متقمّصاً اللغات كما الشخصيّات… القصائد الفرنسية «لفرناندو بيسوا» في كتاب يجمعها للمرّة الأولى

حجم الخط
0

من نعرفه اليوم باسم فرناندو بيسوا (1888-1935)، الشاعر البرتغالي، وقّع نصوصه الشعرية والنثرية بأسماء عديدة، وكتبها بثلاث لغات اتّبع في كل منها التراث والأساس الشعري الخاص بها، في البرتغالية كما في الإنكليزية، إذ تأثّر في الأخيرة بالشاعر الأمريكي والت ويتمان، إضافة إلى الفرنسية التي تقدّم في الكتابة بها متأخراً، في تأثّر واضح بشارل بودلير وستيفان مالارميه وآخرين. وهذه، كتاباته الفرنسية تحديداً، كانت الجديد الذي أتت به «دار الاختلاف» الفرنسية وبتحرير من باتريسيو فيراري متعاوناً مع مترجم بيسوا باتريك كيير الذي كتب مقدّمة نقديّة مطوّلة للكتاب، وهي المرة الأولى التي يُجمع فيها كل ما كتبه بيسوا بالفرنسية في كتاب واحد، صدر مؤخراً عن الدار.
معروف أن بيسوا كتب تحت أكثر من اسم، وهذه تنويعات أوجدها الشاعر البرتغالي لا تنحصر في التوقيع بأسماء مختلفة على النصوص، بل هي شخصيات تبدو مكتملة تعيش في حياة موازية لحياة فرناندو بيسوا ذاته، أوجدها على الورق وأوجد علاقات بينها. فبيسوا لم يكتب نصوصه ضمن أسماء مستعارة، بل تقمّص شخصيّات أخرى أوجدها، وكتب نصوصاً تتميّز بها كل شخصيّة عن أخرى، نحكي عن شخصيّات لكل منها أسلوبها الأدبي واللغوي، موقفها السياسي وحالتها السيكولوجية، معتقدها الديني، شكلها الخارجي، سيرتها الذاتية وحتى خياراتها الجمالية في الكتابة والحياة.
كتب بيسوا تحت أكثر من سبعين اسماً، لكن الشخصيات المكتملة منها، أو شبه المكتملة، كانت ثلاث، ألبرتو كايرو وريكاردو ريس وألفارو دو كامبوس، سمّاها بيسوا بالـheteronyms، أي نوع من التماثل المحدّد والتقاطع في ما بينها وبينه، أو يمكن تعريف كل منها بـ «أنا» آخر لبيسوا. أما «الهيتيرونيم» فهو مصطلح استعاره الشاعر من اللغويات وأعطاه تعريفاً ونموذجاً أدبياً. وكانت هذه الأسماء وغيرها مما اخترعها بيسوا، تعلّق على بعضها وتتفاعل ضمن مقالات ونصوص في الصحافة، من هنا يُقال للتندّر بأن أفضل أربعة كتّاب برتغاليين هم فرناندو بيسوا. وهو على كل حال أحد أفضل الأدباء في القرن العشرين حسب تصنيفات عديدة.
ضمن هذه التنويعات يمكن استيعاب حاجة بيسوا للكتابة في أكثر من لغة، البرتغالية كلغة كتابة أساسية، ثم الإنكليزية، والفرنسية التي كتب بها في فترات متقطّعة.
الكتاب الواقع في 413 صفحة والمعنوَن بـ «القصائد الفرنسية»، هو الأوّل من نوعه كجامع لكافة نصوص بيسوا الفرنسية، من بينها نصوص وقصائد نُشرت متفرّقة في أكثر من مكان وزمان، حيث تمّ ترتيب محتوى الكتاب كالتالي: ١: القصائد التي نُشرت في حياته. 2: القصائد المكتملة. 3: بعض الأبيات، عنوان لكتاب من قصائد فرنسية لبيسوا التي تم إيجاد 13 من مجموعها (وهي 15) بين أوراقه. 4: قصائد غير مكتملة. 5: قصائد لرموز أدبية. 6: قصائد وسائطيّة. 7: قصائد متقاطعة. 8: شذرات. 9: ترجمات. وقد تمّ وضعها جميعها ضمن الكتاب بترتيب زمني، حيث تمّت كتابتها في ثلاث مراحل: بين 1906 و 1908، وفي السنوات ما بين 1910 و1919، وما بين 1933 و 1935. ولأنّ الكثير من هذه النصوص لم تكن مؤرّخة، فقد اعتمد المحرّر عدّة معايير لإمكانية تصنيفها تقريبياً ضمن المراحل الثلاث، من بين المعايير كان وجود نصوص أخرى على الورقة ذاتها، وقد تم نشرها ضمن تاريخ محدّد، نوعيّة الورق، شكل الخط، الموضوعات (التيمات) في النصوص، الأشكال التي كُتبت بها النصوص: كسونيتات (تُصنّف ضمن المراحل الأولى) أو كقصائد مكتوبة بأبيات حرّة (تُصنّف ضمن المرحلة الأخيرة).
لن يستوي فهمنا لأدب صاحب «كتاب القلق» إلا بقراءة ما كتبه باللغات الثلاث، واليوم مع هذا الكتاب الأنتولوجي النقدي لنِتاج بيسوا المكتوب بالفرنسية، يمكن أولاً فهم الأسلوبية لديه فيما كتبه باللغتيْن الأخريين، وكذلك فهم موضوعاتها، والأهم، فهم التنويعات التي سرى عليها بيسوا لا ضمن اللغات فحسب، بل ضمن شخصيات أوجدها وجعل لكل منها ميزات أدبيّة وحياتية. وفي صلب كلّ ذلك يكتب بالفرنسيّة: «في هذا الظل وفي هذا السكون/لستُ أيّ شيء/ لستُ حتّى نفسي»… «وأنا، من أنا؟/ وهمي المكتمل أكثر/ أنا حلمي بنفسي».

كاتب فلسطيني

سليم البيك

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية