لقد غادر المستشفى ولم يغادر كما ظن أو تمنى البعض قصر القصبة، وبخروج رئيس حكومة تونس سالما معافى من وعكة صحية ألمت به ودفعته بناء على نصيحة طبيبه المباشر إلى ملازمة الراحة، لم يعد ممكنا للروايات المثيرة التي توالدت بشكل متلاحق وسريع حول خلافته الوشيكة أن تستمر بالبقاء والصمود طويلا .
وربما كانت الأيام السبعة التي قضاها الحبيب الصيد في المستشفى العسكري، وذكر بيان لاحق لرئاسة الحكومة، أنه واصل خلالها «تسيير العمل الحكومي ومتابعة عدد من الملفات»، فرصة إضافية له حتى يدرك من جديد أن هناك قناصة محترفين ينتظرون اللحظة الحاسمة حتى ينقضوا على كرسيه الفاخر والمثقل بالمسؤوليات، باسم الحاجة الملحة لحكومة الوحدة الوطنية، أو الحرص على المصلحة العليا التي تقتضي وجود شخصية كاريزمية تمتلك من الخبرة والقوة ما يسمح لها بمسك البلد بيد من حديد، وتحقيق ما عجز عنه هو وأسلافه من فرض صارم ودقيق لسلطان القانون، يضع حدا نهائيا وباتا لانفلات الشارع. وليس مستبعدا أن يكون قد تابع مثل باقي التونسيين، خلال الأسبوع الذي أمضاه في المستشفى لقاءات رئيس الدولة بوجوه وشخصيات معروفة، جاءت تعرض عليه حلولا سحرية وسريعة لمشاكل تونس، وقد يكون قرأ أيضا ما كتبته الصحافة المحلية حول بحث السبسي عن «عصفور نادر» يكمل السنوات الأربع التي تسبق الانتخابات المقبلة، لكنه كان يدرك في مقابل كل ذلك أن هناك من يتمسك ببقائه، وأنه لا يزال يحظى بثقة ودعم الرجلين الكبيرين في البلد، أي السبسي والغنوشي وإن ذلك يكفي الآن على الأقل لدحض التكهنات والروايات والإشاعات التي سمعها على مدى تلك الأيام. لكن إلى متى يمكن أن تستمر تلك الثقة، وهل تكفي وحدها حتى يواجه لا الطامعين في كرسيه فقط، بل أكواما من الملفات الصعبة والمعقدة التي تنتظر على الرفوف؟ المقربون من الصيد يقولون إنه يملك قدرة عجيبة على الحوار ومسك العصا من الوسط، والبحث دوما عن حلول توفيقية، وغالبا ما يردد امام مضيفيه أن لكل مشكلة حلا، لكنهم يأخذون عليه تردده في مواقف تقتضي الحسم المباشر والسريع، وهذا واحد من الاسباب التي جعلته عرضة لانتقادات حادة حتى من داخل الفريق الحاكم نفسه.
أما قائد السبسي الذي اختار الصيد وقرر رغم معارضة وجوه معروفة في حزبه أن يفرضه على رأس الحكومة، فقد اختار في حديثه الأخير إلى التلفزيون الرسمي، ألا يرمي كل بيضه في سلة الصيد، رغم تأكيده على أن أداء حكومته «معقول» بالنظر إلى صعوبة الوضع كما قال.
إن دهاء وبراغماتية التسعيني الذي حقق حلم عمره بالتربع على عرش قرطاج، تجعله لا يرهن مصيره ومجده الشخصي لأحد حتى لو كان يحظى بثقته ودعمه. وعلى الطرف الآخر من معادلة الحكم لا يبدو أن هناك تغيرا كبيرا في موقف الشيخ الغنوشي، الذي ردد أكثر من مرة أنه لا يرى حاجة أو ضرورة في الوقت الراهن على الأقل لاستبدال الحكومة أو رئيسها، وأن على الراغبين والحالمين بذلك أن ينتظروا حلول موعد الانتخابات المقبلة، بل شبه الداعين لإسقاطها واستبدالها بأخرى، بمن يبني قصورا من الرمل على شاطئ البحر، ثم يسرع لهدمها. لكن ذلك لم ينف وجود ملاحظات أو مؤاخذات على الصيد وعلى بعض وزرائه، لم تصل أبدا حد الرغبة في استبعاده من المنصب، فما يهم حركة النهضة في هذه المرحلة بالأساس، هو تحقيق حد أدنى من الاستقرار السياسي الذي يسمح لتجربة التوافق بأن تؤتي أكلها وتثبت أقدامها حتى يستقر قطار الديمقراطية على السكة، وهي لا تفضل من منطلق قراءتها للواقع المحلي والإقليمي المعقد أن تجازف بالانجرار وراء مغامرة مجهولة العواقب وتنفض يدها تماما من رئيس حكومة من السهل مد جسور التخاطب والتفاهم معه. وفيما يخص الصيد فرغم نفيه المتكرر لأخبار سرت بقوة وفي أكثر من مناسبة حول تفكيره في الاستقالة من منصبه، بسبب ما قيل إنها «ضغوطات سلطتها عليه بعض الاطراف»، إلا انه يشعر بأنه يسير على رمال متحركة، فالحزب الذي حصد المرتبة الاولى في الانتخابات وعهد له الدستور بمهمة تشكيل الحكومة، تهاوى وتفكك وتراجعت كتلته البرلمانية بعد عام واحد إلى الصف الثاني في ترتيب الكتل البرلمانية، خلف حزب حركة النهضة، والمفارقة أن ذلك الحزب الأقل تمثيلية داخل الحكومة هو الاكثر دعما لها بالمقارنة مع باقي أحزاب الرباعي الحاكم. وهذا ما يعقد المهمة ويجعل الصيد يبدو في نظر المعارضين موظفا ينفذ تعليمات وتوجيهات الرجلين الكبيرين أكثر من أي شيء آخر. الإشكال الحقيقي هنا هو أن استمرار تلك الشكوك وعدم قدرة الطبقة السياسية على تجاوزها وترك خلافاتها المزمنة جانبا، ومنح الثقة والوقت اللازمين للحكومة قبل الحكم لها أو عليها يفتح الباب واسعا أمام ما وصفته مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية في عددها الأخير بـ»الفوضى المدمرة». وتلك الفوضى هي النتاج الطبيعي لاستمرار الأزمة السياسية، فالإرهاب والأزمة الاقتصادية التي تواجهها تونس يمكن التغلب عليهما، لكن استمرار الخلل والمشاكل السياسية سيؤثر حتما على الاقتصاد ويحول تونس كما تقول المجلة إلى «مركز جديد للإرهاب في شمال أفريقيا».
لقد علق الكثير من التونسيين آمالا كبرى على الانتخابات الاخيرة التي جرت قبل اكثر من عام من الان، وظنوا انها ستحقق لهم حدا ادنى من الاستقرار الذي يخرجهم من المؤقت إلى الثابت. ورغم أن حجة الشرعية والمشروعية التي كانت سلاحا أساسيا اشهره المعارضون لحكم الائتلاف الثلاثي السابق، غابت وسقطت بعد اعتراف الجميع وإقرارهم بنتائج صناديق الاقتراع، إلا أن العقدة المركزية ظلت في فهم مقتضيات المرحلة الانتقالية ومتطلباتها وتفوق المصالح الشخصية والحزبية على الحاجات العاجلة والأساسية للبلاد. لقد قبلت النتائج على حالها أما التجربة فلم يكن مسموحا لها بالبقاء والنضج والتطور، لأنها كسرت حواجز مادية ونفسية، كان من المستحيل حتى التفكير بتخطيها، ولم يكن سهلا على التونسيين الذين عاشوا طوال ستين عاما على الرأي الواحد والحزب الواحد والزعيم الأوحد أن يفهموا ويقبلوا بسرعة وسهولة شكلا من اشكال تقاسم السلطة بين عدوين لدودين طالما حاربا بعضهما بعضا بغلظة وشراسة. وبدا من السهل على الرافضين أن يروجوا داخل أوساط الإعلام المحلي مقولات مثل الخيانة لاصوات الناخبين، أو مخالفة التعايش السياسي لسنن الكون والطبيعة وغيرها من المسميات وأن يجدوا قسما واسعا من التونسيين ينصت لهم بانتباه ويصدق مزاعمهم عن حسن نية. بعيدا عن ذلك ظل العائق الأكبر هو ضعف البنية الحزبية التي فقدت تحت حصار الاستبداد وقمعه معظم اركانها الصلبة وصارت باستثناء عدد محدود من الاحزاب اشبه بتجمعات عائلية مغلقة لا صلة لها لا بالواقع المحلي ولا بالمتغيرات الاقليمية والعالمية. ووسط كل ذلك طفت على السطح ظاهرة انقلاب الادوار وتعددها في الآن، تحت لواء الجمعيات الاهلية أو منظمات المجتمع المدني الذي صار مسموحا له بالاستيلاء على الساحة السياسية والتحكم المباشر فيها، ولم يعد غريبا أو مستهجنا أن تفرض النقابات خططها وتوجهاتها السياسية وحتى اسماء بعينها على السلطة بدعوى الشراكة والوفاق، مع سيطرة شبه تامة لقيم السوق وأخلاقه على تعاملات السياسيين ومواقفهم، بشكل جعل صورتهم وصورة المؤسسات الديمقراطية تهتز وتبدو قاتمة وسوداوية إلى أبعد حد في عيون الناس.
لكن كيف ومتى يصلح كل ذلك حتى يتحقق ولو حد أدنى من الاستقرار السياسي المطلوب لضمان الاستقرار الأمني والاجتماعي والاقتصادي؟ ليس مؤكدا أن يحصل ذلك في القريب ويبدو أنه من الضروري حصول هزة معرفية وثقافية كبرى تعيد للساحة رشدها وتثبت الوعي المفقود بصعوبات المرحلة الراهنة وخطورة التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها تونس. وحتى يتحقق ذلك ليس مستبعدا أن تستأنف سوق الرهانات والاشاعات عملها عند أول وعكة صحية للرئيس أو لرئيس الحكومة، وتتعالى في اثنائها مثل كل مرة دعوات الانقاذ الوطني والوحدة الوطنية المغشوشة والزائفة.
٭ كاتب وصحافي من تونس
نزار بولحية
لا يُرادُ للتجربة التونسية ان تنجح رغم انسحاب حزب حركة النهضة من المشهد الأمامي ما لم تتغير عقلية اليسار التونسي ولن تستقر تونس ما لم يتوقف تدخل بعض الدول الخليجية في شأنها الداخلي قصد نقل التجبة الإنقلابية المصرية بحذافيرها وتطبيقها في تونس أما الخطر القادم على تونس فهو التدخل العسكري الغربي الذي سيحصل في ليبيا ظاهره القضاء على تنظيم “داعش” وباطنه الإستحواذ على الخيرات النفطية لهذا البلد الخوف كل الخوف ان تصاب تونس بفيروس “داعش” فتلتحق ببقية بلدان الربيع العربي اليمن سوريا ليبيا لتعيش شتاء عربيا مثل أخواتها
الحرية و الديموقراطية ثقافة تحتاج الى وقت طويل حتى تترسخ و تتجدر و يمتد ظلها لتغطي الجميع.
لقد استغرقت عهود القمع الحديثة عشرات السنين و عصور القمع القديمة قرونا حتى اسست ثقافة الحكم التي اودت بنا الى ما نحن عليه من التخلف. فلا نتوقع في انقلاب الحال الى الحرية و الديموقراطية في يوم و ليلة
بالنظر لما يدور في كل الدول العربية التي شهدت حراكا شعبيا ضد أنظمة الحكم وما آلت اليه ثوراتها من قتل وتدمير وخراب فان تونس قد نجت من كل ذاك ومازالت مستقرة وفي مأمن منه ايظا وستضل كذلك مااستمر التحالف الحكومي قائما لانه مُسند بشعبية قوية وبتمثيل برلماني واسع رغم الانشقاقات والانسحابات في نداء تونس ونفوذ الشيخين مازال قائما سواء في إطار استمرار الاستقرار الحكومي او حتى في إيجاد الحلول التوافقية لمختلف المشاكل العالقة وليس كل ما يطفو على السطح يعبر عن الواقع التونسي الذي يصوره بعض الاعلام على انه على وشك الانفجار ،استقرار تونس مرهون بعدم التدخل الخارجي وتحريك سلاح الاٍرهاب الذي يستخدم لفرض مصالح غير المصالح الوطنية وان كان بأياد غير اجنبية .
مقال جميل حقا
اثبتت تونس انها مثالا يحتذى به بعد الربيع العربي
لذلك من المؤكد انها ستنتصر على كل المؤثرات السلبية الداخلية منها قبل الخارجية
موفق استاذ. نزار