بركاتك يا ثورة أو يا انتفاضة أو حتى يا انقلاب! لم يعد ديكتاتور تونس السابق يعرف الأوامر والنواهي فقط، بل صار مثل باقي البشر العاديين يحلم ويتمنى أيضا. المشكلة هي أنه لا يستطيع تطبيقا لتعليمات مضيفيه السعوديين التي تقتضي منه التزام صمت شبه مطبق، وعدم الإدلاء بأي تصريحات للإعلام أن يفصح عما يحلم به أو يتمناه.
وأقصى ما يستطيع أن يفعله بدلا من ذلك هو أن يسرب لبعض المقربين منه قليلا من تلك الأمنيات والأحلام، التي تخطر بين الحين والحين بباله. أما ما نعرفه جميعا فهو أنه لا يشكو بكل تأكيد من أي ضائقة أو صعوبة مالية، لا سمح الله، فقد حمل معه ما يكفي من السيولة النقدية وزيادة، ولا تبدو عليه أيضا أعراض الوهن أو المرض بشكل يدعو للقلق على سلامته أو صحته العقلية أو البدنية. فما الذي يمكن أن يحلم به إذن عدا الستر في الدنيا والآخرة؟ وهل أن ما يقض مضجع الرجل، الذي أجبر على ترك السلطة بأقل التكاليف، ولايزال بمنأى عن أي ملاحقة قضائية، عما ارتكبه في سنوات حكمه، بفضل استمرار الحماية السعودية له ولأسرته الصغيرة، يمكن أن يكون شيئا آخر غير البحث عن الستر؟
هل تكون العودة من جديد إلى البلد الذي حكمه لأكثر من عشرين عاما، هي التي تشغله وتستحوذ على تفكيره وتجعله يحن للأيام الخوالي التي كان فيها التونسيون يرتجفون لمجرد ذكر اسمه؟ لا شك بأن شيئا مثل ذلك يمكن أن يراوده بالفعل ويجعله مشوش البال لا يهنأ بحياته. لكن السؤال الحقيقي لم يعد إن كان سيرجع يوما إلى البلد الذي فر منه بجلده أم لا؟ بل كيف ولأي سبب سيعود؟ فمن يدري لعل الأنباء تطالعنا يوما بخبر عاجل يقول: «لقد وصل الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي صباح اليوم إلى مطار قرطاج قادما من جدة، بعد غياب طويل دام أكثر من سبع سنوات. وفور دخوله صالة كبار الزوار أدلى للصحافيين بتصريح مقتضب عبّر فيه عن مشاعر سعادته بعودته لبلاده واستعداده لخدمتها والدفاع عن مصالحها ومصالح شعبها من أي موقع كان، وفاء لدماء شهدائها الأبرار وتضحياتهم في سبيل عزتها ومناعتها واستقلالها». ولربما رأى البعض ذلك سرابا وأضغاث أحلام، فحتى أشد الموالين والمقربين من الرئيس المخلوع ليسوا على ثقة تامة من أن عودة بذلك الشكل يمكن أن تحصل بالفعل، مهما كانت درجة تسامح التونسيين، أو مهما بلغ مستوى نسيانهم وتجاوزهم لما فعله بهم على مدى عقدين كاملين من حكمه.
والحقيقة أن معظم هؤلاء لم يكونوا يتوقعون ومنذ الشهور والأعوام الاولى التي تلت هروبه، أن هناك احتمالا ولو واحدا في الألف من أنهم قد يسمعون يوما خبرا مماثلا، ولو على سبيل الدعابة، بل أن كل ما كان يدور بأذهانهم هو أن الرجل الملاحق جنائيا مات وشبع موتا وانتهى سياسيا، وصار بالنسبة لهم أشبه «بالكارت المحروق» الذي لا قيمة له، وكل ما كانوا يتصورونه هو أنه سيمضي ما تبقى من أيامه في عزلة مريحة في أحد قصور الضيافة السعودية، وإنه لن يحصل في حالة ما إذا غيّر موقفه وقرّر لسبب أو لآخر أن يترك منفاه الاختياري في السعودية ويعود لتونس، إلا على الحد المعقول من الآدمية، التي تجعل رجال الشرطة يعاملونه بشكل حضاري وبدون إهانات أو استفزازات مجانية، حين يضعون «الكلبشات» في يديه ويقودونه على الفور، وكأي مطلوب اخر إلى السجن، تنفيذا للأحكام الصادرة ضده. أما أن تُفتح أمامه صالة كبار الزوار، ويستقبل استقبالا رسميا أو حتى شعبيا يليق برئيس سابق، ثم يُسمح له بعد ذلك بممارسة دور سياسي قد يعيده مجددا لقصر قرطاج، فذلك ما كان بنظرهم من سابع المستحيلات. ولكن لننظر جيدا لما يدور من حولنا، ألا نعيش بالفعل عصر الانقلابات الكبرى والتحولات القياسية في المواقف والتصريحات والتحالفات، من النقيض إلى نقيضه؟ لنتأمل مثلا ما حصل مع بشار الاسد، ألم يكن في السنوات الاولى من قمعه لثورة شعبه مجرما وسفاحا بنظر معظم دول العالم، قبل أن يصير الآن وبعد ارتفاع حجم الكوارث والفظاعات التي ارتكبها عنصرا أساسيا وضروريا في إحلال ما يسمى السلام في سوريا؟
ألم يكن هو المشكل بنظر من حولوه الآن بقدرة قادر إلى جزء ضروري لا غنى عنه للحل؟ اذن ما المانع لأن يلحق به بن علي، ويتحول بدوره ايضا إلى جزء من الحل الذي ينتظره التونسيون لأزماتهم الاجتماعية والاقتصادية، وربما حتى الامنية والسياسية، مادامت الجرائم التي ارتكبها والدماء التي سفكها لا تعادل أبدا تلك التي ارتكبها وسفكها بشار؟ ألا يبدو الجنرال التونسي مقارنة بحاكم دمشق حملا وديعا وحمامة سلام لطيفة؟ لقد ظهر صهره وهو أيضا واحد من رجالات عهده البارزين، قبل ما يقارب الاسبوعين ليقول في تصريحات لإحدى المحطات الاذاعية المحلية، بأن «عودته في الظروف الحالية صعبة». لكن سليم شيبوب أضاف بنبرة عاطفية رقيقة بانه يعرف أن «حلمه، أي بن علي، هو أن يعود لبلاده ليس للاشتغال بالسياسة. ولكن ذلك هو حلم كل تونسي ذاق الغربة أن يموت في بلاده. وأنا اتصور أن بن علي له طلب واحد وهو الرجوع لبلاده». ولم يحدد الصهر صاحب السطوة والنفوذ الواسع في السابق، ما إذا كان الرئيس المخلوع يبحث عن حسن الختام، وعن قبر في تونس، أو أنه ما زال يطمح للعب دور ما قد يعيده بشكل من الأشكال للقصر، حتى إن اعلن نيته تطليق السياسة؟ ولعله كان يدرك تماما في قرارة نفسه أنه سيصعب على التونسيين أن يصدقوا أن الجنرال الهارب قد استخلص العبرة مما جرى له، ومما حصل لزميليه السابقين في اليمن وليبيا، وأخذ قرارا نهائيا لا رجعة فيه بالابتعاد تماما عن اهتماماته ومشاغله القديمة.
لم يمتلك الرجل مثل كل حكام العرب شجاعة الاعتراف باخطائه وجرائمه، ولا كانت له القدرة على أن يفهم أن العصر لم يعد عصره. والمفارقة هي أنه في اللحظة التي استعاد فيها التونسيون أصواتهم فقد هو القدرة على الكلام. وبمجرد أن صاروا أحرارا يغضبون ويحلمون ويحتجون ويصرخون، أصبح هو سجينا لا يستطيع أن يقرر حتى الخروج من قصره إلا بإذن وارادة حراسه السعوديين. فهل يستطيع اذن حاكم معزول فاقد للإرادة أن يرسم مستقبل شعب لفظه بعد أن ذاق الحرية وارتوى منها سبع سنوات كاملة؟
نعم بإمكانه أن يحلم ويخطط، فلا أحد يمكن أن يمنعه من ذلك، لكن أن يحلم باسم تونس أو يحلم بدلا عنها أو يحاول تطبيق احلامه فيها، فذلك ما لا يمكنه فعله أبدا بعد أن دفع آلاف التونسيون حياتهم ثمنا لأحلام وأمنيات بسيطة داسها الجنرال يوم كان يأمر وينهى بدلا من أن يحلم ويتمنى.
كاتب وصحافي من تونس
نزار بولحية
اكيد ان بن على من منفاه كشف عورة الطبقة السياسية الشعبوية و الثورجية من الإسلام السياسي إلى اليسار الفوضوى التى بعده و التى وعدت التونسيين بالجنة على الأرض و الجنة فى السماء ….و سبع سنوات فيما بعد اصبحوا يحلمون بنسبة نمو اقتصادية تساوى نسبة 2010 …التى اصبحت السنة التى يتمنى أن يصلوا إلى نتائجها فى كل المجالات….الاكيد ان التونسيين أصبحوا أحرار …..لكن احرار فى الاختيار بين الفقر و الإرهاب و الفوضى و تعطيل الإنتاج و الاستثمار و تقسيم البلاد بين شمال جائع و جنوب جائع أيضا و……و….و اخذ اجر بدون عمل و اخذ تعويضات على حرق وجوه الناس بماء الفرق و …..و…..و…..تحيا تونس تحيا الجمهورية