تردد وتوتر وجدال لا ينتهي، تكاد هذه الأجواء تترافق مع أي قانون ضريبي تتوجه دول عربية لتطبيقه، ويتناسى الجميع أن فكرة الدولة في العالم العربي تقوم على مجموعة من الأوهام، التي تتعارض في جوهرها مع فكرة الضريبة.
وعود الاستقلال العربية كانت باذخة وواسعة، والأسوأ منها كانت وعود السلام والانفتاح، فبين الحديث عن ثورات تعليمية وصحية تترافق مع رحيل الاستعمار والأنظمة الموالية له، والرشى التي قدمت من أجل تمرير فكرة السلام وتحول المنطقة إلى مغناطيس الاستثمارات العالمية، يجد المواطن العربي نفسه اليوم أمام مأزق، تترافق فيه الخدمات السيئة مع التصاعد في الأعباء الضريبية المطلوبة منه.
كانت دولة الرفاه في الغرب أحد الحلول لإعادة توجيه الثروات، التي تحققت من رأسمالية القرن التاسع عشر المتوحشة، وثمرة غير مشروعة، وإن كانت طيبة المذاق، لعملية سرقة طويلة أسمتها الأدبيات التاريخية (الاستعمار)، وفي المقابل فإن دولة الرفاه في المنطقة العربية قامت على خرائب المرحلة الاستعمارية، وتوحشت البيروقراطية، التي تمثل أحد الحلول من أجل الحراك الاجتماعي للأعلى، لتضيف ملايين الأفندية المتربعين على أكتاف العمال والفلاحين، الذين نالوا نصيباً كبيراً من الأغنيات بدون أن يترجم ذلك لمكتسبات اقتصادية أو سياسية.
الأفندية واصلوا غزوهم للجهاز الحكومي، وتمكن أبناؤهم من الاستحواذ على القطاع الخاص، ووجد العمال أنفسهم أمام ماكينات معطلة وضرب الفلاح فأسه في أرض يغزوها التصحر والبوار، ومع تزايد الأفندية كانت فاتورتهم تصل إلى معدلات فلكية، ولأنه كان من الصعب الانقلاب على الوعود بهذه السهولة، ولم يكن أحد ليقدّر مدى جسامة ارتطام الحشود الغفيرة بجدار الواقع الخشن، أتت المديونية لتصبح الحل السهل من أجل إطالة عمر (علاقة فاشلة) بين السلطة والشعب.
لم يكن الأفندية وحدهم، فالعسكر الصاعدون والمتنامون أمام تهديدات فعلية وأخرى متخيلة، كانوا يشكلون أحد الثقوب السوداء التي تستهلك موازنات الدول العربية غير النفطية، وكان على المواطن أن يعتبر الجيش أمراً مقدساً لا يمكن نقده أو المساس به، ومع أن هذه الحالة منطقية ومطلوبة في زمن الحرب، حيث يسمح، حتى الدستور الأمريكي، بالتجاوز على قدسية الملكية الفردية في حالة الحرب، إلا أنه لا يوجد له ما يبرره في الأوضاع الأخرى، ووجدت الدولة العربية نفسها مضطرة لإعلان حالة رمزية من الحرب والتعبئة بصورة مستمرة، فالعالم كله يتآمر على المنطقة العربية، ويتأهب من أجل تغيير أنظمتها الثورية، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا أحد بالطبع يمكنه أن يسأل عن جدوى الجيوش وحدود توسعها.
الأوضاع المتهالكة كشفت عن إشكالية عميقة مع تراكم الديون وتضخم أجهزة الحكم، وتورطها أصلاً ولدرجة الإدمان على استخدام الدعم الاقتصادي المباشر للمواطنين، وبدأت الأحاديث عن الضريبة وعن واجب المواطنين تجاه الدولة تأخذ نبرة أكثر حدية، وفي المقابل بدأ المواطنون يلتفتون إلى حقائق جديدة تتعلق بآليات الضرائب، وتغيب العدالة في تطبيق الضريبة، وتوجهها لتصبح عقاباً جماعياً، أكثر مما هي أداة اقتصادية لتمويل الدولة.
كانت الدولة العربية وقعت في خطيئة التوقيت السيئ لعمليات الخصخصة، فالمواطنون شعروا بأنهم لم يصبحوا ملاكاً ضمنيين لأصول الدولة، وكان التوجه السهل باستقطاب المستثمرين الأجانب للحصول على هذه الأصول بأسعار متدنية، يفاقم شعور الغربة الذي يعيشه المواطن في بلده، ومع تلاشي عوائد الخصخصة في الحلقة المفرغة لنموذج دولة الرفاه العربية، التي تقدم خدمات متواضعة وتحتكر تقديمها برفضها لمنافسة المجتمع المدني، تجنباً لتحوله لمنافس سياسي، بدأت الأمور تضع الجميع أمام اقتصادات نهمة لضريبة بمعدلات أوروبية مقابل خدمات (عالم ثالثية) يتكدس فيها الطلبة في الصفوف الدراسية، وتفشل المستشفيات في توفير الأسرة والأدوية للمرضى.
الجميع يتهرب من الضريبة بطريقة أو بأخرى، فالطبقة الثرية تجد نفسها أمام دعوات الاستقطاب من دول أخرى في عالم القرية الصغيرة، ويمكنها أن تبحث عن الملاذات الضريبية التي تمكنها من الاستثمار بعوائد مرتفعة نسبياً، والطبقة الوسطى تجد أن الضريبة لن تقدم لها شيئاً سوى الدفعة التي تخاف منها، لتنضم لصفوف الطبقات المسحوقة، كما أنها لم تعتد الثقة في الدولة ولا في الزمن الذي تحتكره الدولة أيضاً في خطابها السلطوي، فالدولة أممت الماضي واستولت على المستقبل، وتنشب أظفارها الطويلة والمدببة في الحاضر، فلا فكاك من ثنائية المواجهة بين الدولة والمواطن.
التهرب من الضريبة والتردد وحتى الخجل أمامها ليس أمراً صحيحاً، أو صحياً، فالدولة لا يمكن أن تستمر بدون الضريبة، ولكن عليها أن تقدم في المقابل التنازلات الضرورية من أجل تمرير ثقافة الضريبة بين المواطنين، فدافع الضريبة يجب أن يمتلك نظرياً وفي الحد الأدنى الحق المبدئي في أن يصبح قائماً على إدارة الضريبة، أي فاعلاً سياسياً، ولا يمكن أن يقتنع المواطنون بالتضحية الضريبية الباهظة، بينما يتابعون عن كثب استحكام سيطرة طبقات نخبوية معينة على المناصب السياسية والإدارية، كما أنه لا يمكن أن يقتنع بأن يدفع الضريبة ضمن منظومة تتساهل وتتراخى مع الفساد الذي يصل إلى معدلات عالية، وكذلك، فالمواطن لن يستسيغ دفع الضريبة من أجل تمويل رواتب أجهزة أمنية لا تحترمه أو موظف حكومي يتعالى عليه، ولذلك فالدولة مطالبة بأن تعيد التأمل في مبدأ (لا ضريبة بدون تمثيل)، والتمثيل لا يكون بمجرد نصوص تتحدث عن المساواة السياسية والاجتماعية، ولكن في تطبيقات فعلية يراها المواطنون أمامهم.
الإصلاحات الضريبية في دول المركز العربي، والتجارب الضريبية في الدول النفطية، من شأنها أن تولد من جديد اضطرابات اجتماعية، على الدولة أن تستوعبها وأن تلجم من أجلها نزوات رجالاتها وممثليها التقليديين، فكما للديون مواعيد استحقاق لا يمكن التملص منها، فالإصلاح أيضاً يضع مواعيد استحقاق يجب مقابلتها، يمكن أنه ليس بسطوة الدائنين أو عدوانيتهم، ولكن لا يمكن تأجيله للأبد أو التذاكي والتحايل على ضرورته وحتميته.
الدولة العربية لم تكن في يوم ذلك المنجز الذي يقنع مواطنيها بالدفاع عنه والتضحية من أجله، ففكرة القومية العربية والحل الإسلامي جميعها أفكار تتجاوز الدولة، وتراها مجرد مرحلة لا يمكن أن تحمل الصلاحية للاستمرار وتحقيق أحلام المواطنين، ولكن تجربة الربيع العربي أثبتت بأنه لا مناص من الدفاع عن الدولة مهما كان واقعها وظروفها، وأن أي اصلاح يجب أن يبدأ من داخل الدولة، ويجب أن يحسم الصراع بين أجنحتها المختلفة وتقييد من يرون مصالحهم في إبقاء الوضع على ما هو عليه، أو الانتكاس لمرحلة ما قبل الربيع العربي، فالحلان لن يصمدا في المدى الطويل، وسيزيدان من فاتورة الانتظار والتسويف.
كاتب أردني
سامح المحاريق