متاهة العالم الأزرق

لا تنحصر عجائب الرئيس الراحل السادات في إعلانه الارتجالي عن نيته زيارة الكنيست، وما تبع ذلك من أحداث ما زالت ظلالها تصبغ واقع المنطقة إلى اليوم.
ولا يعتبر قانون العيب الغامض والفضفاض الذي استصدره ليحمي قيماً غير قابلة للتعريف أو الإحاطة، منتهى ما جادت به قريحته من ابتكارات سياسية لا تنتمي لعالم المعقول أو المفهوم، فالسادات كان يقدم ودون كلل أو ملل الجديد في عالم السياسة، التي تحاول أن تجعل العالم كله مرتهناً في مدار شخصيته النرجسية.
حاول السادات سنة 1976  أن يقدم في الحياة السياسية المصرية توليفة تناسبه شخصياً، مع برنامجه لتأسيس ثلاثة منابر لليسار والوسط واليمين، على أساس الخروج من الحزب الواحد أو التنظيم الواحد، الذي ورثه من الرئيس عبد الناصر، وبالطبع لم يختلف الفهم الذي قدمه السادات عن الفهم السائد في المنطقة العربية، الذي تحاصره نظرة التعريفات المسبقة، فالرئيس السادات تخيل اليسار واليمين مجرد كتل مصمتة، يمكن أن تأتلف تحت مجموعة من الشعارات وأن تلعب الديمقراطية التي يريدها الرئيس، والتي اكتشف بعد هنيهة من التحول للحياة الحزبية أن الديمقراطية يجب أن تكون لها أنياب!
الحقيقة أن جملة من الدول العربية استطاعت أن تشكل حالة السادات، وأن تعطي نكهة يسارية وأخرى يمينية للحياة السياسية، ولكن هذه التواجدات الحزبية توزعت بين حالة الزعيم الواحد المتقاعد من المناصب، أو المتشوق لها، الذي يعيش في صورة مصغرة وموازية للواقع العام، وبين المجموعة الأيديولوجية التي أنتجت عالمها الخاص والمتحين لحظة تأتي من خارج كل البنية السياسية مثل، ثورة أممية عالمية تقلب الموازين، وبين أصحاب المصالح الذين لديهم الاستعداد للانتقال في خطوات تفتقد البراءة وحتى الخفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حسبما تقتضيه طبيعة المرحلة، ولم يكن لأحد أن يتصور وجود حراك طبيعي يخرج من الصفوف الخلفية ليتخير لنفسه الموقع الذي يناسبه، وبطبيعة الحال لا يمكن أن يكون مجرد تسكين في قوالب جاهزة لاستقباله، سواء كانت يميناً أو يساراً.
الجمهور بمعناه الواسع لا يمكن أن يكون يميناً أو يساراً، كما أن حالة الوسط بالنسبة له مائعة ولا تعني شيئاً، ويتواجد الجمهور في المناطق الفارغة التي تتوزع بين الوسط واليسار عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد، وبين الوسط واليمين في المسائل ذات الصبغة الاجتماعية، وفي الحالتين يجد فراغاً مطبقاً من التمثيل السياسي، فاليسار يتنافس على طروحاته المتطرفة مكتفياً بمن يتصيدهم من الرومانسيين ومرضى الأمل، بينما اليمين يصر على صناعة القوالب المتماثلة التي يجب أن تبقى سجينة في تصوراته المسبقة، والجهتان المتناقضتان لا تقدمان حلولاً ممكنة أو عملية قابلة للتطبيق، وليس مطلوباً فعلياً أن يحدث ذلك.
انعدام أو ضعف مشاركة المواطن اليومي والعادي في العمل السياسي خلق حالة من الاستقطاب، فاليساريون يعيشون في مزايدات مستمرة ومتواصلة، ويتخذون أقصى اليسار بوصفه ملجأ لهم، واليمينيون يفعلون ذلك لأن مواقفهم تعطيهم الفرصة للتعامل مع الأكثر تطرفاً وتشدداً وانتهازية، ولكن يبدو أن المعادلة تغيرت منذ الربيع العربي وظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي فتحت نافذة للتعبير عن الذات، والتواصل مع أصحاب الرأي المشابه نحو صناعة حالة من التأثير والزخم.
حزب الفيسبوك كان يمثل نكتة في مرحلة ما، ولكنه اليوم يعتبر مشروعاً واقعياً، لأنه يوفر الوقت والجهود والتمويل اللازمين لعملية إثراء وإنضاج العمل السياسي في مستواه الأول وهو الفرز بين الكتل المجتمعية المختلفة لوضعها في توجه معين أو واضح، ولذلك ظهرت مجموعات شتى من الإسلاميين المعتدلين، الذين يرون في الإسلام تاريخاً مختلفاً عما يراه الأصوليون، ويتباهون بالتسامح الإسلامي والعدالة في الإسلام، بحيث يذكرون كيف احتضنت الدولة الإسلامية مختلف صور التنوع والتباين بين سكانها، وكيف كان الإسلام ينطلق بالنموذج وليس الفتح في جزر المحيط الهندي وغرب افريقيا، ومعهم يظهر الاشتراكيون الواقعيون الذي تجاوزوا مقولات ماركس ولينين باتجاه تبني ما هو ممكن وواقعي، واقتنعوا من التجربة بأن ثمت مسافة في مكان ما بين الشيوعية والرأسمالية، يمكن لكل شعب أن يقصدها لتحقيق التنمية وفق منظوره وظروفه الخاصة.
الآن فهمتكم.. كانت واحدة من العبارات التي بقيت في الذاكرة من طلائع الربيع العربي، قالها الرئيس زين العابدين بن علي، ويمكن أن ذلك كان مبرراً في بلد بوليسي، كان الرئيس فيها حبيساً في قصره ومحاطاً بمجموعة من المنتفعين الذين يقومون بغربلة ما يمكن أن يصل للرئيس وأن يرضيه، ووراءهم أجهزة إعلام محاصرة بالقوانين والتعليمات الصارمة، لتبقى على الخط المستقيم الذي يتصوره الرئيس ويجعله يتوهم بأنه يستطيع أن يقسم كعكة العمل السياسي بسكينه إلى يمين ويسار ووسط، وكأنه يستطيع أيضاً أن يلتهم أي قطعة بمفردها لأنها وجدت من أجل منحه الصورة التي يحتاجها كرئيس ديمقراطي يصلح بأن يحمل صورته إلى الغرب، ويستكمل ديكوره الرئاسي بالصورة اللائقة.
الفهم اليوم متوفر ومبذول على صفحات متناثرة ومتشابكة في متاهات تتدرج بين الأزرق القاني والفاتح (فيسبوك وتويتر) وما كان البعض يتصوره مجرد مزحة سمجة أو مراهقة شعبوية، تحول إلى أداة تأثير وما زال يتحرك في هذا الاتجاه، وربما تحتاج الدول العربية إلى أن تصطنع الأجهزة المختصة في متابعة ما يحدث في العالم الأزرق وتحليله وفهمه، فالأمر لم يعد في أحدهم ممن يقف على باب الوالي بالأسابيع من أجل السماح له بالدخول حاملاً شكايته، ولا حتى أن يتجرأ أحدهم ليتقدم مظاهرة متحمسة أو يعتلي منبراً منسياً ليوجه رسالة تلتقطها الفلترة وتخنقها قبل الوصول إلى الوالي، وحتى لو وصلت فإن تأويلها سيكون في مصلحته، وبما يعطيه الذريعة ليضرب خصومه، وأن يتوعدهم بالـ (فرم) ويقوم طولاً وعرضاً بتشويههم وتسفيههم وتخوينهم مع التصفيق الحار الذي يقاطع خطابه الناري.
تغير العالم وظروفه، ولم يعد ممكناً اليوم أن يدعي أحد قدرته على السيطرة الكاملة، ولم تعد فلسفة المتابعة والمطاردة وتقييد الحرية الجسدية والمادية، فالأفكار اليوم متدفقة وجارية على مدار الثانية، والجميع يصنعها ويشترك في تطويرها، ولذلك فمن المستبعد أن تكون القسمة التقليدية بين يمين ويسار هي الخلاصة لهذه الحراكات الواسعة وغير المرئية تقريباً، وفي الواقع فإن أحداً لا يريد أن يسكن في سذاجة الأبيض أو كآبة الأسود، والبحث يجري على تنويعات لونية مختلفة، قوس قزح جديد من شأنه أن يشكل الأمل للمنطقة وشعوبها كما كان قوس قزح العلامة التي أرسلها الإله لنوح بعد انتهاء الطوفان وبما يأذن للبدء في حياة جديدة.
كاتب أردني

متاهة العالم الأزرق

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية