يلاحظ المراقبون لتصريحات القيادة التركية (أردوغان وداوود أوغلو وسنيرلي أوغلو) بصدد التوتر مع روسيا، نوعين متناوبين من الكلام. فتارةً يقولون إنهم لم يعرفوا أن الطائرة روسية، وإلا ما أسقطوها، وتارةً يشددون على «قواعد الاشتباك» واختراق الطيران الروسي للأجواء التركية، ثم يعلنون عن طلب أردوغان الاتصال ببوتين هاتفياً أو وجاهةً، في باريس، ورفض هذا الأخير لأي تواصل مع نظيره التركي. ويرفع أردوغان، بعد ذلك، من حدة تصريحاته بتحدي بوتين في اتهامه لتركيا بشراء النفط من داعش..
في غضون ذلك، يواصل الحلف الأطلسي تعزيز تواجده العسكري في شرقي البحر الأبيض المتوسط لموازنة التعزيزات الروسية الكبيرة في سوريا. فبعد قرار موسكو بنشر بطاريات الصواريخ الأكثر تطوراً S400 في قاعدة حميميم الجوية قرب اللاذقية، اتخذت قراراً آخر برفع عدد طائراتها المقاتلة في سوريا من 35 إلى 100 طائرة، بإضافة طائرات محملة بصواريخ جو ـ جو، كأنما استعداداً للرد على إسقاط الأتراك للسوخوي باستهداف أي طائرة تركية، جواً، إذا دخلت الأجواء السورية. إلى ذلك هناك أخبار عن بدء الروس بمشروع توسيع لمطار الشعيرات قرب حمص لاتخاذها قاعدة تمركز روسية إضافية في سوريا. بالمقابل بدأ حلف الناتو بإرسال تعزيزات عسكرية من مختلف الدول الحليفة إلى المنطقة المشتعلة. بريطانيا وفرنسا وألمانيا وحتى الدانمرك تساهم جميعاً في هذا «المجهود الحربي» الذي لا مثيل له منذ عقود طويلة. وعلى رغم ما يبدو من تراجع تركي أمام الغضبة البوتينية العارمة، لا زالت الاستعدادات جارية لعملية عسكرية مشتركة، تركية ـ أمريكية، لطرد داعش من بلدة جرابلس. وما احتدام المعارك، في الأيام القليلة الماضية، بين قوات الحماية الشعبية التابعة للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني وفصائل عربية مسلحة جمعتها «غرفة عمليات مارع» في عدد من النقاط من «المنطقة الخالية من داعش» التي تنوي تركيا إقامتها بمساعدة أمريكية، إلا انعكاساً ميدانياً للصراع التركي الروسي على الشمال السوري. أي أن الروسي يبدو مصمماً، بالمقابل، على منع أي توسع تركي شمال حلب.
منذ اللحظات الأولى بعد إسقاط السوخوي 24، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن «لتركيا الحق في الدفاع عن أجوائها» وكذا فعل حلف شمال الأطلسي وعدة دول من أعضائه. لكنها جميعاً حرصت، بالمقابل، على دعوة الدولتين لضبط النفس واحتواء التوتر. تبدو الإجراءات العقابية التي أعلنتها موسكو بحق تركيا من نوع الضغط للحصول على اعتذار تركي لإنقاذ ماء وجه بوتين أكثر من كونها تعبيراً عن نوايا عدوانية ضد تركيا العضو في الحلف الأطلسي. وقد حددت موسكو الأول من شهر كانون الثاني/ يناير القادم موعداً للبدء بتطبيق العقوبات، فيما يبدو منح مهلة معقولة للقيادة التركية لتقديم اعتذار عن إسقاط الطائرة. لكن القيادة التركية لا تبدو في وارد تقديم أي اعتذار، الأمر الذي يعني ثقة أنقرة بموقف حلفائها الأطلسيين. من المحتمل أن إدارة أوباما المتهمة بالمسؤولية عن تشجيع بوتين على التمدد في أوكرانيا وسوريا وفي مجلس الأمن، لا تريد، هي ذاتها، أن يعتذر الأتراك للروس. فالمعادلة الآن باتت معادلة كسر إرادات بين روسيا والحلف الأطلسي، أكثر من كونها بين روسيا وتركيا. وما إرسال السفن الحربية وحاملات الطائرات من دول الناتو إلى شرقي المتوسط، والطائرات البريطانية والفرنسية والألمانية إلى قاعدة إنجرلك قرب أضنة إلا تعبيراً عن وقوف الأطلسي وراء تركيا بلا أدنى تردد. وهذا ما أدركته موسكو جيداً فلم تتجاوز ردة فعلها على إسقاط الطائرة إلى تصعيد عسكري مباشر مع أنقرة.
ما الذي يمكن أن ينتج عن صراع الإرادات هذا؟
تعمل روسيا بدأب على تعزيز نفوذ عسكري دائم في سوريا بصرف النظر عما يمكن أن ينتهي إليه الصراع الداخلي فيها، ومن المحتمل أن مسار فيينا الذي وضع خريطة طريق لوقف الحرب في سوريا سيتعرض لتأخير زمني، إلى أن تضمن روسيا حصتها من سوريا ما بعد الأسد. أما بالنسبة لتركيا، فقد دفعتها أزمة إسقاط الطائرة الروسية بقوة إلى الاحتماء بحلف الأطلسي الذي طلبت القيادة التركية اجتماعه فور إسقاط طائرة السوخوي.
يعود المحلل السياسي التركي البارز جنكيز تشاندار إلى تاريخ الصراع التركي ـ الروسي، في محاولةٍ منه للإجابة على السؤال: «من الذي أمر بإسقاط الطائرة الروسية، أو من الذي شجع تركيا على ذلك؟» في حين كان يمكن تجنب هذه الورطة. فيذكر كيف أن علاقة تركيا مع الغرب تحددت، دائماً، بعلاقتها مع روسيا، إلى حد كبير. ففي العام 1783 استولت روسيا على شبه جزيرة القرم، الأمر الذي دفع الامبراطورية العثمانية إلى التحالف مع البريطانيين والفرنسيين لتحقيق التوازن مع التمدد الروسي. وهكذا اندلعت حرب القرم، بين 1853 ـ 1856، بين بريطانيا وفرنسا المتحالفتين مع الامبراطورية العثمانية من جهة، وروسيا من جهة ثانية. وفي الحرب العالمية الأولى التي انتهت بتفكك الامبراطورية العثمانية، ورطتها ألمانيا بالحرب على روسيا، بتواطؤ من حكم «الاتحاد والترقي». أما في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فقد دفعت مطالبة ستالين بالتحكم بمضيق البوسفور وبأراض تركية في منطقة قارس، بأنقرة إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي احتماءً من مطامع روسيا السوفييتية.
توحي عودة تشاندار هذه إلى المحطات التاريخية المذكورة وكأن الغرب الأمريكي ـ الأوروبي ورط تركيا، مجدداً، في صراع مع روسيا، بهدف المحافظة على توازن القوى مع الأخيرة، ولربط مصير تركيا مع الغرب الأطلسي بصورة نهائية، بعد عقد من سياسة خارجية تركية مستقلة، أو تسعى إلى الاستقلال، في ظل حزب العدالة والتنمية الحاكم.
تتلاقى مع هذا التحليل، مسارعة الاتحاد الأوروبي إلى التوافق مع تركيا، بعد طول جفاء، في شأن إيجاد حل لمشكلة تدفق اللاجئين إلى أوروبا، عبر صفقة الثلاثة مليارات يورو، وإعادة إحياء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. لافت هذا التطابق في تاريخ موعدين: بداية المفاوضات بين نظام دمشق الكيماوي والمعارضة السورية، وفقاً لخطة فيينا3، وبدء تطبيق العقوبات الاقتصادية الروسية على تركيا انتقاماً منها لإسقاط طائرتها. أمامنا إذن أقل من شهر، سيكون ملطخاً بدماء السوريين، لنعرف مآل صراع الإرادات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي