في مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات أخذ ينهار الإطار الوطني للصراع السوري على نحو متسارع، فلم يعد صراعا بين سوريين. وما بدأ كثورة شعبية، تحول إلى صراع إقليمي ودولي، تشارك فيه بصورة مباشرة قليلا أو كثيرا دول مثل إيران وروسيا، ومثل تركيا والسعوية وقطر، ومثل الأردن والإمارات، ومثل إسرائيل والولايات المتحدة، حتى قبل أن تتدخل الأخيرة عسكريا في سوريا، عبر قيادة تحالف دولي ومحلي ضد داعش. وفضلا عن الدول، وكأداة للدول أحيانا، تدفقت على البلد المنكود منظمات ما دون الدولة من حركات جهادية سنية شيعية وقوميين كرد، من بلدان قريبة وبعيدة.
الواقعة التي يتكثف فيها انهيار الإطار الوطني ليست اغتيال خلية الأزمة في 18 تموز/يوليو 2012 في دمشق، على أهمية الواقعة ودلالتها على انتصار الحزب الإيراني في مراتب الحكم الأسدي، بل هي توقف المظاهرات السلمية في الوقت نفسه بعد أن كانت بؤرها الأسبوعية وصلت إلى أعلى عدد لها في حزيران/يونيو 2012، بعد أكثر من 15 شهرا من الثورة، ونحو تسعة شهور من الظهور المؤثر لمكون عسكري للثورة. كان النظام أخذ يستخدم سلاح الطيران بكثافة، وفي آب/اغسطس من العام نفسه سيقصف حتى طوابير الخبز أمام الأفران في مناطق حلب وحماه.
ما حصل، تاليا، هو انكفاء الداخل الاجتماعي السوري عن الفضاءات العامة التي انتزعها بمشقة وبكلفة باهظة، مقابل تدفق قوي من الخارج بشري ومالي، ووقوع النظام ذاته تحت السيطرة الخارجية الإيرانية. ومنذ أن كف الصراع عن كونه سوريا، صار إقليميا ودوليا، من حيث محركاته، ومن حيث وزن الفاعلين الأكبر فيه، ومن حيث تسوياته المحتملة. وهذا، بالمناسبة، سبب كاف للاعترض على الكلام عن حرب أهلية سورية. ليس لأنها ليست حربا أو ليست «أهلية»، ولكن لأنها بالقطع ليست مجرد حرب سورية- سورية. لعلها كانت حربا بين سوريين بين خريف 2011 وصيف 2012، لكن لم تعد كذلك منذ ذلك الحين.
كان هذا تحولا نوعيا بالغ الجسامة، تحتاج إلى إدراك مغزاه من أجل الوضوح إن لم يكن من أجل سداد العمل. فمنذ أن تدول صراعنا، صار انتصار الثورة السورية مشروطا بثورات في الدولة المتدخلة، وإلا سحقت الثورة، وسحقت سوريا ذاتها، بفعل تلاطم القوى المتدفقة من الخارج التي تتعارض في أشياء، لكن يبدو أنه يوحدها ما يتراوح بين اللامبالاة والعداء لأولئك السوريين الذي خرجوا محتجين بأجسادهم طوال 15 شهرا.
يوحدها أيضا أن أياً منها لا يظهر الحد الأدنى من الانزعاج من وجود قوى أجنبية أخرى، مخاصمة لها، في الداخل السوري، أو تطرح ضرورة انسحاب القوى الأجنبية كلها من البلد.
بالعكس، يبدو الأعداء مثل أمريكا وإيران (قبل الاتفاق النووي)، ومثل إسرائيل وحزب الله، مرتاحين لهذا التطور. السر في ذلك على الأرجح أن هؤلاء الأعداء المفترضين يجمعون على العداء لمنظمات الجهادية السنية التي لا مركز دوليا يحركها أكثر من العداء فيما بينهم. فإذا كانت إيران والتابع الأسدي مرتاحين جدا لوجود العدو الجهادي السني في شكل داعش والقاعدة، فلأن عينهما على الشراكة مع الغرب، وعلى شرعية غربية للاحتلال الإيراني وللوكيل الأسدي الذي صار بشريا واستراتيجيا تحت الإمرة الإيرانية، على نحو لا رجعة منظورة عنه. أما في الحالة الإسرائيلية، فيبدو أن الرغبة بمزيد من استنزاف إيران وتابعها اللبناني، وبتدمير أوسع لسوريا، تحرك سياسات الدولة التي لها تأثر بالغ على سياسات إدارة أوباما.
والمشكلة أنه بينما صار شرط التحول السوري تحولا ثوريا أوسع، ليست هناك مقومات جدية لموجة ثورية أوسع. الواقع أن سوريا ذاتها كانت الأرض التي أخمدت فيها مقومات كانت غير كبيرة اساسا، وجرى تحويل البلد إلى معرض لمساوئ التمرد على أوضاع التمييز والطغيان، وهذا بعد أن كان مسلسل الثورات حفز تحركات في بلدان مثل الجزائر والأردن والسعودية وكردستان العراق والسودان، وحتى الولايات المتحدة (حركة احتلال وول ستريت).
سوريا تسحق لأن فرص ثورة أوسع في الإقليم والعالم ضئيلة، ومن أجل أن تصير هذه الفرص أشد ضآلة. سحق سوريا مكتوب في تدويل الصراع السوري، ما دام السوريون غير قادرين على رد هجوم الدول وأشباه الدول وما دون الدول على بلدهم، وما دام ذلك المجال المتدخل لا يواجَه بتمردات أو احتجاجات. بل إن الواقع أسوأ في هذا الشأن، بقدر ما هو بالغ الغرابة في آن: بخصوص سوريا يبدو الثوريون السابقون في مثل درجة سوء من لم يكونوا ثوريين يوما، بل أسوأ: اعترضوا على التدخل الذي يعاقب المجرم الأكبر على إحدى جرائمه الكبرى، ولم يحركوا ساكنا على تدخل يواجه كيانا إجراميا، داعش، في رقبته جرائم أدنى بكثير، والمتدخل الامبريالي هو المتدخل الامبريالي نفسه! ولا يكاد يذكر لأكثرهم كلام إيجابي عن كفاح السوريين لا في طور الثورة السلمي ولا في طورها المسلح، لا في طورها السوري- السوري، ولا في طور تدويلها. صارت المواقف أسوأ في الأطوار الثانية، لكنها كانت سيئة حتى في الأطوار الأولى.
وخلاصة هذه المناقشة أن انهيار سوريا الحالي مكتوب في تدويل الصراع السوري بقدر يفوق قدرة السوريين على المقاومة، وبقدر لا يلقى مقاومة في البلدان المتدخلة والعالم. هذا بينما نحن أصلا في المنطقة الأكثر تدويلا في العالم، وكانت سوريا في ظل الحكم الأسدي دوما مثال الدولة الخارجية التي تغلق الملعب الداخلي وتتفرغ للعب أدوار إقليمية برضى الأقوياء في الأقليم، ولطالما وجدت نفسها مرتاحة في عالم منظمات ما دون الدولة (في لبنان والعراق وفلسطين وتركيا) وعالم الدول القوية، أكثر مما في عالم الدول المعادلة لها.
في النهاية لا ينبغي أن تكون ثورة واسعة أو موجة ثورية في الإقليم أو في العالم شيئا مثيرا للسخرية. قبل خمس سنوات كانت احتمال قيام ثورة في سوريا، وفي خمسة بلدان عربية أخرى، أمرا غير متصور. وغير المتصور هذا هو بالضبط ما وقع.
وعلى كل حال فكرة ثورة أوسع هي وحدها ما يمكن أن تبث الحياة في كفاح السوريين، وتكرم تحطيم بلدهم، وتدرجه في حركة تحرر عالمية أوسع.
يبقى إسهام السوريين، وقد تعولموا كمجتمع عبر شتاتهم في العالم وعبر «زيارة» العالم لهم في بلدهم المشتت، هو الأساس في تكريم عنائهم: الشراكة مع قوى العدالة والحرية في العالم، والثورة في عوالمنا الخاصة، الثقافية والاجتماعية، والشخصية.
٭ كاتب سوري
ياسين الحاج صالح
القاصي والداني ركب قطار الثورة السورية
لهذا أصبحت سرعة القطار بطيئة
وقد يخرج من الخط !
ولا حول ولا قوة الا بالله
نعم ، انهار الاطار الوطني للأسف بفعل رياح عاصفة كان من غير المنطقي أن نتوقع صموده في وجهها، لكن كما تفضل الكاتب، من يستطيع التنبؤ بمجريات الأمور في هذا العالم الذي يبدو و كأنه اجتمع لافشال ثورة السوريين و لكن نبقى نملك القدرة على الكفاح من أجل التغيير الاجتماعي و الثقافي و خلق روح المواطنة، حتى أثناء البعد عن الوطن، و نثور ضد ظلم بعضنا بعضا و ضد التفرقة و ضد طرق تفكير اطالت امد الظلم عقودا.
لا أعتقد أنه بإستطاعتنا إستعادة الإطار الوطني لعملية التحول السياسية داخل سوريا دون تحليل دقيق للأحداث التي تتالت قبل بدء الحراك الداخلي. قد يكون من المفيد أن نقوم بنوع من النقد الذاتي الصحي لجميع أشكال الحراكات الداخلية أو التي بدت على أنها داخلية منذ البداية، من تظاهرات شعبية أسبوعية سلمية وما تزامن معها من تغطية إعلامية أثرت بشكل أو بآخر على الرأي العام خارج أو داخل البلد، الى ردود الأفعال المبررة أو غير المبررة على التخطيات أو التجاوزات التي مارسها النظام أو غيره من الكيانات التي آثرت على تتالي الآحداث. للأسف، لا يبدو لي بأن المجتمع المدني نفسه، كَبُرَ حجمه أم صَغِر، والذي كان بإستطاعته الحفاظ على الإطار الوطني لعملية التغيير المرغوبة، على إستعداد للقيام بهذا النوع من النقد الذاتي. قد يكون الأمر مفهوماً أو حتى مبرراً من جانب إنساني، ولكن الإنجرار العاطفي يَسهُل دائماً أن يُسيّس وأن يحول الى نوع من الغوغائية أو حتى السذاجة. ولكن، دون أن نلجأ الى لعبة إلقاء اللوم على الجوانب الداخلية أو الخارجية والتي لن تعود علينا بنتيجة حقيقية، لا يمكننا البدء بالحديث عن سُبل النهضة، دون إيقاف الدمار المتتالي، والذي سيتضمن تنازلات سياسية من طرف المجتمع المدني نفسه للأسف، والبعد عن الخطاب العاطفي الثوروي المعبأ، أو محاولات تحجيم المعاناة وإعطاء أولولية لطرف على حساب الآخر أو الإنجرار وراء العواطف. علينا أن نعترف بأن جميع الأطراف كانت وما تزال على خطأ (سواء كان الخطأ هذا مقصوداً أم لا)، وبأن العواقب ستعود علينا جميعاً كسوريين دون إستثناء، ولنحاول التعامل مع الوضع دون إقصاء أو تغييب، الأطراف الشاذة ممن يتاجر دولياً بالقضية أصبحت واضحة، والحراك العسكري المستقل و (وليس أو) المدعوم بأطراف خارجية لم ولن يدفعنا بإتجاه عقلاني لإعادة بناء الإطار الوطني المنهدم. الخارج المثقف أو المطلع لن يستطيع إعادة بناء الداخل الممزق (والمتشرذم حتى في مناطق مختلفة) دون وقف الإعتماد على التكتيكات أو الإستراتيجيات السياسية.