يشير الثراء الذي ميز الابستمولوجيا بوصفها فلسفة لتاريخ العلوم إلى حركة الفهم القوية من لدن الإنسان، الذي وصفه ديلتاي بالكائن التاريخي، ارتباطا بخبرته الدائمة وقدرته على التفاعل مع دوائر المعرفة والحياة.
وفضلا عن قوة الترابط بين الإنسان والتاريخ والعلم، فإن هوية الإبستمولوجيا تبدو ملتبسة وغير واضحة على نحو دقيق، خاصة بعد ابتعادها عن الصفة الوضعية نتيجة لتطور العلوم الإنسانية، وبروز فروع معرفية جديدة مثل تاريخ العلوم، واللسانيات، والجينالوجيا، والأركيولوجيا، والهرمنيوطيقا. هذه الفروع كانت بعيدة عن الإبستمولوجيا، لكنها أصبحت اليوم تتقاطع مع اهتمامات معرفية متعددة، وهو ما يسمح برصد مدى تعالق الإبستمولوجيا مع الأركيولوجيا، على نحو ما نجد لدى ميشيل فوكو في كتابه «حفريات المعرفة» بعدما ساهم غاستون باشلار في بناء صرحها الجديد الذي سيمكنها من مصاحبة الفلسفة. وسنتمكن مع جورج كانغليم من رصد العلاقة الشائكة بين التاريخ الإبستمولوجيا مادامت هذه الأخيرة هي العقل الجدلي المشاغب بأسئلته بتعبير صاحب العقل العلمي الجديد.
الأفق الفلسفي للإبستمولوجيا تشكل وفق مقولتين أساسيتين: مقولة الذات، ومقولة التقدم. وكان لهما تأثير في صياغة موضوع تاريخ العلوم وبشكل دقيق مدلول التاريخية الخطية، كاستمرارية متسقة في الزمان، حيث التاريخ العلمي مجرد امتداد زمني تلتقي لحظاته في متصل زمني واحد يمكن تقسيمه إلى حقب وأزمنة. وطبيعة الزمان فيه ترتد باستمرار إلى الماضي، والحالة هذه فإننا إزاء دلالة ميتافيزيقية للتاريخ العلمي بوصفه تحقيبا: المرحلة القديمة تليها حقبة العصور الوسطى، ثم العصر الحديث، وصولا إلى اللحظة الراهنة. هذا الاتساق الزماني سيعكس رؤية ميتافيزيقية على نحو ما نجد لدى جورج سارتون في إشادته بالعبقرية الإغريقية، مما أدى به إلى تهميش بعض النظريات العلمية التي عاصرها مثل النظرية النسبية ونظرية الكوانتا. فحاضر المعرفة العلمية – تبعا لهذه الرؤية- ليس سوى ظل للماضي بوصفه أصلا مطلقا.
المدلول الثاني يرتبط بالذات التي تنشد البحث في الأصل، لأنها تنشد قول الحقيقة لا بوصفها حقيقة ناقصة أو مبتورة، أو كأخطاء وثغرات وفجوات، ولكن لأنها تسعى لإدراك الكل بعد تحديد الزمانية التاريخية كأنساق. وهذا الكل نستخلص حقيقته من ماهيته وهي في الغالب ماهية روحية على نحو ما ذهب مؤلف الفلسفة وفلسفة العلماء العفوية لوي ألتوسير، في حديثه عن الكل الزماني لدى صاحب «فيمينولوجيا الروح» جورج فيلهم فريدريش هيجل. وهذه التاريخية الاتصالية لم تكن سوى الماهية التي وجدت في فكرة التقدم، حضورا للعقل وللأفكار العلمية والذات العارفة، ومن ثم فالخطاب الذي سيتم إنتاجه حول تاريخ العلوم لا يمكن أن يتخذ مدلولا، إلا من منطلق الوحدة العقلية بوصفها انتصارا للروح الفلسفية العامة. وهو ما يمكن تلمسه في تصورات أوجست كونت، ذلك أن تاريخ العلوم لديه هو جمع وتصنيف لممارسة معرفية، انطلاقا من خاصية تجريدية تحدها فاعلية أساسية تتمثل في العقل وحضوره، ويعد قانون الحالات الثلاث هو المحدد لهذه الفاعلية. غير أن فكرة التقدم هنا- لم تكن إلا بحثا مضنيا عن تاريخ لا يوجهه إلا العظماء. في هذا الصدد نتذكر مقوله هيجل «رأيت الفكرة فوق حصان» وهو ما يبرر إشادته بسقراط والمسيح ونابليون، بوصفهم تجسيدا للروح المطلق. وبموجب هذا التصور سيصبح تاريخ العلم عملية لتجسيد تقدم الفكر البشري ويقظته في الوقت نفسه. فالتقدم كلي حسب هيجل، ووحدة العقل تؤسس لوحدة المعرفة تبعا لتصور ديكارت، غير أن جورج كانغليم تلميذ غاستون باشلار يوجه نقدا لاذعا لهذا التصور بقوله «إن تاريخ العلوم بهذه الصورة لا يستحق من طرف العالم أدنى اهتمام لأنه تاريخ. ولكنه تاريخ شيء آخر غير تاريخ العلوم». في «مدخل إلى دراسة فلسفة وتاريخ العلوم».. جورج كانغليم.
التصور الاتصالي للتاريخ يقودنا نحو الممارسة الوضعانية لأوجست كونت، وللتاريخ العلمي لدى جورج سارتون مؤلف «المدخل إلى تاريخ العلوم». والحالة هذه فإننا إزاء تغييب لأهم خاصية تميز التفكير العلمي والمتمثلة في مفهوم التحولات. لذلك فالحاجة لوعي ابستمولوجي يزحزح هذه المفاهيم من خلال ممارسة نقدية ستجد بعض تحققاتها مع فردريك نيتشه وميشيل فوكو الذي سيعلن عن قلب فعلي للرؤية الاتصالية لتاريخ العلوم. غير أن هذه المنعطفات لا تمنع من استحضار الأثر الابستمولوجي الكبير لغاستون باشلار، وعلى نحو خاص مفهوم القطيعة الابستمولوجية. أهمية المساهمة البشلارية عبر عنها الفيلسوف الوجودي جان هيبوليت، الذي عد غاستون باشلار بحق مؤسس الابستمولوجيا المعاصرة وصرحها الكبير. وتسعفنا هنا الترجمات التي قدمها المترجم والباحث الرصين سعيد بوخليط لمشروع غاستون باشلار في تلمس الجوانب المضيئة لمجمل كتاباته الابستمولوجية والجمالية، نستحضر في هذا السياق الاعمال التالية: «غاستون باشلار: مفاهيم النظرية الجمالية» ،»غاستون باشلار: عقلانية حالمة»، «غاستون باشلار: نحو أفق للحلم»، «غاستون باشلار: بين ذكاء العلم وجمالية القصيدة» «غاستون باشلار: نحو نظرية في الأدب». وهذا النحو من التخصص يذكرنا بمشروع الروسي كوجيفينيكوف المعروف في الأوساط الفلسفية باسم ألكسندر كوجيف، ومحاولته التخصص في هيجل وفصل ماركس الشاب عن صاحب كتاب «المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال».
إن القطيعة هي ما تفصل ميدان العلم المتحرك بفعل جدلي متواصل عن كل ما هو من قبيل الرموز والأساطير. فكل ما سبق العلم مجرد وثيقة ولادته وهي مطرودة من حياته الداخلية اقترابا من مفهوم الاسترداد الإبستمولوجي الذي يعبر مع غاستون باشلار عن الصيرورة الضرورية لعلم مان وذلك بربط ماضيه بتحليل حالته الحاضرة. وبالتالي فان تاريخ علم ما تعقبه معرفة يقظة بنسقه الحالي الذي يلغي كل ما يتعلق بتاريخه السابق. وفي نهاية المطاف فليس هناك تاريخ علوم إلا وهو إبستمولوجي، وعكسيا ليس ثمة ابستمولوجيا إلا وهي مرتبطة باللحظة العقلية لعلم ما هو موضوعها. فباشلار يتحدث عن التاريخ الإبستمولوجي كما عن الإبستمولوجيا التاريخية، غير أن تسمية القطيعة الإبستمولوجية تطلق على اللحظة التي يتكون فيها علم ما «بانقطاعه» عن ما قبل تاريخه وعن محيطه. ولا تتشكل القطيعة آنيا لأنها عملية معقدة يتكون خلالها نظام لم يكن موجودا من قبل. وعلى سبيل الذكر فالرياضيات تكونت باليونان ما بين القرنين الخامس والسادس، غير أن الفيزياء الرياضية لم تظهر إلا في القرن السابع عشر. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا لحظة تجاوز النظرية العلمية للعوائق الإبستمولوجية التي تعترضها من قبيل فكرة الجوهر الطبيعي. ويقدم غاستون باشلار مثالا بنظرية مصدر اللهب التي أصبح تاريخها الآن متجاوزا، لأنه يرجع الاحتراق لقوة داخلية في المادة وليس إلى تركيبة دقيقة للغازات. وقد استفاد باشلار من الانقلاب الذي أحدثته نظرية الكوانتا في الفكر العلمي الحديث. فالواقع العلمي تحول إلى بنيات لا كائنات. وهدف غاستون باشلار هو تأسيس فلسفة تعكس التقدم العلمي من أجل بناء فلسفة تكون ملائمة في شكلها للتطور الحاصل في العلوم. لذلك فإن مهمة الإبستمولوجي ستكون هي التموقع في منتصف الطريق بين العمل العلمي والفلسفي. وسيكون هنا هو «الوعي الذاتي» بتعبير هيبوليت.
غير أن جورج كانغليم يصرح بالقول إن الإبستمولوجيا قد تكون ضحية لتاريخ العلوم، طالما أن المؤرخ غالبا ما يعد العلم داخل مجال التأريخ، والحالة هذه فهو يندرج في سياق التاريخ العام، الذي يكشف أن تاريخ العلوم هو تاريخ للعباقرة والرواد، لذلك ينبغي تصفية ما يسمى بـ»جرثومة الرائد». ولقد انتقد كانغليم الفلاسفة الذين يسقطون على الابستمولوجيا أوصافا جاهزة من مركز أنساقهم الميتافيزيقية، الأمر الذي يفقدنا – بتعبير كانغليم- التعرف على الدينامية الفعلية لسيرورة ونمو المعارف العلمية في خصوصيتها. ولكي تتمكن الفلسفة من تشييد ممارسة نظرية واعية لتاريخ العلوم، يجب عليها أن تقيم علاقة جديدة بالعلم لتبيان تاريخ العلوم. يتعلق الأمر برغبة واضحة لجورج كانغليم من أجل تجاوز الخلط ما بين موضوع العلم وتاريخيته. ولكي تنبني تاريخية هذا الخطاب ينبغي حسب تصور كانغليم أن يتحدد على ضوء التاريخية ذاته. وبالتالي فالموضوع العلمي يمكن عده موضوعا ثانيا، لأنه يمكن أن يشتق عن الموضوع المعطى والطبيعي.
فلا غرو إن كان تاريخ العلوم تبعا لهذا التصور ليس ذاكرة للعلوم بل تجارب للإبستمولوجيا، حيث تستطيع دائما إعادة وإصلاح ذاتها من جديد. ولقد كانت كشوف غاستون باشلار إطارا لتطور الإبستمولوجيا. غير أن الحديث عن مداراتها يذكرنا بلوي بيير ألتوسير بقوله، إن هيجل لم يكن مخطئا حين قال بأن الفلسفة تبزغ في الأمسية المنحدرة، أي حينما يجوب العلم الذي ولد في الفجر.
كاتب مغربي
عبد السلام دخان