القاهرة ــ «القدس العربي»: معارض استعادية متزامنة لثلاثة من الفنانين التشكيليين المصريين أصحاب البصمة اللافتة في الفن التشكيلي المصري، هم (جمال السجيني 1917 ــ 1977)، (أحمد فؤاد سليم 1936 ــ 2009) و (حسن راشد 1937 ــ 2008). ورغم المدارس المختلفة ووجهة النظر الفلسفية التي يرى كل منهما العالم من خلالها ويحاول تجسيده عبر لوحاته، إلا أن الوعي السياسي والشعبي هو ما يمكن أن يجمع أعمالهم بشكل أو بآخر. وتبدو أساليبهم المختلفة العائدة إلى البيئة الاجتماعية أو الدراسة الأكاديمية هي العامل المُتغيّر في أعمالهم، بينما الوعي الاجتماعي هو المسيطر على هذه الأعمال، مما جعلها أكثر اقتراباً بشكل أو بآخر من القضايا التي عاشتها مصر والعالم العربي.
فالفنان هنا يعبّر عن ذات جامعة ووعي جمعي تشاركه فيه فئة كبيرة حاول التعبير عنهم وعن أحلامهم، فلا ننسى أنهم عاصروا ــ هم من مواليد بداية القرن الفائت ــ أهم الأحداث السياسية التي غيّرت التاريخ الاجتماعي والبنية الاجتماعية للمجتمع المصري والعربي، زمن الحلم كما يُطلق عليه، لكنهم انتبهوا على الواقع في لحظة خاطفة في العام 1967، وهو ما وثقوه عبر لوحاتهم، خاصة صاحب التجربة الأكبر حلماً الفنان جمال السجيني. بينما سيبدو أحمد فؤاد سليم حذراً في التعامل مع الحلم الجماعي معتصماً بذاته، وأخيراً يجد حسن راشد ضالته في التراث والثقافة الشعبية التي لا تفنى.
السجيني ..
التاريخ السياسي والاجتماعي
اشتهر جمال السجيني بمنحوتاته ولوحاته البرونزية الجدارية التي وثق فيها فترة من أهم فترات التاريخ المصري، تموز/يوليو 1952 وتبعاتها، وما أحدثته من تطوير في البنية الاجتماعية المصرية. حلم السجيني كما حلم الكثيرون في ذلك الوقت بحياة جديدة قادرة على استيعاب واحترام الإنسان. أما معرضه الذي أقيم مؤخراً في (قاعة الزمالك للفن) فضم مجموعة هامة من اللوحات الزيتية للسجيني، والتي تجسد فكره الوطني وحالاته كما جسدها في أعماله النحتية. تم تقسيم المعرض إلى خمسة أقسام، هي على التوالي … العرائس، البيوت، لوحات شخصية وعائلية، بورتريهات، واخيراً مختارات. وشغل قسم العرائس العدد الأكبر من اللوحات، والذي نرى فيه تأثير الحدث السياسي والاجتماعي وانعكاسه على هذه الأعمال … فعرائس تم رسمها في منتصف السبعينيات على سبيل المثال، تتخذ وضع الجسد الفرعوني، وتنشر ذراعيها في شكل دائري وكأنها تحيط بالكون، في ما يُشبه الآلهة الفرعونية القديمة، كالحركة ونقوش ملابس المرأة/العروسة، مختلفة تماماً عن العرائس العابسة والباكية والتي كانت لا تستطيع الوقوف إلا بمساعدة العكاكيز الخشبية، حزينة كسيحة، وكل المجموعة التي تصور ذلك تم رسمها بعد هزيمة 1967. هذه اللوحات تبدو خلفياتها وبعض الأشكال في تكوينها مُستمدة من البيئة المصرية والمعتقد الشعبي كالألوان مثل الأصفر والأخضر ــ الأولياء والأضرحة ــ ومخلوقات كالغربان توحي بحالة من الشؤم في المعتقد المصري الشعبي. حتى العروسة التي تتشابه كثيراً مع عرائس المولد النبوي، تبدو مبتورة الأرجل تماماً، وتجتلس عربة خشبية، تحاول تحريكها بيدها، كالمتسولين. وفي قسم البيوت يميل السجيني إلى الأسلوب التكعيبي مع تضافر عناصر البيئة المصرية كالجامع والمأذنة والبيوت شبه الشعبية والتراثية. ويجسد السجيني ملامحه في عدة لوحات تعبيرية نفسية أكثر منها نقلاً صريحاً لملامح وجهه، كما يحتفي بشخصيات لها أبلغ الأثر في التاريخ الاجتمعي المصري والعالمي، كفنان الشعب سيد درويش، ولينين، على سبيل المثال.
أحمد سليم ..
رحلة التنظير والفن
يعتبر الفنان أحمد فؤاد سليم من أشهر التشكيليين الذين مارسوا الفن والنقد الفني، من خلال المقالات والأبحاث، إضافة إلى إقامة المعارض والتأسيس لها، كذلك الاهتمام بالشأن السياسي والاجتماعي العام. تميل أعمال سليم إلى التجريد والألوان القوية التأثير والحارة، بخلاف بعض الأعمال التي اعتمدت على الخط فقط، وأقامت بينه وبين فراغ اللوحة تكوينات وأشكال لها طابعها المتفرّد. فمجموعة اللوحات التي جاءت تحت اسم (عاري) لا تخلقها إلا الخطوط وتكويناتها، والتي توضح تفاصيل الجسد وحالته، وصولاً إلى حركته الداخلية. الخطوط نفسها نجدها في لوحة من مجموعة (صبرا وشاتيلا) لكنها أكثر قوة وحدة، وتبدو في بعض تفاصيلها وتجريدها أقرب إلى جورنيكا بيكاسو الشهيرة. ومن الخط أيضاً يخلق سليم إيقاعاً يبدو في لوحات تعتمد على تكراراته وتحويراته، كما في لوحتي .. منظر والشمس. حتى في البورتريهات التي يرسمها لزوجته أو ابنته نجده يُكثف التفاصيل تماماً في خطوط بسيطة، دون زخم لوني، أو حتى احتلال مساحات مُبالغ بها من اللوحة. وفي لوحات الموسيقى كالعازفة وقائد الأوركسترا تبدو الشخوص كلطشات لونية وخطوط، فقط للإيحاء وليس التجسيد. والملاحظ على أعمال الفنان أحمد فؤاد سليم ذات الحس التجريبي أنها أخلصت للفن وقضاياه الجمالية والفلسفية. هذه النظرة نفسها هي التي انتهجها سليم في معالجة ومناقشة الأفكار والمشكلات الاجتماعية والقضايا السياسية المطروحة على الساحة العربية. كانت هذه لمحة عن معرضه الذي أقيم مؤخراً بـ (قاعة الباب/بدار الأوبرا المصرية).
حسن راشد ..
التراث والفولكلور الشعبي
حسن راشد لم يدرس الفن أكاديمياً، مما خلق له مساحة واسعة للتحرر من العبء الأكاديمي والتنظيرات، ورغم أنه درس الفن في دراسات حرة، إلا أن روحه ظلت أكثر حرية من قيود الدراسة، فوجد ضالته في الفن الشعبي المصري والفولكلور والتراث، وهي عناصر لا تنضب، وتتطلب وعياً وحساً جمالياً عالياً، خاصة وأن التحدّي الأكبر للفنان عند معالجة موضوع شعبي وتراثي أنه يبحث عن معالجة جديدة، وإضافة لحالات وشخوص يعرفها الجميع. يبدأ راشد من اللون، ليبدو استخدامه للون الأحمر ودرجاته في معظم اللوحات، قد يتخللها الأخضر وما يمثله من حِس صوفي، أو الأزرق وما يمثله من وعي حضاري يتماثل مع النيل المُمتد بطول مصر. ومن هذه الألوان تبدأ الرموز تُنثر في فضاء اللوحة، وهي كلها رموز لها دلالتها في الوعي الشعبي المصري … العين لاتقاء الحَسد، الأسماك دلالة الرزق، كائنات البيئة كالجمل والحصان ــ لم يزل المصريون في القرى يرسمون على الجدران هذه المخلوقات دلالة على رحلات الحج ــ إضافة إلى الاكسسوارات الشعبية سواء المتصلة بالجسد ــ الحَلق والعُقد وزخارف الملابس النسائية خاصة ــ أو المتصلة بالمكان ــ كالقلة والأبريق والمشربية ــ. من ناحية أخرى يُجسد راشد الشخصيات الشعبية الشهيرة .. كالراوي الشعبي صاحب الربابة، وبالتالي مجاز وإشارة إلى رواية السيّر الشعبية، إضافة إلى الراقصة الشعبية والطبّال إذ نراهما ونلحظهما في أعراس الفلاحين وقراهم. وحتى يجسد الفنان امتداد التاريخ المصري منذ القِدم وتجليه الآن من خلال الوعي التراثي والشعبي، فإنه يلجأ إلى تصوير وضعية الجسد داخل اللوحة كما كان الفنان المصري القديم يفعل، دائماً في وضع البروفايل، تماماً كالجدارايات الفرعونية، كما أن خطوط الوجه والجسد الخارجية توحي بتكوينات مصرية أصيلة، أقرب لتكوينات ووجوه الفراعنة، أو الأقباط في جنوب مصر الآن. والمعرض مقام حالياً بـ (قاعة الباب/بدار الأوبرا المصرية).
محمد عبد الرحيم