأخير بفرض شخصيات ظاهرها الحياد وباطنها الاقتراب من النظام على طريقة الوفد النسوي أعلاه. الدبلوماسي الأوروبي ذو الخبرة الممتدة في مواقع النزاع لن يخبرك بصراحة أنه لن يقودك إلى أي مكان، لأن لا خريطة طريق متفق عليها أمامه، بل على العكس سيحافظ على حماسه ورونق كلماته، وسيقدم الكثير من التصريحات التي تلي الكثير من الاجتماعات والتي ملخصها كلام كثير ومعنى قليل. من تصريحاته مثلاً قبيل مفاوضات جنيف الأخيرة قوله إن الجولة المقبلة من المفاوضات يجب أن تقود بشكل ملموس إلى بداية تحقيق الانتقال السياسي.
طبعاً لن تجد من يشرح لك المقصود بكلمة «يجب» هنا، أو ماذا سيحدث إذا لم تؤد إلى ذلك «الانتقال السياسي» الذي هو بدوره مفهوم يحمل أوجهاً وتفاسير قابلة للتعدد والتمدد. حين ترضخ الأمم المتحدة لرغبة النظام السوري في تأجيل المفاوضات، من أجل تمرير ما يسميها بانتخاباته الداخلية سوف يتم تحميل المسؤولية لدي مستورا وسيتم اتهامه بالتواطؤ. من حق البعض أن يتحفظ على أداء دي مستورا، لكن هذا التحفظ يجب ألا ينسينا أن المشكلة في سوريا ليست معه، كما أنها لم تكن مع سلفه الأخضر الإبراهيمي، فإذا كانا وغيرهما من ممثلي المنظمة الدولية عاجزين أو متواطئين فذلك لأن الدول الإقليمية والقوى العالمية عاجزة في غالبها أو متواطئة.
ربما يكون العجز هو سمة القانون الدولي، الذي يجب القبول به لأي عضو في هذا النادي، فبدون قبول هذا القانون العاجز لن يكون لوجودك أي شرعية وهذا ينطبق على الجميع بمن فيهم المفاوض السوري الذي قبل بالشروط الدولية كأساس للتفاوض، تلك التي على رأسها ذلك المفهوم الجذاب: «الحل السلمي»، من الشروط المفروضة على المفاوض السوري أيضاً الحفاظ على الدولة السورية، وإذا كان الوضع في سوريا هو تماهي النظام مع الدولة فسيصبح ذلك الشرط مفخخاً. مفاوض المعارضة سيعلن أنه سيقبل بكل القيادات التي لم تتورط في عمليات القتل والتدمير. هذا يعني أنه إذا كان هناك ضابط في الجيش لكنه كان مجرد إداري أو متابع للمعارك من على البعد بدون أن يتورط فيها مباشرة فإن ذلك يمنحه فرصة الاشتراك في بناء الدولة الجديدة. المعارضة ستمضي لأكثر من ذلك معلنة عدم ممانعتها في بقاء بعض القيادات والرموز المرتبطة ببشار الأسد، خلال فترة الانتقال المؤقتة، التي يجب أن تفضي إلى برلمان ودستور وحكومة جديدة، بل سيذهب البعض إلى ما هو أكثر من ذلك بقبولهم مقترح بقاء بشار الأسد في منصبه على أن يحظى بثلاثة نواب من اتجاهات مختلفة.
المفارقة كانت أن معسكر النظام السوري لم تكفه كل تلك التنازلات، وعاد مرة أخرى ليتحدث عن شرعيته المكتسبة في حكم البلاد، معتبراً في تصريح لفيصل المقداد، قبيل ساعات من بدء المفاوضات الأخيرة، أنهم يعتبرون أي حديث عن حكم انتقالي انقلاباً. من جهة أخرى نتساءل عن سر ذلك التمسك الدولي بما يسمى مؤسسات الدولة السورية.
هل هو مطلب لروسيا التي استثمرت كثيراً في القوة العسكرية والأمنية السورية، حتى خلقت بينها وبينهم تفاهمات لا يمكن استبدالها؟ أم أنه مطلب إسرائيلي، وبالتالي أمريكي، باعتبار أن الكيان الذي عاش بسلام وباتفاق شبه رسمي على عدم تجاوز خطوط تماسه لا يفضل وجود قيادة أمنية جديدة قد تحمل مقاربات مختلفة للصراع؟
بالعودة إلى مفهوم «الحل السياسي» نقول إنه كان من السهل على مجتمع المراقبين أن يمنع السلاح والتسلح عن المعارضين، وأن ينتقد دفاعهم عن أنفسهم في الوقت الذي كان يصعب عليه فيه محاكمة الطرف الآخر المتمسك حتى الآن بشرعيته الواهية، التي تتيح له ولقواته العسكرية والأمنية حرية التدخل من أجل محاربة من سيسميهم بالمخربين والإرهابيين. هكذا بدا الحديث عن هدنة أمراً غير واقعي، وكما كان الجميع يتوقع، تم تسجيل خروقات فاقت الألف خلال الأيام الأولى فقط، ما جعل أطروحة الحل السياسي السلمي أقرب إلى خرافة لا يصدقها أحد، خاصة أن التنظيمات الإرهابية الفوضوية موجودة وحاضرة وغير معنية بكل هذه الحلول السلمية. هذا الوجود يقدم خدمة مجانية للنظام السوري الذي يبرر عملياته العسكرية بذريعة ملاحقة الإرهاب.
إن استخدام مفردات كـ»الحل السياسي» و»الانتقال» و»الهدنة» لن يشكل تغييراً للواقع الذي يخبرنا أن المأساة متواصلة وأن بلدات كثيرة يموت أهلها وأطفالها جوعاً لعدم وجود أي مواد غذائية. ما يسميه أصحاب الدول الكبرى، التي تتفاوض نيابة عن السوريين، إنجازاً يتمثل في إعلان هدنة لأول مرة منذ سنوات، أمر لا يعني في الواقع الكثير على الصعيد الإنساني. الولايات المتحدة من جهة وروسيا وإيران من جهة أخرى، كلها جهات تدعو بصوت عالٍ لإيجاد حل سياسي سلمي، كما أنها الجهات التي تؤثر بقوة على جميع تحركات المبعوث الدولي. المفارقة تكمن في أنها هي نفسها الجهات التي تستخدم أقوى ما تملك من أسلحة في سبيل تهيئة الأجواء لذلك السلام المنشود، أي أن الحل السلمي المبتغى مبني بشكل ما عندها على الحل العسكري. الواقع السوري أكثر تعقيداً من أن يكون مفتاح حله بيد جهة واحدة، فهناك على سبيل المثال المتطرفون الذين يرفعون راية جهاد في سبيل ما سموه بـ»الدولة الإسلامية»، أولئك الذين يجعلون من قتل المسلمين أولوية. وهناك دول منخرطة تؤمن بالحرب والعسكرة كطريق لتحقيق السلام. كما أن هناك أحزابا ومجموعات كانت حتى وقت قريب مصنفة إرهابية وفوضوية لكنها اليوم مدعومة من قبل أطراف مهمة من أجل تشجيعها على الدخول في حرب ضد الإرهاب. أكثر من ذلك لدينا المنظمة الدولية التي يجاهر معظم أعضائها بالقول بأن بشار الأسد قد فقد شرعيته، وألا مكان له ولنظامه في خريطة المستقبل السورية. هذه المنظمة هي نفسها التي تمنح النظام، غير المعترف به، مقعداً أممياً وتسمح لممثليه بالدفاع عنه والترويج لمبرراته وأكاذيبه. هي نفسها التي تستأذن قبل الدخول إلى الأحياء السورية المنكوبة من أجل تقديم الغذاء والدواء حفاظاً على «السيادة» السورية.
إذا كنا نسمي ما يقوم به دي ميستورا من «تمييع» لوفد المعارضة عبر حقنه بشخصيات وأحزاب قد لا يكون رحيل الأسد هدفها الرئيس، جريمة وخيانة، فعلينا أن نتذكر أنه جزء من خيانة أكبر للقضية السورية قامت بها القوى الدولية حين احتفلت بتقدم قوات النظام وسيطرته على تدمر وغيرها بذريعة حرب الإرهاب. الدول والمنظمات التي لم تعترض على إعلان الجيش والمليشيات عن معركة مقبلة بدعم روسي لتحرير حلب رغم سريان الهدنة، كانت خائنة أيضاً، وكذلك أولئك الذين لم يحركوا ساكناً وإيران تعلن تحرك أحد ألويتها العسكرية إلى الداخل السوري من أجل تقوية موقف النظام السياسي والتفاوضي. هذه هي القضية التي يجب مناقشتها أولاً قبل التفرغ لنقد دي مستورا.
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
التقصير منا نحن العرب
فالصفويين والروس ضحوا بالغالي والنفيس لبقاء الأسد بالسلطة
فماذا فعل العرب مقابل هذا التدخل الصارخ ؟ لا شيئ
ثم نلوم دي مستورا !!!!
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ ويأكلُ بعضنا بعضاً عيانا
– الإمام الشافعي –
ولا حول ولا قوة الا بالله