ما تلهمه كتابات الآخرين

منذ عدة سنوات، قرأت رواية للطاهر بن جلون اسمها: «رشوة»، وهي رواية عادية، كلاسيكية، عن موظف كان مستقيما ومثابرا في عمله، ثم قرر فجأة أن يتلقى رشاوى تغير من نمط رزقه، وترتقي بحياته التي كانت خالية من أي ترف.
وكانت الرواية هكذا تتبعا لحياة الرجل بعد ارتشائه، وماذا حدث في بيته وعمله، وعلاقته بأسرته ورؤسائه، لكن المؤلف كتب في تقديم قصير للكتاب، أنه أعجب برواية تحمل الاسم نفسه لكاتب آخر، لا أذكر من كان هو، وقام بزيارته في بلده، ثم استوحى الفكرة من تلك الرواية وكتبها بطريقة أخرى.
أيضا معروف أن غارسيا ماركيز، استوحى روايته القصيرة، «ذكرى غانياتي الحزينات»، التي تتحدث عن رجل مسن، يتتبع نوم فتاة صغيرة، في بيت إحدى السيدات، ويحس بالنشوة الكبرى، استوحاها من رواية الياباني ياسوناري كواباتا: «الجميلات النائمات»، وهي رواية رائعة حقا، تتحدث عن متابعة المسنين لنوم الفتيات الصغيرات، لقاء مبالغ مالية، يدفعونها لصاحبة البيت الذي تجري فيه وقائع النوم والمراقبة، وكانت فكرة غريبة حقا، لكنها موحية بشدة، وأوحت لماركيز نفسه، وهو الذي لم يكن بحاجة لإلهام من الخارج. وفي السياق نفسه أعتقد أن هناك من كتب رواية مستوحاة من رواية سالنجر الشهيرة، «الحارس في حقل الشوفان»، لكنني لم أقرأ تلك الرواية المستوحاة، ولا أعرف إن كانت جيدة بالفعل أم مجرد عمل تنقصه الدراية.
أردت أن أقول، إن الاستفادة من أعمال الآخرين، أو اكتساب الإيحاء القوي منها، وإعادة الكتابة بحبر آخر، عمل مشروع بلا شك، على الرغم مما فيه من مخاطرة، وإمكانية أن يأتي قارئ متمكن ليقارن الأعمال المستوحاة من بعضها، ويستخرج النواقص في الأعمال الجديدة، كما حدث حين استخرج كثيرون عيوب رواية ماركيز «ذكرى غانياتي الحزينات»، أمام الرواية الأصل «الجميلات النائمات». لكن رغم ذلك، تظل لرواية ماركيز نكهة جميلة، مع بهاراته الخاصة التي لا يجيد أحد غيره استخدامها. هنا هو لم يجعل بيت المتابعة مكانا مشاعا يتجدد زواره في كل ليلة، وتجدد خاماته أيضا باستمرار، بل جعل الجميلة واحدة، فتاة ريفية خالية الذهن من كل ما يحيط بها، وأيضا ليست مبهرة في الجمال، أو الجسد، وإنما تملك الحد الأدنى من الفتنة، التي تستطيع الإمساك بعيني رجل تجاوز التسعين، في كل ليلة يأتي فيها، وحقيقة، كان يأتي يوميا، وكان بلا أسرة تحتضنه، وأصبح نوم الفتاة الصغيرة، هو ما يحتضن ليله ويشبع نزوته.
نعم فالكاتب مهما كبر في السن والصيت، هو في النهاية قارئ جيد لأعمال غيره، ويملك الذائقة التي يستطيع أن يمررها على الأعمال التي يقرأها، وقطعا تتذوق البعض ولا تتذوق الآخر، ثم يأتي دور التذوق القوي، أو التذوق المؤثر كما أسميه، وهو ذلك التذوق الذي يتجاوز حدود القراءة لكاتب ما، ويزحف إلى حدود الإيحاء، فيمنح الكاتب الفكرة نفسها، تلك التي قرأها عند آخرين، لتصبح فكرته التي سيقوم بكتابتها عاجلا أو آجلا.
على أن منح الفكرة بسخاء، له أيضا شروط، يجب توفرها، ومنها أن تملك البيئة التي سيقوم عليها النص المستوحى من نص آخر، مفردات شبيهة بمفردات الأصل، مثلا حين يستوحي أحدهم رواية لستيفن كينج، كاتب الروايات البوليسية، فينبغي أن تكون في مجتمعه مفردات تكفي لصياغة رواية بوليسية، وحين تدور أحداث رواية ما في أماكن مشبوهة، وبيوت للغواية، فينبغي للنص المستوحى منها أن يدور في بلد، فيه شوارع للغواية، وبيوت للهوى، وهكذا.
في سنة ما، كنت قد امتلكت التذوق الموحي لرواية، «الوله التركي» للإسباني أنطونيو غالا، تلك التي تدور معظم أحداثها في مدينة استانبول، بين ديسديرا، أو ديسي الإسبانية، والدليل السياحي التركي، يمام. بهرتني تلك الروايات بأجوائها الساحرة، وحواراتها البليغة، وكونها رواية معرفية، أعتقد أن الكاتب درس فيها أستانبول جيدا، قبل أن يكتب، وهذا مهم جدا في الكتابة، أن يكون الدرب مطروقا في الواقع، قبل أن يطرق في النص، فقط لم تتوفر شروط كتابة نص مستوحى منها بالطبع، والبيئة التي تخصني ليست البيئة التي تخص غالا، وما يمكن كتابته في إسبانيا وعن إسبانيا، لا يمكن كتابته في السودان وعن السودان، وحتى الهمس الذي يدور هناك، يختلف تماما عن الهمس الذي يدور هنا، وهكذا قهرت تذوقي المؤثر للوله التركي، حولته إلى تذوق عادي، أي أن تكون الرواية من الأعمال المفضلة لدي، من دون زيادة.
في مجال تأثير الآخرين، أيضا، توجد تلك الروايات التي يمكن اعتبارها بدايات لنهايات لم يكتبها كتابها، بمعنى أن تقف الرواية عند حدث ما، ويأتي من يفكر في تكملة الكتابة، برواية أخرى، لا تشبه الرواية المستوحى منها، وفقط تكملها، وهي فكرة طريفة بلا شك، وتعمق من فكرة تواصل الأجيال، حين يأتي من يكتب لنا مثلا نهاية لرواية، انتهت ببطل تاه في صحراء، أو غرق في البحر، أو تشرد بسبب خطاب جاء من حبيبته التي فقد آثارها منذ زمن، وهكذا، ومصطفى سعيد، في «موسم الهجرة إلى الشمال»، كان يصيح: النجدة، وسيكون طريفا جدا أن يكتب لنا أحد، إن كان قد غرق فعلا، أم تم انتشاله، ليحكي لنا حكاية جديدة.
في الفترة الماضية، لمع اسم الجزائري كمال داود، برواية قصيرة اسمها، «تحقيق مضاد»، مكتوبة بالفرنسية، ومستوحاة من رواية «الغريب»، المشهورة لألبير كامو، التي كانت تدور أحداثها في الجزائر. داود كتب رواية، يعارض فيها رواية كامو كما يبدو، وهذه أيضا فكرة مبدعة، أن تكتب ظلالا جديدة، فوق ظلال قديمة، وبحبر جديد، ربما ينعش الحبر القديم ويلمعه. وقد حصلت تلك الرواية على أصداء كبيرة، ورشحت لجوائز وننتظر ترجمتها لنرى ماذا تقول، لكن من مزاياها أن جعلت الكثيرين، يعيدون قراءة رواية كامو، تمهيدا لفهم ما تقوله «تحقيق مضاد».
الأفكار كثيرة جدا، ولا تنتهي عند حد أو عند أحد، هناك أفكار تتقافز وحدها في ذهن المبدع، وأفكار يجدها المبدع عند زملاء آخرين، ويأخذ منها، وهكذا تظل الكتابة النثرية، مستمرة ومتجددة.

كاتب سوداني

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول samar:

    [جميل هذا الطرح ، وملهم ويؤكد ان التجارب الانسانية تتشابه لدى البشر ، والرواة بشر ، يمكنهم ان يكتبوا ما يحسونه ويرونه وان يعيدوا كتابة ما كتبه الرواة من قبلهم باسلوب محتلف وهذا تحديدا ما اشار اليه الشاعر محمود درويش حين قال بأننا نعيد كتابة ما خطه البشر منذ الاف السنين على الجدران

    شكر للكاتب امير تاج السر على هذا الطرح الجميل

  2. يقول حي يقظان:

    الأخ أمير تاج السر،

    أظن أن كمال داود لم يستوحِ روايته «تحقيق مضاد» من رواية «الغريب» لألبير كامو استيحاءً مباشرًا، كما يوحي كلامك هذا دونما درايةٍ، ويا للأسف! كمال داود لم يكتب روايته التي تصفها بـ”القصيرة” إلا بتأثير مباشر ومبدأي من ذلك النقد التفكيكي والكشفي والمُعَرِّي الذي وجَّهه الراحل إدوارد سعيد إلى رواية ألبير كامو في مقابلة من مقابلاته المعروفة.

    وبصرف النظر عن منحه جائزة نوبل في الأدب، المسألةَ الحساسة جدًّا، ها هنا، إنما تتعلق بعدم كون ألبير كامو “المثقَّف العالمي” ذا موقفٍ واضحٍ وجليٍّ إزاءَ القضايا الإنسانية الأهمِّ، قضايا الحرية والعدالة في المقام الأول، كما هي الحال في مواقف المثقفين “الأوروبيين” الآخرين (من أمثال جرمين تيليون وفرانز فانون وجان جنيه، وغيرهم)، أولئك المثقفين الذين كانوا، بلا ريبٍ، يساندون كفاح الشعب الجزائري العظيم من أجل التخلُّص، بل التطهُّر، من الاستعمار الفرنسي الغاشم. ولهذا السببِ في موقفهِ الذي يحمل بين طيَّاته عنصريةً مبطَّنة يمكن استشفافُها من روايته «الغريب» بالذات، يستحقُّ ألبير كامو الإدانةَ كلَّها والإقصاءَ كلَّهُ، تمامًا مثلما يستحتقُّهما شاعر و”مثقف عالمي” آخر كمثل أدونيس بسببٍ من موقفهِ الذي يتَّسم بمنتهى المراوغة والذبذبة حيالَ الثورة الشعبية في سوريا، والذي يحمل بين طيَّاته، هو الآخر، طائفيةً مبطَّنة كذلك.

إشترك في قائمتنا البريدية