في خطابه امام أعضاء البرلمان التونسي، أسمع الرئيس الفرنسي، إيمانيول ماكرون، التونسيين ما يطربون له: أنتم مهد الربيع العربي. عندكم بدأ ومن عندكم سيستمر. عليكم تقع مسؤولية إيصال المسار إلى مبتغاه. تفوقتم على الآخرين في تكريس الحقوق والحريات والمساواة. أثبتم للعالم أن الإسلام ليس نقيضا للديمقراطية والحداثة.. إلخ.
كلام جميل لولا أنه ينضح بعقلية المستعمِر الذي يعود إلى تفقد تاريخ وجغرافيا ارتكب فيهما أجداده ذات يوم الكثير من الآثام. صحيح أن ماكرون ولد متأخراً كثيراً عن زمن الاستعمار وفظاعاته، لكنه يعجز عن التفكير بعقل «اللامستعمر». والدليل سفره مباشرة من تونس إلى السينغال في زيارة تشبه زيارة الجنرال شارل ديغول إلى السينغال في كانون الأول/ديسمبر 1959، مع فرق أن الأولى كولونيالية والثانية نيوكولونيالية. هناك كان مِن أول من اجتمع بهم، قدماء السينغاليين المحاربين في الجيوش الاستعمارية الفرنسية في أفريقيا وآسيا. في تلك الأراضي البعيدة، قاتل (وقُتل) آلاف السينغاليين (والجزائريين والمغاربة) شعوبا مُستعمَرة تشبههم وأقرب إليهم من الفرنسي. وقاتلوا جيوش ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. وبعد 60 و70 سنة من تلك الأيام الحالكات يأتي رئيس فرنسي وُلد متأخراُ بأربعة عقود، ليلتقي بقايا أولئك المقاتلين الذي خانهم أجداده في أبسط الحقوق مثل فتات المعاشات.
في تونس ـ مثل الجزائر والمغرب ـ الصورة أقرب إلى «إنصاف» ماكرون وتاريخ أجداده الدامي، لأن في هذه البلدان فئات لا زالت تؤمن بفرنسا وترعى إرثها ومصالحها المادية والمعنوية، عن قصد وعن جهل، خليط.
في خطابه في البرلمان التونسي، بشكله ومضمونه، تقمص ماكرون دور السيد الذي يعاين ما قام به أتباعه ثم يثني على اجتهادهم ويشد على أيديهم حتى يبذلوا مزيداً من الجهد علّه يبدي لهم المزيد من الرضى في الزيارة المقبلة.
على عكس بريطانيا وبلجيكا وأسبانيا والبرتغال، فرنسا عاجزة باستمرار عن بناء علاقة متوازنة ومستقرة مع مستعمراتها السابقة. علاقة فرنسا بعشرات المستعمرات شائكة ومعقدة وتفتقد إلى الثقة، لأن فرنسا لا تزال سجينة ماضيها الاستعماري وترفض الإقرار بأنه كان فترة زمنية سوداء مُرَّة.
وإذا كانت شعوب المستعمرات في منطقة المغرب العربي أقل وضوحا تجاه ذلك التاريخ، وأقل عداءً له (لعدة أسباب منها أنها لم تحسم الكثير من تفاصيله)، فالصورة في أفريقيا السمراء أوضح. هناك، أصبحت الشعوب أكثر نضجا وفهما، وتمكنت من استيعاب تاريخها وفهمه بالطريقة التي تليق به. لا ترى هذه الشعوب في الماضي الفرنسي في بلدانها شيئا آخر غير استعمار بغيض دموي. وترى في حاضر العلاقة مع أبناء وأحفاد المستعمِر، تكملة لذلك الماضي تجسدها في نظرة استعمارية فوقية لا تقل بغضا. وتدرك أن مستعمِر القرن الماضي منح نفسه حق تقييم هذه المجتمعات والحكم عليها وإلقاء الدروس عليها. ومنح نفسه حق ألا يرى في القارة السمراء وشعوبها إلا سوق استهلاكية مادية في مقابل خيراتها المنهوبة، ومصدراً للفاشلين من البشر، وسوقا استهلاكية ثقافية، ومتنفسا للاقتصاد الفرنسي المحاصر بالعولمة، فلا غرابة أن 600 شركة فرنسية تعمل في السينغال بكل المجالات، بما في ذلك المجالات الحساسة والسيادسة. ولا غرابة ولا جديد في أن ماكرون ذهب كمندوب لتلك الشركات، ولأخرى طامحة في الانضمام إلى قائمة الغنائم.
لم تتأثر الأجيال الفرنسية بالزمن، ولم تتغير. لا فرق في الذهنية الاستعمارية بين ماكرون المولود سنة 1979 وفرانسوا ميتران المولود في 1916 والذي كان وزيراً للداخلية في منتصف القرن الماضي، أي في ذروة العهد الاستعماري. وما بينهما شيراك وهولاند وساركوزي.. لا فرق. العقلية الاستعمارية عند هؤلاء «ممؤسسة»، تختفي إذا ما انتفت الحاجة لها، ثم سرعان ما تطفو عندما يتطلب الأمر.
لم تختلف زيارة ماكرون للسينغال عن زيارات أسلافه، منذ ديغول. لذلك كله لم يكن مُرحبا به بالصورة التي حاولت وسائل الإعلام الفرنسية أن تبيعها للناس. لم يركض وراءه الشبان السينغاليون متوسلين تأشيرة زيارة أو إقامة. يبدو أن السبب انتشار بعض الوعي بأن حكومة ماكرون بالذات تطرد الشبان الأفارقة المقيمين بصفة غير قانونية بوتيرة أسرع من الرؤساء الذين سبقوه. وربما هناك وعي بأن هذا الرجل جاء ليأخذ لا ليعطي. وبأن بلادهم لا مكان لها في اهتمامات المستعمِر السابق إلا مناسباتيا، وبأن ماكرون موجود في بلادهم بالذات لبحث كيفية منعهم من الوصول إلى بلاده.
زيارتا ماكرون إلى السينغال، وقبلها تونس، كانتا غنيتين بالتناقضات المجسِّدة لتناقضات علاقة فرنسا بمستعمراتها. كانت هناك خطابات جميلة وواعدة وكلام عن المستقبل والتعاون، وحضرت في الوقت ذاته العقلية الاستعمارية المفتوحة على الزمن.
فرنسا، بمخابراتها وشركاتها، تقف وراء نحو ثلاثين انقلابا في القارة أفريقيا. وترعى بأكثر من طريقة، نصف طغاة القارة. هذه القارة التي لن تكون بخير إلا عندما تُشفى فرنسا من ماضيها المشحون، وترفع يدها عنها.
٭ كاتب صحافي جزائري
توفيق رباحي
تونس تجاوزت عقدة و مرض الاستعمار الذى أصبح مرض مزمن لمن لم يعالج هذه القضية ….تونس لا تسبح لا على بحر من النفط و لا على آخر من الغاز ….نحن بلاد مفتوحة و ليس لدينا امكانيات غير العمل و التجارة و السياحة و الاستثمار الوطنى و الأجنبي…و فرنسا واحدة من شركائنا و هناك 3000 مؤسسة فرنسية فى تونس تشغل 127 الف تونسي و نفس الشئ بالنسبة للألمان و الإيطاليين….و مرحبا بالجميع فى تونس ….العنتريات الفارغة تجاوزناها منذ زمن …تحيا تونس تحيا الجمهورية و لا ولاء إلا لها
فرنسا لديها ما يكفي من العقد النفسية التي تجعلها تبقى مختلفة عن دول مُستعمِرة كبريطانيا وأسبانيا اللتان تصالحتا مع ماضيهما
و مشيا بخطوات واثقة نحو الأمام دون الإلتفات كثيرا إلى الوراء.
و بقراءة جادة لعلاقة المغرب العربي بفرنسا وليس العكس ثم مقارنتها بعلاقة أفريقيا السمراء معها ندرك أن ليس كل المشكل في هذا المستعمر المعقد و إنما على الطرف الآخر أن يجد الصيغة التي تضمن له على الأقل ممارسة القليل من الضغط لصالحه.
السيدة نسمة حرة
خير تاكيد لكلامك تعليقات تونسي ابن الجمهورية
@ahmad: الم تلاحظ ان العكس صحيح أيضا….خير دليل على كلامى هو تعليق السيد نسمة حرة …..تحيا تونس تحيا الجمهورية
لم أفهم ما فهمه غيري و لكن أريد أن أوضح ما قصدته بكلامي، أردت أن أتساءل: إلى متى ننتظر شفاء فرنسا من عقدها؟ و لكن أنا ضد أن ننسى و ضد عقد فرنسا.