مخيّلات آسيا جبّار

حجم الخط
5

حين انتُخبت آسيا جبار (1936 ـ 2015) لعضوية الأكاديمية الفرنسية، لم تكن بذلك أوّل اسم جزائري، منتمٍ لثقافة إسلامية، يحدث أنه امرأة أيضاً، فحسب؛ بل كان انتخابها يثير إشكالية خاصة، تظلّ بلا سابقة مماثلة: صحيح أنّ جبّار لم تكتب إلا بالفرنسية، وللأكاديمية مهمّة أولى هي «السهر على اللغة الفرنسية» وتطوير الآداب والثقافة الفرنكوفونية؛ غير أنّ معظم أعمالها الروائية تناقش تفصيلاً جوهرياً مركزياً هو مشكلة الكتابة بالفرنسية عند أبناء المستعمرات السابقة، وطبيعة الإشكاليات التي تنجم عن هذا الاستخدام اللغوي شبه القسري في الواقع. الحال تصبح أكثر انطواء على التوتّر الثقافي حين يميل هذا العمل أو ذاك إلى استعادة الذاكرة الوطنية الجزائرية، حيث لا مناص من إعادة تمثيل صورة الاستعمار الفرنسي في أشكاله السياسية والعسكرية والثقافية، وسرد وإعادة سرد وقائع المقاومة في المستويات ذاتها، السياسية والعسكرية والثقافية.
وفي مناسبة انتخابها، طرحت عليها صحيفة الـ»فيغارو» هذا السؤال: «أنت امرأة من أصل جزائري، وثقافة إسلامية، وتقيمين اليوم في نيويورك حيث تدرّسين الفرنكوفونية. أيّ رمز تمثّلين؟». أجابت جبار: «لستُ رمزاً. نشاطي الوحيد هو الكتابة. كلّ كتاب لي هو خطوة نحو فهم الهوية المغاربية، ومسعى للدخول في الحداثة. ومثل كلّ الكتّاب، أستخدم ثقافتي، وأستجمع العديد من المخيّلات». ولأنها تعتمد لغة المستعمِر لكي تسجّل وحشيته وبعض الذاكرة الدموية التي خلّفها، فإن كتابة جبّار بتلك اللغة لا بدّ أن تأخذ صفة الإشكالية المفتوحة. إنها تضع نفسها في موقع إبنة البلد التي يجب أن تتوافق مع تاريخ بلدها، الجزائر؛ ومع نفسها، كذاتٍ عربية مؤنثة تكتب بالفرنسية، عن النساء العربيات اللواتي لا يتكلمن الفرنسية، وعن رجال عرب حجبوا عن النساء حقّ الكلام بالأصالة عن أنفسهن. تقول: «بذلك فإن اللغة [الفرنسية]، التي جهد والدي كثيراً لكي أتعلمها، تخدم الآن كوسيط لسرد التاريخ، وهي منذ الآن علامة مزدوجة متناقضة تهيمن على عَمَادتي في الحياة». وفي روايتها البديعة «الحبّ، الفانتازيا»، التي صدرت بالفرنسية سنة 1985، تستعيد جبّار حادثة رهيبة كانت في الآن ذاته قد دشّنت أوّل التفاصيل الدامية من تاريخ غزو الجزائر: عدد من المقاومين الجزائريين البربر، ممّن رفضوا الاستسلام للغزاة الفرنسيين، لجأوا إلى الكهوف القريبة من قرية القنطرة، فاستخدم الضابط الفرنسي بيليسييه سلاح الدخان لإخراجهم منها، فقضوا خنقاً، وكان عددهم 1500 من النساء والرجال والأطفال، مع مواشيهم. سرد هذه الواقعة الوحشية، والتي ستتكرر بعد شهرين على يد الكولونيل سانت ـ آرنو، بقود جبّار إلى اقتباس شهادة ضابط إسباني روى أن بيليسييه أمر جنوده بإخراج ستمائة جثة من ظلام الكهوف إلى ضياء الشمس؛ وتعلّق: «بيليسييه، الذي ينطق الآن بالنيابة عن هذا الألم الطويل، وبالنيابة عن 1500 جثة مدفونة أسفل قرية القنطرة، وبالنيابة عن المواشي التي لم تتوقف عن إطلاق ثغاء الموت، سلّمَني تقريره وأخذتُ منه هذا اللوح الذي أخطّ عليه، بدوري، مشاعر الألم المتفحمة التي عرفها أسلافي».
وفي نهايات الرواية، لا تترك جبّار ظلاً للشك في طبيعة هذا الانقسام الثنائي: «حين أكتب وأقرأ بلغة أجنبية، فإن جسدي يسافر إلى فضاء تدميري. الكلمات التي أستخدمها لا تعكس واقعاً من لحم ودم. وجميع ما تعلمته في القراءة والكتابة يقذف بي نحو موقع ثنائي الانقسام. وضربة الحظ هذه تضعني عند حافة الانهيار». تلك الثنائية في استخدام اللغة، أو ذلك التعارض بين الانتماء والاقتلاع وبين الذات والآخر؛ يختزل المتكلم إلى كائن يرتكز تشكيل هوّيته على حقلين لغويين وثقافيين منفصلين، يتكاملان في ترسيخ الثنائية وتجريد الهوية من سياقاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية والسيكولوجية. ثمة، هنا، أواليات قهر إضافية تتسبب في اغتراب الكاتبة، الأنثى، مرّتين: الأولى عن هويتها الوطنية، في سياق الاستعمار؛ والثانية عن هوّيتها الوطنية، في سياق النظام البطريركي. وهي، في الاغترابين، تعيش حالة نفي قصوى عن صوتها الخاص، ويعكس نصّها توتّراً شديداً في العيش ضمن صيغة «الآخر، تحت سقف الآخر»، بحيث يتضاعف الوجود والمعنى، وتختفي أكثر من لغة واحدة طيّ الكتابة.
ولعلّ «المخيّلات»، التي أشارت إليها جبار، ليست سوى بعض تجليات «المنفذ» الذي تحدّث عنه فرانز فانون؛ في وصف سيكولوجية المقهور، إذْ ينتمي، «بيأس الغريق»، إلى ثقافة القاهر. أم أنّ العكس كان هو الصحيح، في ضوء انتخاب جبّار للأكاديمية الفرنسية، حين سعى القاهر إلى استرداد المقهور؟

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول منی:الجزائر.:

    ستظل إشكالية بلا جواب .آسيا جبار مثلها مثل محمد ديب وكاتب ياسين ومولود فرعون؛ الذي قال:”أكتب بالفرنسية كي أقول للفرنسيين لست فرنسيا”.! وغيرهم ؛لم يعرفوا غير الفرنسية لغة وقصة وتاريخ وإقتصرت اللغة العربية علی ماحفظوه في الكتاب؛ لذلك لم يعبروا او يكتبو إلا بها؛ وهذه حال جيل بأكمله ؛ كان أبي رحمه الله يقرأ العربية في المصحف فقط؛ غير ذلك لايمكنه بأي حال ان يقرأ أي شيئ آخر بالعربية ؛ ولا يخوض نقاش في السياسة إلا بالفرنسية ؛ حاله حال جيل نشأ في عهد الإستدمار الذي حاول سلخ شعب بأكمله عن هويته ولكنه فشل؛ فقد ظلت اللغة أداة للتعبير لكنها لم تقتلع روحهم العروبية .
    رحم الله آسيا جبار .

  2. يقول كمال رمضان:

    رفاهة و سعادة العيش بين الاهل و فى الوطن و التكلم باللغة الام لايظاهيهم اى شىء فى العالم بأكمله.لا مادة و لا جاه .يقول الفنان التونسى الراحل محمد الجموسى”ريحة البلاد مالطفها ما يشبع منها يوم و صحيح ما يعرفها كان الى عاش محروم “.

  3. يقول حسان:

    هل هي ثنائية ثقافية أم ثقافة متراكمة سامية فوق الماضي والحاضر ؟ هل هما ثقافتين منفصلتين أم ثقافة إنسانية واحدة قائمة علي تناقض تاريخي , أحدهما إستعمارى قاتل وآخر يسرد الأشياء ويسميها بمسمياتها ليضع النقاط علي حروفها ؟ .

  4. يقول حي يقظان:

    بالنسبة لمعظم الكتاب العرب الذين يكتبون بلغات أجنبية (واستعمارية، على وجه التحديد)، الإشكال الذي تتحدث عنه الراحلة آسيا جبار لا يتجلى على مستوى الهوية والانتماء فحسب، بل يتجلى كذلك على مستوى اللغة نفسها، المستوى الذي لم يشر إليه الأخ صبحي في مقاله الجميل. فعلى الرغم من إجادتهم للغة جميلة كاللغة العربية إجادةً مشرفة، حتى المثقفون العرب الذين عاشوا، وما زالوا يعيشون، في الغرب منذ نعومة أظفارهم، والذين استطاعوا أن يستوعبوا الثقافة الغربية بحلوها ومرها، إنما يقفون أمام إشكالية “قساوة” اللغة العربية (أو ما أصبحوا يعرفون عن “قساوة” هذه اللغة في حد ذاتها)، وبالتالي إشكالية “قصورها” في التعبير الطبيعي عن الكثير من المفاهيم والمصطلحات الغربية، مقارنةً بـ”مطواعية” اللغة الفرنسية (أو الإنكليزية)، على سبيل المثال. وقد تحدث الراحل إدوارد سعيد عن هذه الإشكالية مرارًا، وذلك من خلال معالجته لمفهوم الطباق «contrapuntal» الذي استعاره من عالم الموسيقى، تلك الإشكالية التي عبر عنها الراحل محمود درويش أيما تعبير، في قصيدته الموجهة إلى إدوارد سعيد نفسه، حين قال:

    يقول: أنا من هناك، أنا من هنا
    ولستُ هناك، ولستُ هنا
    لِيَ اسمان يلتقيان ويفترقان
    ولي لُغَتان، نسيتُ بأيِّهما كنتَ أحلَمُ
    لي لُغةٌ انكليزيّةٌ للكتابةِ، طيِّعةُ المفردات
    ولي لُغَةٌ من حوار السماء مع القدس،
    فضيَّةُ النَبْرِ، لكنها لا تُطيع مُخَيّلتي
    والهويَّةُ؟ قُلْتُ
    فقال: دفاعٌ عن الذات
    إنَّ الهوية بنتُ الولادة،
    لكنها في النهاية إبداعُ صاحبها،
    لا وراثة ماضٍ

    […]

    فاحمل بلادك أنّى ذهبتَ وكُنْ
    نرجسيّاً إذا لزم الأمرُ

  5. يقول وحيد الجزائر:

    أشكر الدكتور حديدي على هذه الألتفاتة الطيبة فقل من المثقفين العرب من يعرف آسيا جبار تحية طيبة من الجزائر

إشترك في قائمتنا البريدية