جاء اجتماع الدول الداعمة لسوريا في مدينة ميونيخ الألمانية، الذي ضم 17 دولة وثلاث منظمات دولية وإقليمية، ليبحث ما آلت إليه اجتماعات جنيف 3 من إخفاقات، حيث حاول المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا تداركه عبر الإعلان عن تأجيل المباحثات إلى نهاية شهر فبراير الجاري.
بصرف النظر عن الظروف التي دفعت المبعوث الأممي إلى تأجيل المباحثات على نحو مفاجئ، التي اعترف لاحقاً بكونها تتمثل في تزايد القصف الروسي لمناطق سيطرة المعارضة السورية في مختلف أنحاء سوريا (ريف اللاذقية الشمالي- ريف حلب الشمالي- ريف درعا)، وتمدد قوات النظام والميليشيات الموالية في هذه المناطق، بعد أن استخدمت روسيا سياسة الأرض المحروقة (كما استخدمتها في الشيشان)، فإن اجتماع ميونيخ حاول التخفيف من آثار «التغول الروسي» من خلال التوافق على عدد من النقاط، جزء منها كان مطلباً للمعارضة السورية، ولاسيما فيما يتعلق بوقف استهداف المدنيين والقصف العشوائي والأسلحة المحظورة، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة.
اجتماعات ميونيخ ابتدعت مصطلحات فضفاضة وقابلة للتأويل والالتفاف السياسي، فرغت نتائجه من مضمونه قبل أن يجف حبر نقاط الاتفاق، فمصطلح «الأعمال العدائية» خاضع للتأويل والتفسير فيما يتعلق بماهية هذه الأعمال ومتى يمكن وصفها بالعدائية، على الرغم من استثناء الاجتماع، من حيث المبدأ، لأي استهداف لكل من جبهة النصرة وما يسمى تنظيم الدولة. كما لم يحدد آلية وقف الأعمال العدائية ومن سيقوم بمراقبتها وعلاقتها بمسألة مكافحة الإرهاب، وما هو دور المجموعة الدولية والأمم المتحدة في حال تم خرقها.
واقع الحال أن هذا البند أفشل نتائج الاتفاق قبل أن يدخل حيز التنفيذ، فضلاً عن كونه غير ممكن التطبيق في سوريا في الوقت الراهن (من دون وجود إرادة سياسية)، في ظل تواصل استهداف الروس للمدنيين والبنى التحتية في سوريا، وقصف المدارس والمستشفيات في أرياف حلب وإدلب ودرعا، ومنها مستشفى منظمة «أطباء بلا حدود». فعدم جدية روسيا والنظام وحلفائهما في الالتزام بمخرجات هذا الاجتماع تبدت فوراً مع المجازر التي تزايدت في سوريا إثر الاتفاق.
التداخل الجغرافي الكبير بين قوى المعارضة والفصائل المقاتلة على الأرض في سوريا، ولا سيما في الشمال السوري، جعل من «شماعة» الإرهاب واستثناء جبهة النصرة وما يسمى تنظيم الدولة من وقف «الأعمال العدائية» ذريعة استخدمتها روسيا ونظام الأسد لمواصلة قصف كافة المناطق التي لا تخضع لسيطرة النظام وتم استهداف المدنيين العزل، وهدم البنى التحتية فيها.
فضلاً على أن غياب الضمانات وآلية المحاسبة مكنت آلة القتل الروسية من الإفلات من عواقب أي قصف تقوم به، وهو ما تجلى في قصف المستشفيات وتهجير المدنيين نحو الحدود التركية، الذين زاد عددهم بعد اجتماع ميونيخ ومباحثات جنيف 3 إلى أكثر من 150 ألف نازح سوري، عالقين على الحدود السورية التركية.
أما بالنسبة لإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، فعلى الرغم من كونه مطلباً أساسياً من مطالب المعارضة السورية، قبيل الذهاب إلى جنيف3 وبعده، إلا أن دخول بعض الشاحنات إلى بعض المناطق التي تم «انتقاؤها» بالتوافق مع ممثلي النظام، حوّل المطلب إلى «مطية» للتنفيس السياسي وإظهار المبعوث الدولي والأمم المتحدة في موقف المتضامن مع مطالب الشعب السوري، رغم أن المناطق المحاصرة الـ18 لم يتم شملها في القرار، وما تم توزيعه حتى الآن لا يكفي لأكثر من شهر. وقد أكدت كافة قوى المعارضة على أن فك الحصار وإدخال المساعدات الإنسانية هو مبدأ فوق التفاوض ولا ينبغي استغلال الجانب الإنساني لتحقيق انتهازات سياسية.
إذا كانت الأمم المتحدة جادة في رفع الحصار عن المدن والبلدات في سوريا، وإيصال المساعدات إليها، كان عليها ألا تخوض في لعبة تحديد المناطق وذكرها، ومقايضتها مع النظام، بل كان عليها إدخال هذه المساعدات إلى ملايين السوريين في مختلف المدن والبلدات السورية من دون تمييز أو تفريق بين منطقة وأخرى، واعتبار هذا المطلب فوق تفاوضي غير خاضع لأي ابتزاز سياسي.
واقع الحال أن مخرجات اجتماع ميونيخ تم القضاء عليها وتفريغها، قبل أن يجتمع المسؤولون الروس والامريكان لتحديد آلية وقف «الأعمال العدائية»، كما توافقوا على ذلك، فالبنتاغون أعلن أخيراً أن الغارات الروسية زادت بعد اجتماع ميونيخ ولم تتوقف أو حتى تنقص، والانكفاء الأمريكي في الملف السوري يبدو متعمداً في ظل انشغال الإدارة الأمريكية بملف الانتخابات الرئاسية وتركيز جهدها على مناطق أخرى في العالم كشرق آسيا، وتمكين الشرطي الإيراني برقابة روسية في المشرق العربي.
قبل أن يجف الحبر الذي كتب به اتفاق ميونيخ، كانت الدول الغربية الراعية للاجتماع كفرنسا وبريطانيا وغيرهما، تشكك في مدى جدية الروس في الالتزام بوقف الغارات الجوية على مناطق المعارضة، وبعد أن دخلت «بضع» شاحنات مساعدات إلى بعض المناطق في سوريا، كان نظام الأسد «ينتقد» دي ميستورا على رغبته في إدخال المزيد منها و«اختبار» نوايا النظام في ذلك، كما أعلنت بثينة شعبان، وبين مطلب وقف إطلاق النار أو بالأحرى وقف الغارات الروسية في سوريا، وبين مطلب إدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي أنهكها حصار نظام الأسد والميليشات الموالية له، يبدو اتفاق ميونيخ وما نتج عنه، مجرد «إدارة للوقت» بانتظار تحقيق «تغيير» في الواقع الميداني لصالح روسيا وحلفائها!
٭ كاتب وباحث فلسطيني
هشام منور