لا يسع المرء إلا أن يهنئ النساء السعوديات على انتزاعهن حق قيادة السيارات بعد سنوات من الانتظار والقمع الصامت. لم يكن فقط انتظاراً مؤلما وبلا طائل، بل تبعية مطلقة لذكور، كثيرون منهم سائقون غرباء جُلبوا من بلدان وقارات أخرى، لخدمة نساء وفتيات في مملكة قيل للناس إنها تُحرِّم الاختلاط وتقيّد بشدة اقتراب أحد الجنسين من الآخر أيًّا كان السبب.
لا شك في أن قدرة المرأة السعودية على قيادة سيارتها بمفردها تعني تحررها من جزء معتبر من تبعيتها للأب أو الابن أو الأخ أو سائق العائلة. هذا في حد ذاته أمر محمود، ومن غير اللائق الحديث عن مخاوف من فتح أبواب الرذيلة أو الفلتان الأخلاقي كما تحاول بعض «الاجتهادات» المتشددة أن تصور الأمر. الأمر ليس أكثر من خطوة صغيرة في مسيرة طويلة بدأت متعثرة.
من طرائف هذا الموضوع أن «العلماء» الذين أفتَّوا طيلة عقود بحرمة قيادة المرأة للسيارة هم ذاتهم، وأشباههم، يدافعون اليوم عن إباحتها.
لافت جداً أن السيدات اللواتي ناضلن طويلا في سبيل انتزاع حق قيادة السيارة، ومن أجل ذلك نالتهن سخرية المجتمع وانتقادات رجال الدين والأئمة وقمع الحكام، موجودات في السجون وتكال لهن الاتهامات الخطيرة والشتائم في وسائل الإعلام الحكومية. العبرة من اعتقالهن حرمانهن من ثمار نضالهن الطويل، وإبقاء الحقوق مجرد هبات ومكرمات يجود بها الحاكم عمن يشاء ويمنعها عمن يشاء. والعبرة أيضا حرمانهن من الظهور يوم دخول القرار حيز التنفيذ لإبعاد أي احتمال لفرحتهن وانتشائهن بنتائج نضالهن المرير طيلة السنوات الماضية. هي عملية تغييب مقصودة. كأنك تحرم إنسانا من تذوق ثمار ما زرع. الهدف منها أن يكون ولي العهد محمد ابن سلمان هو البطل والرمز وصاحب الفضل. لا شيء ولا أحد يشوش على هذه الصورة يوم الاحتفال بالإنجاز ودخوله حيز التنفيذ تحت أنظار ذكور المملكة والكثير من قادة العالم الغربي المنافق.
لكن.. خلال أسابيع، وربما شهور، وبعد أن تنتهي احتفالات النساء ـ وبعض الرجال ـ بدخول قيادة السيارات حيز التنفيذ، وبعد أن تنتهي نشوة «الانتصار»، تعود السعودية إلى واقعها المرير: غياب تام للحريات السياسية والدينية والفكرية، قمع شديد لمن يجرؤون على الاختلاف مع النظام، وحروب إقليمية وأزمات سياسية ودبلوماسية مع الجيران والمحيط.
ستعود المملكة إلى المربع الأول من المحظورات ناقص منع السيدات من قيادة السيارة. الشيء الذي سيجعل قيادة السيارات تغرق وسط بحر القيود والمحظورات. لكن القادة بأذرعهم السياسية والإعلامية سيستثمرون فيها إلى أبعد الحدود.
لن يكون مستغربا أن هذه العودة للمربع الأول، لن تضير الحكومات الغربية، ولن توقظ ضميرها طالما بقي النفط السعودي يتدفق بالأسعار التي تُسعد هذا الغرب. وطالما بقيت الأسلحة وقطع الغيار والخدمات تتدفق على السعودية بالأسعار التي يريدها هذا الغرب كذلك.
لذلك لا مفر من الوقوف عند ثنائية متناقضة: السماح للمرأة بقيادة السيارة يبدو إرضاءً للغرب وتسويقا لصورة ولي العهد السعودي في الخارج أكثر منه إيمانا بأحقية المرأة في قيادة السيارة، وبفائدة ذلك عليها وأسرتها والبلد كله. في المقابل، يبدو القمع السياسي والفكري والإعلامي المتواصل، استغلالا لتغاضي الغرب وصمته. بل يبدو استفادةً من تواطؤ هذا الغرب الذي تنازل عن كل شيء إلا مصالحه المادية. فالحكومات الغربية لم تعد تجد حرجا في التغاضي عن القمع السياسي في السعودية وغيرها من الدول التي لديها فيها مصالح تجارية واقتصادية. ولم يعد يزعجها الدوس على قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الأفراد طالما تعلق الأمر بشعوب ودول مناطق بعينها، وطالما حدث هذا الدوس بعيداً عنها وبقي كذلك.
في المقابل، يطرب هذا الغرب لما يعتبره تغييرات اجتماعية كتلك المتعلقة بحياة النساء وحقوقهن، وكذلك قضايا الانفتاح الثقافي والفني. لا بأس طالما بقي التغيير بعيدا عن السياسة، لأن الاعتقاد ـ الخاطئ ـ السائد لدى الحكومات الغربية هو أن الانفتاح الاجتماعي يقلل فرص التشدد الديني وكذلك الهجرة نحو الشمال. الخوف من التشدد الديني لأنه قد يتحول إرهابا في العواصم والمدن الغربية. والخوف من الهجرة، لأن هذه الدول الغربية هي الهدف والوجهة للمرشحين للهجرة.
بينما حقيقة الأمر أن القمع السياسي لا يقل خطورة عن القمع الاجتماعي. واستطرادا، لا يقل الانفتاح السياسي أهمية عن الانفتاح الاجتماعي في زمن تداول المعلومة بسرعة البرق، وانتقال التأثيرات الاجتماعية على مدار الساعات والثواني.
بصيص الأمل الوحيد أنه مقابل تعامي الحكومات وكيلها بمكيالين، يبدو المجتمع المدني والجهات الأهلية أكثر استيعابا لكون التغيير في السعودية أعرج ويتم بمنطق الهبة من القائد الملهم.
لذلك تحفل يوميا كبريات الصحف والمطبوعات العالمية بتحذيرات من التحديات أمام المرأة السعودية أكبر من قيادة سيارة، وأن «الإصلاح» المزعوم في المملكة ناقص ويعطي بيد ليسحب بأخرى.
٭ كاتب صحافي جزائري
توفيق رباحي