فجر انتحاري نفسه في القاعة الكبرى للاحتفالات؛ المعروفة بـ «مانشستر أرينا»، يوم الاثنين الماضي، وذلك بعد العاشرة والنصف ليلا بتوقيت بريطانيا الصيفي، وكان الجمهور يهم بمغادرة حفل أحيته المغنية الأمريكية «أريانا غراندي».
واصل الشرطة البريطانية البحث عما تعتقد أنها شبكة تقف وراء الهجوم الانتحاري، الذي أودى بحياة 22 شخصا وأربعة وستين مصابا؛ بينهم عشرون شخصا في حالة حرجة. وحدث التفجير خارج قاعة الحفل، وقام به شاب اسمه سلمان رمضان العبيدي ليبي الأصل. وألقت السلطات القبض على أربعة أشخاص، بينهم الشقيق الأكبر لسلمان. وأفادت وكالة «رويترز» للأنباء بأن قوة محلية لمكافحة الإرهاب في ليبيا اعتقلت والد سلمان وأحد اخوته في طرابلس.
وصرحت وزيرة الداخلية البريطانية، أمبر رود بأن هجوم الاثنين الماضي أكثر تقدما من الهجمات السابقة، وتُرَجّح أن المنفذ لم يُعِد لعمليته منفردا.
وتم رفع حالة التأهب في أنحاء بريطانيا إلى مستوى الوضع الحرج؛ أي إمكانية حدوث عمليات أخرى مماثلة. وأُغلِق قصر ويستمنستر - مقر البرلمان - ولن يُفتح حتى إشعار آخر. واتخذت قوات الجيش مواقعها في محيط مجلس العموم، وحول مقر رئاسة الوزراء، في 10 داونينغ ستريت، وبالقرب من المباني الحكومية الرئيسية.
وهناك رأي يرى أن من يحاربونهم اليوم كانوا معهم قبل ثلاثة عقود؛ وقتها كانت أمريكا بحاجة إليهم في صراعها ضد الاتحاد السوفييتي السابق. وفي مقطع فيديو منقول عن شبكة «سي إن إن» الأمريكية؛ تحدثت هيلاري كلينتون؛ وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، وأشارت إلى أن محاربة الاتحاد السوفييتي باركها الرئيس ريغان ووافق عليها الكونغرس بأغلبيته الديمقراطية. وتمت بتعاون المخابرات الأمريكية مع المخابرات الباكستانية، وتجنيد (المجاهدين) من السعودية ومن البلاد العربية والإسلامية الأخرى.. وكلينتون قالت: أسقطنا الاتحاد السوفيتي وكان علينا أن نوقن أن ما زرعناه سوف نحصده!!.
وأشار وليام أودوم ـ مدير وكالة الأمن القومي في عهد ريغان إلى أن أمريكا تستخدم الإرهاب منذ فترة طويلة، ولما ظهر زبغينيو بريجينكسي مستشار الأمن القومي السابق في إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر؛ نظر إليه الديمقراطيون كمعادل لوزير الخارجية الجمهوري الأشهر هنري كسنجر. وبريجينسكي هو واضع بذرة «الجماعات الجهادية»، وخاطب قادتها قائلا: لدينا قناعة بإيمانكم العظيم بالله.. وتلك الأرض التي هناك أرضكم وستعودون إليها، وتملكون بيوتكم ومساجدكم مرة أخرى. وبهذه الحرب أراد «إهداء روسيا فيتنام خاصة بها، واستمرت زهاء عشرة أعوام؛ اضطرت معها موسكو لعدم التراجع؛ رغم ضعف التأييد الشعبي، وهو ما أدى إلى سقوط الإمبراطورية السوفييتية». حسب قوله!!
قامت خطة بريجينسكي على مشاركة باكستان والمملكة العربية السعودية ومصر؛ جلبوا المقاتلين من القارة العربية والعالم الإسلامي. وأقاموا معسكرات التدريب في باكستان، وتشير التقديرات إلى تدريب أكثر من 100 ألف مسلح على فنون القتال والحرب.. وكانت خطة واشنطن مبيتة لاستدراج موسكو لحرب مفتوحة لا تُطلَق فيها رصاصة أمريكية واحدة.. وانطلقت الحرب من القاهرة؛ بعد زيارة بريجينسكي، ولقائه بالسادات؛ حاملا مطلبين محددين: الأول مشاركة المؤسسة الدينية المصرية في الحشد والتعبئة ضد السوفييت؛ بدعوى نجدة المسلمين الأفغان، والثاني هو الحصول على أسلحة سوفييتية من المخازن العسكرية المصرية وشحنها إلى أفغانستان. وطمس أي معالم تشير لدعم أمريكي لـ«المجاهدين»، وتفضيل الأسلحة الروسية، لتبدو غنِائم حرب حصل عليها المجاهدون من الروس.
واختار السادات مطار قنا العسكري كمحطة لشحن الأسلحة إلى باكستان، وتحول ميناء بورسعيد لقاعدة خلفية لتخزين وشحن السلاح إلى ميناء كراتشي. وفي اليوم التالي للقاء السادات اجتمع بريجينسكي بالأمير فهد ولي العهد السعودي آنذاك، والأمير سلطان وزير الدفاع في غزة. وتحملت السعودية النصيب الأكبر من النفقات، إضافة لتوظيف مؤسستها الدينية للدعوة إلى الجهاد الأفغاني. وفي عام 1980 رحل كارتر وبريجينسكي عن البيت الأبيض وخَلَفَهما رونالد ريغان، فأكمل المهمة.
تقًول السيرة الذاتية لـ»أسامة بن لادن» المحفوظة لدى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أنه ترك السعودية لقتال السوفييت في عام .1979، وخلال 5 سنوات، أسس «مكتب الخدمات».. وتكَشّف لاحقًا أنه «مكتب» ترعاه المخابرات الباكستانية؛ باعتبارها وكيل معتمد للمخابرات الأمريكية في حربها ضد موسكو.. وبدت نبوءة كلينتون قابلة للتحقيق فما زرعته واشنطن بدأت تحصده بالفعل.
تحرك قطار الإرهاب، فوصل مدريد في آذار/مارس 2004 بسلسلةً تفجيرات منسقة استهدفت شبكة قطارات العاصمة الإسبانية؛ أسفرت عن مقتل مائة وواحد وتسعين شخصًا وإصابة ألف وثمانمئة آخرين. وانتهت التحقيقات إلى أن المنفذين متعاطفون مع تنظيم القاعدة، وتبعتها تفجيرات لندن في 07/ 07/ 2005 وتعد الأكبر بعد لوكربي في سنة 1988 وأول هجوم انتحاري يقوم به أربعة شبان بريطانيين مسلمين، وبلغ الضحايا اثنين وخمسين شخصًا والمصابون سبعمائة.. وثلاثة من المنفذين الأربعة مولودون في بريطانيا ويحملون جنسيتها، والرابع اعتنق الإسلام ومولود في جامايكا بمنطقة الكاريبي..
واصل القطار سيره إلى النرويج في تموز/يوليو 2011 بهجومين؛ راح ضحية الأول سبعة وسبعون شخصا، وأصيب ثلاثمائة وتسعة عشر شخصا.. وراح ضحية الهجوم الثاني بجزيرة أوتويا. حين فتح شخص النار على كل من يقابله فقتل ثمانية وستين وأصاب مئة وعشرة، وكانت إصابة خمسة وخمسين منهم خطيرة؛ توفي أحدهم متأثرًا بجراحه بعد يومين من الهجوم. وكان الهجومان أسوأ ما تعرضت له النرويج منذ الحرب العالمية الثانية..
ووصل محطته الفرنسية في صباح السابع من كانون الثاني/يناير 2015، واستمر حتى مساء التاسع من نفس الشهر وقعت سلسلة هجماتٍ في أرجاء متفرقة؛ ومنها العاصمة باريس. وراح ضحيتها سبعة عشر شخصًا، بالإضافة إلى منفذيها الثلاثة، وإصابة اثنين وعشرين آخرين، وأعلن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب مسؤوليته عن الهجوم.. وأسفر الهجوم على مقر صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة عن مقتل اثني عشر شخصًا وإصابة اثني عشر آخرين.. وهي من الهجمات الأكثر دموية في تاريخ فرنسا منذ تفجير قطار فيتري لو فرانسوا عام 1961 من قِبَل منظمة الجيش السري، ولحقتها هجمات أخرى في الثالث عشر من تشرين الثاني/نوفمبر وأسفرت عن مقتل مائة وتسعة وعشرين شخصًا بالإضافة إلى منفذيها السبعة وإصابة ثلاثمائة واثنين وخمسين آخرين بالإضافة إلى ستة وتسعين إصابتهم خطيرة، وتعد الأكثر دموية في تاريخ فرنسا والأكثر وحشية على مستوى الاتحاد الأوروبي منذ تفجيرات مدريد 2004، وأخيرا وصل القطار إلى «مانشستر أرينا».. كانت هذه بعض محطات قطار الإرهاب، الذي ما زال يواصل سيره في قلب أوروبا ومدن العالم الأخرى. ولماذا لا يكون القتل والقتل المضاد دافعا لاتباع نهج الوفاق والتعاون والمصالح المتبادلة ونبذ الحروب، وإعطاء العالم فرصة لالتقاط الأنفاس واستجماع القوى فيتصدى للتقسيم والإضعاف، ويَحُول دون إعادة إنتاج نظام دولي فاسد وقِدَيمِ ومتصدع، وهذا سيفرض قسرا، فتزداد الفوضى، ويزداد معها خلط الأوراق والعبث بكل شيء، وإذا ما تفجرت حرب فستكون الأكثر وبالا على العالم.. كل العالم!!
٭ كاتب من مصر
محمد عبد الحكم دياب