على سبيل التمايز والتنويع، وتلمّس وجهة نظر أخرى خارجية، ولكنها قريبة وجارة، فضلاً عن تاريخ مشترك عريق، لعلّ من الحكمة متابعة ما تقوله أسبوعية «سبكتاتور» البريطانية، ذات الخطّ المحافظ بصفة عامة، عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وعن حزبه «الجمهورية إلى الأمام»، وكذلك عن حال فرنسا إجمالاً. ومَنْ، بين جميع محرّري المجلة، أقدر من غافن مورتيمر على تولّي مهمة كهذه، هو المؤرّخ الذي سطّر عشرات المقالات عن فرنسا المعاصرة، وغطّى حملة الانتخابات الفرنسية الأخيرة أولاً بأوّل، كما وضع شخص ماكرون على مشرحة أسبوعية، أو تكاد، مستخدماً أكثر من مبضع، ومحافظاً في الآن ذاته على «فلسفة» تشريح متماثلة.
خذوا، على سبيل التمثيل، عناوين بعض مقالاته خلال الأسابيع القليلة الماضية: «ماكرون السيل الجارف»، «الماكرون ـ مانيا ما تزال تكتسح فرنسا»، «يخطئ ماكرون إذا ظنّ أن انتصاره الانتخابي نتيجة منطوية»، «رفض ماكرون الحديث عن التطرف الإسلامي قد يكلفه غالياً»، «هل ماكرون جزء من مؤامرة للمؤسسة؟»، «رؤية ماكرون المثالية عن فرنسا أسطورة»… وليس الأمر أنّ مورتيمر كان على خطأ، أو صواب، في بعض أو معظم هذه التغطيات، بل أنّ الإشكال الأكبر الذي يميّزها، جميعها في الواقع، هو نزوع متأصل لدى الرجل، لجهة التشكيك في إمكانية ـ فما بالك بجدوى ـ تجريد المشهد السياسي الفرنسي المعاصر من استقطابَيْ اليمين مقابل اليسار، التي طبعت الجمهورية الخامسة منذ تأسيسها على يد الجنرال شارل دوغول.
والحال أنّ الناخب الفرنسي، ذاته، كذّب نزوع مورتيمر، وغالبية ساحقة من مراقبي المشهد السياسي والاجتماعي والإيديولوجي الفرنسي المعاصر، حين أطاح، وللمرّة الأولى منذ 1958، بمرشحَي اليمين واليسار معاً، وأقصاهما من الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية. وقبل أيام (في انتظار حصيلة مشابهة خلال الدورة الثانية للانتخابات التشريعية)، أعاد ذلك الناخب تأكيد خياره الرئاسي، فمنح ماكرون ـ تحت راية حزب لم يتشكل، بصفته هذه، إلا منذ أسابيع قليلة! ـ أغلبية قصوى في «الجمعية الوطنية»، ليست بلا سابقة مماثلة، من حيث العدد والمهنة والفئة الاجتماعية والانتماء السياسي، فحسب، بل إنّ تعبير «السيل الجارف»، الذي يًستخدم عادة لتوصيف اكتساح الانتخابات، يبدو مجحفاً بحقّ هذه الأغلبية الساحقة.
لافت، كذلك، أن مورتيمر يعقد مقارنات دائمة بين ماكرون وتوني بلير: «كلاهما يحبّ التفكير بأنه يمثّل حقبة جديدة في السياسة، وكما سعى حزب «العمال الجديد» إلى إعادة اختراع بريطانيا في نهاية التسعينيات مع توني بلير عازف الغيتار وعاشق كرة القدم وفتى «بريطانيا المسترخية»، يمكن أن ننتظر شيئاً مشابهاً من ماكرون». لكنّ فارقاً كبيراً غاب عن مؤرخ «سبكتاتور، في هذه المقارنة»: بين بلير، الذي صعد إلى الصفوف القيادية في حزب تأسس أواخر القرن التاسع عشر، وماكرون، الذي لم يكن عضواً في أيّ حزب سياسي، بل لعلّ مسعاه الأبرز كان نسف الأحزاب التقليدية، في ركائزها الإيديولوجية على الأقل.
لكنّ الإحالة إلى بلير، وإلى سواه كما سيتضح، تصحّ في احتمال آخر، لعله الأكثر أهمية: أنّ ماكرون قد يتبنى، غداً أو بعد غد، تلك «الفلسفة» التي لجأ إليها ساسة أوروبيون من أهل «اليسار»، في التصنيف العريض الغائم لهذه المفردة بالطبع: أي «السبيل الثالث»، الذي ليس باليسار ولا باليمين، وليس بالتقدميّ تماماً ولا المحافظ تماماً، حيث الدولة شريكة اقتصاد السوق، وحيث الرأسمالية شقيقة الاشتراكية…!
وهكذا، في العودة إلى الماضي غير البعيد، في حزيران (يونيو) 1999، عشية انتخابات البرلمان الأوروبي، كان بلير والمستشار الألماني غيرهارد شرودر قد أصدرا الوثيقة التي حملت اسم «بيان من أجل السبيل الثالث»، حاولا فيها مغازلة خطّ الوسط في البلدين، وتوهما إمكانية كسب ناخبي هذا الخطّ، وكسب الانتخابات بالتالي. رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، الاشتراكي ليونيل جوسبان، اعتذر عن المشاركة في مشروع كهذا، ولاح آنذاك أنّ الحزب الاشتراكي الفرنسي هو الطرف الوحيد «الدوغماتي» و«المتزمّت» على صعيد الأحزاب الاشتراكيـــة والاشتراكية ـ الديمقراطية التي تحكم البلدان الأوروبية الأساسية.
لكن انتخابات البرلمان الأوروبي أسفرت عن هزيمة مريرة لصاحبَي «بيان من أجل السبيل الثالث»، فتفوّق المحافظون على العمّال في بريطانيا، وخسر حزب شرودر 10 نقاط بالقياس إلى الانتخابات التشريعية التي جاءت بالحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى الحكم. الاشتراكيون الفرنسيون، ورغم تراجعهم عن معدّلات الانتخابات التشريعية، تصدّروا لائحة أحزاب اليمين واليسار، فراوحوا في مكانهم أو خسروا القليل فقط. ولن يطول الوقت حتى يلتحق الحزب الاشتراكي الفرنسي بالركب ذاته، وسيُمنى بهزيمة نكراء مزدوجة: في الانتخابات الرئاسية حين هُزم جوسبان أمام مرشح اليمين جان ـ ماري لوبين، وفي الانتخابات التشريعية حين عاد الاشتراكيون إلى صفوف المعارضة… المتواضعة تماماً.
وتلك حال تذكّر بأنّ السبيل الثالث هو خطّ الوسط القديم ـ الجديد دون سواه، أي خطّ الوقوف عند نقطة متساوية بين أقصَيَين، وخطّ التوسّط بين اليسار واليمين في عبارة أوضح. ومنذ أن دعا البابا بيوس الثاني عشر إلى «سبيل ثالث» بين الاشتراكية والرأسمالية، في نهاية القرن التاسع عشر، كان المصطلح يصعد هنا وهناك في الثقافة السياسية الغربية، وكلما اقتضى الأمر هذا أو ذاك من أشكال التصالح أو التحالف أو المساومة.
وكان الاقتصادي الأمريكي الكبير جون كنيث غالبرايث قد رفض هذا السبيل، وأعلن صراحة عجزه عن فهم طبيعته الملموسة: «هل يُراد منه احتلال موقع وسيط بين الصحيح والخاطئ؟ ولكن ما السبيل الأوّل والسبيل الثاني اللذان يُفترض في السبيل الثالث أن يتجاوزهما أو يتخلص منهما»؟ وأمّا إيان ماكلين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أكسفورد، فقد اعتبر أنّ القول بسبيل ثالث «يشترط ضمناً حرّية القائل في أن يفعل ما يريد، وحرّيته في أن يقصي ما لا يريد إلى السبيل الأوّل أو السبيل الثاني». وإلى جانب الخمول الفكري الذي يستولد هذا المصطلح، ثمة في رأي ماكلين تضليل فكري بالغ الخطورة، وثمة خيانة أيضاً!
كذلك فإنّ صعود السبيل الثالث قد نجم عن ميل محدد (سياسي أولاً، ولكنه اجتماعي ـ اقتصادي في الجوهر)، أخذ يتعاظم في وجدان الناخب الأوروبي منذ أواسط التسعينيات: إذا كان المواطن لا يستطيع كبح جماح البيروقراطيات العملاقة التي صنعت وتواصل صناعة الاتحاد الأوروبي السياسي والمالي، كما يتجلى في صيغة اتفاقية ماستريخت الشهيرة، فلِمَ لا يلجأ هذا المواطن إلى السلاح الأهم المتوفر بين يديه (أي صندوق الاقتراع)، فيصعد بالقوى اليسارية أو العمالية أو الاشتراكية ـ الديمقراطية إلى سدة الحكم؟ لِمَ لا يضعها أمام استحقاقات إيديولوجية وبرامج اجتماعية تستهدف التخفيف من الآلام الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تنذر بها مواعيد الاتحاد الأوروبي، وتضاعفها التوجهات الكونية نحو العولمة، والفكر الواحد الليبرالي إجمالاً، والهويات الوطنية المنحلة قسراً في هوية كوزموبوليتية، والاقتصاد الواحد كما يستند إلى قِيَم السوق وعقائد الاستثمار الحر؟
قد لا تكون ذاكرة الناخب الفرنسي قصيرة حسيرة، إلى درجة نسيان آلام «السبيل الثالث»، وتعليق الآمال على ما يعد به ماكرون إذا انتهج هذا السبيل، ولكنّ هيمنة حزب «الجمهورية إلى الأمام» القصوى في الانتخابات التشريعية تشير إلى مراهنة ذلك الناخب، مجدداً: ليس على الإيمان بالمستقبل، وما قد يختفي في طياته من آمال وبشائر، بل على إنزال العقاب بالماضي، جراء ما جلب من آلام ومصائب.
وإنّ غداً، لناظر «السبيل الثالث»، قريب وشيك!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
صبحي حديدي
صباحك طيب ياصبحي!
لا يجب ان نتغاضى النظر عن النقطة اللافتة في الانتخابات الرئاسية التي اوصلت ماكرون الى قمة السلطة في الجمهورية الفرنسية، والانتخابات التشريعية التي يبدو انها في نهاية هذا الأسبوع ستعزز من الفوز الكاسح لحزب ‘ الجمهورية الى الامام ‘. هذه النقطة المهمة جدا تتجلى في الغياب الكبير لنصف الناخبين من التوجه الى صناديق الاقتراع. وهذا يعني اننا اذا أضفنا نسبة ما يقرب من ٥٠ بالمئة ممن لم يصوتون الى نسبِ اخرى ممن صوتوا لصالح مرشحين اخرين واحزاب اخرى ضد مرشحي حزب الجمهورية الى الامام، فان النتيجة تكون عموما ان الرئيس ماكرون وأغلبيته من النواب في البرلمان الفرنسي سيحكمان البلاد والعباد بفضل ثلث أصوات الناخبين الفرنسيين. أهذه هي الديمقراطية إذن؟ شيء غير مقنع عقليا ان يحكم رئيس وحزبه بثلث الأصوات! تراجع الثقة في الديمقراطية عند المواطنين واضح، فكيف نفسر ما يسميه البعضُ باحتضار الديمقراطية؟
السؤال المفروض هنا هو: هل من بديل لنظام الديمقراطية هذا على نقصه ومحدوديته؟ يجيب الخبراء السياسيون في فرنسا وبلدان الغرب بالنفي لانهم يعتقدون بان هذا النظام، رغم علاته، يجنب البلدان التي تعتمده في تسيير شؤونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخلافاتِ والفتنَ، ومن ثم المواجهات العنيفة والحروب. لانه، بكل بساطة، لا يوجد بديل اخر لممارسة الحكم بطريقة شفافة وتحت ظل المؤسسات الساهرة على تطبيق القوانين.
لكن كيف العمل ونظام الديمقراطية يخضع يوما بعد يوم لقانون اخر، لا قانون له الا قانون الغاب ولا عقيدة له الا عقيدة المال، الا وهو السوق؟ وهو وحش دوما في جوع وعطش، ولا يفتأ تجارُه من طلب الزيادة في الأرباح لهم ولوكلاءهم السياسيين، تاركين على الهامش الملايين من المواطنين المطالبين بالعمل والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية!
تواطؤ السياسة مع المال، وخضوع زمن السياسة الى الزمن الراسمالي (الوقت تجربة من اجل ربح المال) قلص من فاعلية الديمقراطية وحدّ من اهتماماتها بهموم الناس.
لم يصوّت الكثيرون لصالح ماكرون، فأعطوا ثقتهم لحزب اخر هو حزب فرنسا المتمرّدة التي تتطلع الى نظام سياسي اخر يكون الانسان فيه، وليس المال، هو محور اهتمامات الديمقراطية! وصوت اخرون لفرنسا المحافظة واخرون لفرنسا العنصرية!
والحال، يسود اعتقاد مهيمن بين الشباب اليوم في فرنسا يقول: الديمقراطية في خطر، والامل في التمرد.
الناس العاديون في بلادنا يتحدثون في السياسة في كل الاوقات و يصمتون وقت الانتخابات و الناس العاديون في البلاد الحرة لا يتحدثون في السياسة الا في وقت الانتخابات. ومن الصعب علينا استيعاب ما يحدث و كيف مثلما هو من الصعب على الاعمى تحليل الالوان في حديقة زاخرة بالزهور.
التغييرات الحادة التي نشهدها في انتخابات البلاد الحرة دليل على ان الناس العادية غير المنحازين اساسا تفهم و تقرر و تغير. و بالطبع فانها تبني معظم حكمها على انجازات او اخفاقات من جربته
تصوًًًّروا ما ستؤول اليه الديمقراطية في حالة فشل ماكرون في سياسته الجديدة (هكذا يقول) وانتشار خيبة أمل واسعة في صفوف المواطنين الذين وضعوا ثقتهم في عهوده ومشروعه الاجتماعي والاقتصادي لفرنسا داخليا وفي علاقتها مع اخواتها في المجموعة الأوروبية! سيحدِث هذا إحباطا نفسيا لن تكون تبعاته محمودة، والكل يتنبأ بانطلاقة متأججة للحركات الاحتجاجية والإضرابات !
ما هي إذن حظوظ ماكرون في قيادة فرنسا بطريقة لا هي يسارية ولا يمينية، وبحكومة ونواب جدد منهم من لم يمارس السياسة أبدا في حياته، ومنهم من له تجربة في المجتمع المدني مع الجمعيات والهيئات غير الحكومية مثلا ؟ من المراقبين مَن يرى في فكرة حزب جديد بدون ايديولوجية ولا انتماء اشتراكي او محافظ هو نوع من التحايل او الكذب الكبير الذي ينتهي الناس بتصديقه من جراء تكراره يوميا على مسامعهم.
حزب خارج النظام سيعمل على تغيير هذا النظام، من يصدق؟ ما دام نظام الابناك والبورصات والتمويلات الخ هو هو بعد أزمة السوبرايز التي ضربت العالم اجمع. هل سيغير ماكرون نظام الابناك في تعاملها مع الزبائن والرأسمال والقيم الانسانية؟ حزب يخدم المواطنين ولا شيء غير ذلك، من يصدق؟ هل سيعمل ماكرون على إقناع المديف (نقابة روساء الاعمال) بضرورة ارساء دعائم سياسة اقتصادية ومالية عاجلة، هدفها دعم تكافؤ الفرص وتوزيع الأرباح بطريقة عادلة، والتضامن وتقليص الفوارق الاجتماعية!
ثم هناك ادعاء حزب او حكومة لا يهمها الا مصلحة الوطن، هذا ما يترك المرءَ متسائلا خصوصا لما نعرف ان فئة لا يستهان بها من المنتمين لهذا الحزب والحكومة الحالية تحركهم مصالح اخرى وقضايا احيانا تضر بقيم الجمهورية الفرنسية. الم نكتشف عند اختيار الناخبين الاشتراكيين عموما بنوا هامون كمرشح لتمثيل حزبهم في الحملة الرئاسية ان القسم الاسرائيلي من هذا الحزب استشاط غضبا من مواقف هذا الأخير اتجاه القضية الفلسطينية والفولار (المنديل المغطي للرأس) الاسلامي، فغدروا به وهو في وطيس حملته الانتخابية، وانضموا الى جماعة ” الجمهورية الى الامام”؟
ما هذا؟ منهم من لحق بماكرون حتى لا تضيع امتيازاته السياسية التي ألفها منذ زمان، ومنهم من خطط لتصفية حسابات خاصة مع خصوم له داخل الحزب الواحد، ومنهم المحتال الانتهازي او البراكماتي كما يقولون. وهكذا يحدث التلاعب على علم الجميع بالقيم الديمقراطية التي بدأت تتلاشى وتفقد بوصلتها !