رغم ورود آية الإعداد والاستعداد بالمستطاع من القوة في القرآن الكريم، الكتاب الأهم عند المسلمين، إلا أن أصحابها هم أقل أهل الأرض في هذا الزمان عملاً بها، حيث يبدو أنهم، عن جهل أو تجاهل، لا يظنون أنهم معنيون بأخذ ذلك الأمر الإلهي، الذي يدعو لتتبع جميع أسباب القوة المادية والمعنوية على محمل الجد.
هذه المفارقة تشبه المفارقة الأشهر مع آية القراءة، التي كانت أول الوحي القرآني. وصية أخرى لا يكترث بها إلا القليل، وتجعلنا نصل إلى ما لخصه كثيرون بقولهم: أمة «إقرأ» لا تقرأ. وهي فعلاً لا تقرأ ولا تكتب وينتشر فيها الجهل والأمية بشكل لا يتناسب مع ذلك الأمر الإلهي، الذي جعل القراءة أولوية في سياق الوحي القرآني.
إلا أن آية الإعداد وقعت ضحية لاستغلال جماعات ضعيفة الفهم، قامت بالتركيز على شقها الثاني: «ترهبون به عدو الله وعدوكم». هذه الجماعات اتخذت ذلك الجزء المقتطع عنواناً لها، مع أنه لا ينفصل عن سابقه، لا من ناحية اللغة ولا من ناحية المعنى، حيث تخبر الآية أن توفير القوة اللازمة سوف يكون كافياً لإرهاب أي عدو محتمل. أما ما يحدث اليوم مع هذه الجماعات الفوضوية فهو أنها اتخذت الإرهاب هدفاً بحد ذاته وانطلقت من هذا الهدف للقيام بضربات عشوائية جبانة، كانت نتيجتها الدخول في حرب بلا غاية كان المسلمون، الذي لم يتوفر لديهم أي سبب من أسباب القوة، هم أكبر ضحاياها.
السياق هنا لا يشرعن الإرهاب، كما يروّج لذلك بعض المغرضين، بقدر ما يحث على ضرورة توفير القوة اللازمة لردع الأعداء عن أي محاولة للاعتداء. كأن الآية قد سبقت طرح «نظرية الردع» المعروفة اليوم في عالم النظريات الدفاعية، التي يعد تطوير الأسلحة النووية وما بعد النووية مثالاً لها. الدول التي تتسابق اليوم لتطوير هذه الأسلحة، وغيرها مما يعرف بأسلحة الدمار الشامل ليست غبية. هم يعلمون أن استخدام هذا السلاح لن يكون سوى خيار انتحاري، لأنه ببساطة أقوى مما يجب، حتى أن تأثيراته لن تتوقف عند حدود العدو فقط، بل قد تصل لمناطق قد تشمل ثلث العالم، وسوف يتضاعف الخطر إذا كان لدى ذلك العدو أيضاً أنواع السلاح الفتاك نفسها. هم لا يجهلون أن الدخول في هذا النوع من الحروب قد يعني نهاية العالم بشكل فعلي. رغم ذلك فإن العمل على تطوير مزيد من هذه الأسلحة لن يتوقف،. ليس بسبب الرغبة في استخدامها، ولكن لأن مجرد وجودها يجعل العدو يفكر آلاف المرات قبل الشروع في أي محاولة للهجوم أو الاعتداء، بعكس الدول المستضعفة التي لا تمتلك أي قوة في الجيش أو السلاح، والتي يستطيع كل من هب ودب أن يخترق حدودها، أو أن يتجاوز سيادتها أو حتى أن يقتطع أجزاء من أرضها.
في الولايات المتحدة يعتبر حمل السلاح حقاً مكفولاً لجميع المواطنين، في حين تنتشر مدارس الرماية في جميع الولايات وتنخرط فيها تقريباً جميع فئات الشعب بمن فيها النساء والمراهقون. ورغم أن انتشار السلاح وسهولة استخدامه تنتج عنه أحياناً بعض الأحداث المؤسفة، كما حدث مؤخراً في مدرسة ولاية فلوريدا، إلا أن الغالبية من الأمريكيين يبدون مقتنعين بأنه لا يمكن منع أي أحد من اقتناء السلاح، أو من التدرب على استخدامه. هي قناعة مترسخة بالحق في الدفاع عن النفس، وحين تستمع لأصوات المتحمسين لهذا الموضوع، تحس بأن عامة الشعب تحاول التجهز و»الاستعداد» ليوم قريب قد تتعرض فيه الأمة الأمريكية لهجوم.
الحقيقة هي أنه رغم كون ذلك احتمالاً مستبعداً في حالة الولايات المتحدة، إلا أن أعداداً كثيرة تفضل أن تكون على أهبة الاستعداد حتى لا تتحول للقمة سائغة بيد أي عدو، بل إن معظم الذين يظهرون اعتراضاً على تقنين بيع السلاح، لا يعترضون في الواقع على مجمل الفكرة، بقدر ما يطالبون بمزيد من التدقيق على الهويات وإجراء الفحوص اللازمة من أجل عدم وقوع هذه الأسلحة في الأيدي الخطأ. من الطرائف هنا أنه وبعد وقوع سبعة عشر شخصاً ضحية لإطلاق النار العشوائي الأخير داخل مدرسة فلوريدا، ورغم حدة ردود الأفعال فإن الإدارة الأمريكية ما تزال مصرة على أن هذه الحادثة وغيرها يجب ألا تمنع الملايين من الراغبين من اقتناء السلاح، ولأن لا شيء يمكنه أن يمنع تكرار مثل هذه الحوادث بين فينة وأخرى، رأى البعض أن الحل يكمن في تسليح المعلمين، ليكونوا مستعدين للدفاع عن أنفسهم وتلاميذهم.
تتسابق دول الشرق والغرب للحصول على جميع معاني القوة الدفاعية والاقتصادية والعلمية، وقد رأينا كيف استطاعت دولة كان ينظر إليها باستخفاف أن تبتز الدول الكبرى جميعها وأن تفرض نفسها مجدداً على الساحة الدولية بعد تطويرها للسلاح النووي. يقول مارتن وايت شارحاً ما يعرف بنظرية القوة في العلاقات الدولية، إن أهم ما يميز التاريخ الحديث هو تفوق فكرة «القوة» على فكرة «الحق»، وهي عبارة تلخص بشكل مختصر واقع العالم الذي تفرض فيه الدول الأقوى تصوراتها على الدول الأضعف، فيكون الحق نسبياً ومرتبطاً بما ترى هي، أي الدول الأقوى، أنه حق.
ولأن الأمور تسير هكذا فإن هذه الدول الأكبر التي يطلق عليها أيضاً دول المركز، سوف تحاول بشكل حثيث أن تحتكر القوة، وأن تمنع غيرها من دول الأطراف من الوصول إليها، سواء كان ذلك عبر التكتل الاقتصادي مع بعضها بعضا، أو عبر الوصول إلى تطور علمي قد يفضي إلى تطور في المجال الدفاعي. تماشياً مع ذلك سوف تكون الدول التي تملك جميع أنواع الأسلحة الخطرة والأكثر خطورة هي الأعلى صوتاً في منتديات منع انتشار الأسلحة.
في منطقتنا ستتم الدعوة لإخلاء ما يسمى بالشرق الأوسط من السلاح النووي، لكن هذه الدعوة، للمفارقة، لن تكون ملزمة بالقدر ذاته للكيان الصهيوني الذي يجبرنا واقع العلاقات الدولية على أن ننظر إليه باستثناء، وأن نركز على منع الآخرين فقط من اقتناء القوة النووية، حتى إن كان ذلك لغرض سلمي أو تنموي.
يجب ألا يفهم أن المقصود هو فقط قوة السلاح، لأن المفهوم قابل للانسحاب على جميع أسباب القوة التي يدخل فيها كل ما هو علمي أو اقتصادي، أو غير ذلك مما بات علماء العلاقات الدولية المعاصرون مثل جوزيف ناي وجوناثان مكلوري يطلقون عليه اسم «القوة الناعمة». أشياء من قبيل القيم السياسية والثقافة والدبلوماسية التي يكون لها في بعض الأحيان تأثيرات سحرية على الأطراف المقابلة. المهم في حديث المنظرين عن «القوة الناعمة» هو ربطهم للسياسة الداخلية بالقوة الخارجية، وهو اتجاه يحتاج المزيد من العناية من قبل المنظرين، خاصة أنه ثبت عبر تجارب كثيرة أن المجتمعات المفككة والمتصارعة، أو التي تعاني من الظلم لا يمكن أن تكون بأي حال قوية ومستعدة لمواجهة خصومها، وإن امتلكت ما امتلكت من عناصر القوة المادية.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح