ماهر أبي سمرا: وجود الخادمة دلل الرجل وخفف أعباء المرأة

حجم الخط
0

بيروت ـ «القدس العربي»: عندما وصل الصوت متسللاً من ليل المنازل، مجيباً على سؤال إشكالي عن وجود «العاملة المنزلية» في حياة العائلات اللبنانية، وتكرر المشهد برتابة دون مواجهة الشاهد، نجح مخرج فيلم «مخدومين» في جعلنا نحاكم ذاتنا. ولج ماهر أبي سمرا إلى منطقة مطبق عليها في وعينا بتأكيده أن مسلمة قولنا ككفلاء «منعاملا كتير منيح» وحدها كافية لمحاكمتنا على فعل عبودية نمارسه على الغير كما يمارسه أرباب عملنا علينا، في القطاع الخاص أو العام.
«مخدومين» فيلم وثائقي من ساعة وعشر دقائق لعب في متروبوليس ـ صوفيل طرح قضية اليد العاملة المنزلية وغياب الحقوق المهنية والإنسانية. معالجة ولجت الجانب السياسي والاقتصادي المحلي والعالمي وما أفرزته الليبرالية الجديدة من ممارسات. حتى وإن حكى «مخدومين» عن خصوصية لبنانية في العمالة غير المحمية قانوناً، إلاّ أنه يخاطب حالة قائمة في العالم، منها العمالة الوافدة من أوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية. لهذا وجد ترحيباً حيث عُرض في ألمانيا، وفرنسا، والأرجنتين، وهولندا، وبلجيكا، ودبي وأخيراً بيروت. كما نال جوائز عدة وتنويهات.
يحكي المخرج ماهر أبي سمرا عن اليد العاملة الرخيصة كموضوع عالمي. ويقول لـ «القدس العربي»: الأمريكيون يستخدمون أعداداً هائلة من اليد العاملة الفلبينية. تطور الاقتصاد الليبرالي وصار استخدام اليد العاملة الرخيصة دون حدود. غزت مصانع الملابس والأحذية الشهيرة من أوروبا والولايات المتحدة بلدان العالم الثالث هرباً من الحقوق المكتسبة للعمال في بلدانها. والتصنيع في البلدان الفقيرة يعتمد الاستغلال الهائل. وهذا ما أورده الفيلم عن مصنع الملابس الضخم الذي هبط وقضى على 1135 من العمال في بنغلاديش. ولدى عرض الفيلم في ألمانيا تبعه حوار طويل تناول في جزء منه نساء الخدمة المنزلية من بلدان أوروبا الشرقية، حتى وإن اختلفت الظروف نتيجة اختلاف الوضع الاقتصادي. النيوليبرالية تركتنا نرى مدراء شركات شهيرة يرافقون رؤساء دولهم الأوروبية في زياراتهم لبلدان العالم الثالث، بهدف توقيع عقود لاستخدام اليد العاملة الرخيصة. نظام قائم عالمياً، نعتمده كلبنانيين حتى أقصاه مع تشويهه.
للوهلة الأولى قد نرى الربط بين استخدام معلمة لبنانية لعاملة أجنبية وبين «السيستام» أو النظام العالمي الليبرالي مثيراً للعجب، ولأبي سمرا موقف: كسبت المرأة حقوقها بعد نضال كبير من إجازة أمومة ملائمة، ودعم للحضانة وغير ذلك. في لبنان تواطأت الدولة مع السيستام لعدم وجود أي ناظم لحياة البشر. والمجتمع برمته قاصر عن إحقاق حقوقه البديهية. وهذا ما يتم التعويض عنه بامرأة تحل مكان أخرى في تلبية الحاجات.
ماهر ابي سمرا المخرج يمسك في أفلامه بعنوان اجتماعي أو سياسي ويترك كل منهما في خدمة الآخر وصولاً لتسليط الضوء على جانب اقتصادي مالي هو الأصل. ما هي حوافزه للتعبير السينمائي؟ يقول: لأفلامي نصوص، ووجهة نظر سياسية واجتماعية. لا قناعة عندي ببراءة فكرة الموضوعية، بل نحن حيال وجهات نظر مبنية وفق منطق سياسي اجتماعي. في «مخدومين»، أو «دوّار شاتيلا» عن اللاجئين الفلسطينيين أو غيره يستفزني كمواطن يعيش في هذا البلد أن تصبح عدم العدالة شكلاً طبيعياً للحياة.
ماذا بعد التصفيق الأوروبي والجوائز لأفلام تحكي العدالة المفقودة عندنا؟ لا يوافق أبي سمرا على هذا التساؤل عن علاقة الغرب بأعمالنا الفنية ويبلغنا جديده: أمس تلقيت رسالة تفيد بنيل «مخدومين» جائزة من مهرجان يحمل عنوان «صوِّر الشغل» في فرنسا. للمهرجان لجنة تحكيم، لكن وزارة العمل هي التي قدّمت الجائزة المالية. لم أكن موجوداً في المهرجان وطلب مني كتابة كلمة. لم يكن عابراً عندي المرور على مشروع قدمه وزير العمل الحالي في فرنسا لخفض الرواتب وزيادة ساعات العمل. رسالتي تضمنت هذا السلوك الرسمي وتمت تلاوتها. في الغرب يشاهدون الفيلم ومن ثم يناقشون السيستام المتبع عندهم.
سرد صوت المخرج في فيلم «مخدومين» حكاية «سلمى» التي اشتغلت «صانعا» ومن ثم افتتحت سنة 1960 أول مكتب للخدم. مكتب «الست سلمى» كان يُشغّل بين 5 و10 آلاف فتاة سنوياً. «فرط» شغل سلمى مع بدء وفود العاملات من سيريلانكا سنة 1978. بعدها تقول سلمى بنفسها «بعت المكتب وتوفيت سنة 1985». هكذا تقول بما يتطابق مع السرد الدرامي للفيلم، ويأتي في سياق رؤية المخرج للشخصية. ومن خلال حكاية «سلمى» بدا تاريخ اليد العاملة المنزلية من لبنانية، فلسطينية وسورية أشد إيلاماً مما هو واقع الأفريقيات والأسيويات، فهن مطلوبات بعمر الطفولة «بين 7 و12 سنة». كمشاهدين رسمنا لهن صوراً قاسية للغاية. «سلمى» تحولت من خادمة شغّلتها البعثة البابوية حين كانت تمد اللاجئين الفلسطينيين بالمساعدات بعد نكبة 1948 إلى مشغلة للخدم. عن «صانعات» المرحلة الشهابية حين كثر من يطلبون الخدم يقول ماهر أبي سمرا: يريدونهن صغيرات العمر لأنهن غير مزعجات، يتعاملون معهن كغير مرئيات، ويمكن تربيتهن حسب رغبة ست البيت. في حاضرنا الخادمة غير مرئية أيضاً لأننا نريدها لا تعرف لغتنا وليس لديها أصدقاء. هي موجودة في منازلنا إنما حضورها غير مربك لأنها مشيئة.
قد يقصد أحدنا صالة متروبوليس لمشاهدة «مخدومين» وفي باله أنه سيكون وجهاً لوجه مع صاحبات البشرة السمراء اللواتي يتولين تربية أطفالنا. هذا ليس وارداً سوى في مشهد واحد تؤدي فيه الممثلة برناديت حديب دور السيدة وحولها خادمتان. تعلمت من والدتها ما يفيد أن الخادمة التي تجيد عملها، هي التي تعمل ولا نراها ولا نشعر بوجودها «Invisible». هو التعريف العالمي للخدم حسب أبي سمرا، وينسحب كذلك على النساء ربات المنازل. نعم الخادمات غير مرئيات في الخلفية الفكرية وكذلك في هندسة غرف نومهن في العمارات.
لماذا العاملات غير مرئيات في فيلم عنهن والحوار برمته يدور حولهن؟ هن الضحايا نعم يقول أبي سمرا، لكني قررت تسليط الضوء على صاحب المكتب. أن تحكي خادمة فلن يكون قرارها، كفيلها سيمنحها الإذن، فهي ملكه. لم أرغب بعاملة تتكلم، فلا سعي عندي لحسن النوايا. وفي مكتب الاستخدام سمعنا صوتهن ولم نرهن.
في «مخدومين» يتداخل السرد مع المشهدية، تتنقل الكاميرا بين العمارات وتصلنا ردود النساء أو الرجال على سؤال المخرج. في روايته السردية نعرف من أبي سمرا أن من قالوا «نعامل الخادمات منيح» رفضوا الظهور أمام الكاميرا. لكن أبي سمرا نجح في وضعنا أمام محاكمة ذاتية والسؤال «شو يعني منيح»؟ وفي تعليقه لنا قرأ في «المنيح»: سلطة جديدة مسلّطة على الخادمات. فإن هنّ تنكرن لـ»المنيح» سيكون لهن رب عمل قد لا يكون «منيح». «المنيح» صار عطاءً وغير مُكتسب.
في البحث عن حقوق المرأة سجل أبي سمرا انتصاراً للرجل الذي صار حراً من أي التزام منزلي، عندما صارت لزوجته مساعدة. صار الزوج يمنن زوجته بالخادمة، فيما المطلوب أن يتحرك في منزله ليقوم كما زوجته بكافة المهام. فواقع العاملة المنزلية أنها تقوم بمهام الرجل بنسبة 100٪ وبنسبة 50٪ من مهام المرأة. وهكذا يتدلل الرجال.
استسلام صاحب مكتب الخدم زين ومعاونته أمال للكاميرا كلياً أتى لصالح الفيلم، وحضورهما المتواطئ جعل الزبائن في حال اطمئنان فاكتمل المشهد. في رأي أبي سمرا أن الكاميرا خاصته أتت من ضمن منطق العلاقة بينه وبين الشخصية. حضرت الكاميرا بكل ثقلها، وأتت الصورة حصيلة العلاقة التي بنيت مع زين ووضوح الـــهـدف. كـنــت في بحث عن منـطـــق نظــام الاستخدام وليس عن «أبلسة» زين. وبعيداً عن مكتب زين رغب المخرج بتوجيه الإصبع نحو من يقول «نحنا مناح» وهم حسب أبي سمرا 90 في المئة من اللبنانيين.
التعايش اللبناني الكلي مع الخادمات اللواتي فاق عددهن 200 ألف عاملة رغم الديون التي ترزح تحت عبئها الدولة انعكس على المخرج أبي سمرا حالا من الهدوء خلال الأبحاث الخاصة بالفيلم وصولاً لإنجازه بالشكل الذي شاهدناه. في المحصلة هو ليس فيلماً مختصاً بالخادمات فقط، بل جذوره متصلة بالنظام العام للعمل أو «السيستام» ونحن براغي فيه حسبه. وهو على صلة كذلك بالمساواة في المهمات بين النساء والرجال، والمساواة بين الأبيض والأسود، وتأمين الخدمات العامة المفقودة للمواطنين. ينهي أبي سمرا الحوار قائلاً: هي البرودة التي حكمت أبحاثي، لهذا لم أواجه ما يدهشني. فقط تعمق حزني على حالنا.

ماهر أبي سمرا: وجود الخادمة دلل الرجل وخفف أعباء المرأة
«مخدومين» يتغلغل إلى نسيج «سيستام» الاستغلال العالمي
زهرة مرعي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية