مداواة العنصرية بالأدب

حجم الخط
0

الجزائري لا يفوّت فرصة دون أن يُظهر الجانب المُعتم من شخصيته، يتحيّن المناسبات ليسقط قناعه ويُظهر عنصريته ـ غير المبرّرة ـ تجاه الإفريقي الأسود، يُمارس عليه «سلطة» وهمية، يضطهده معنوياً وينوّع في وصفه بأقبح النّعوت.
في كلّ مرّة، يخرج الجزائري من جحر الاضطهادات النّفسية، التي تعرّض ويتعرّض لها، لينفخ كرهه تجاه الإفريقي الأسود، الذي دفعته ظروف سياسية وأخرى اقتصادية للتواجد في الجزائر، هو لم يختر الجزائر كوجهة هجرة ولا ينوي الاستقرار فيها، بل هي فقط ترانزيت، للعبور إلى «جنته المفترضة» في أوروبا.
في رحلته من إفريقيا إلى حدود أوروبا الجنوبية، سيضطر الإفريقي، في بعض الأحيان، للعبور من الجزائر، وتحمّل ويلات العنصرية المتزايّدة، التي صار الجزائري يحرص عليها، ينميها ويطوّرها ويحتضنها كي يستقبل الإفريقي – المغلوب على أمره – بقاموس من الكلمات والجمل المُسيئة، التي لا تخرج من دائرة الكليشيهات الخاطئة.
الجزائري في نسخته العنصرية (وهي نسخة حديثة) يبدو كما لو أنه خرج للتو من الضّلع الأعوج للفرنسي القديم، كما لو أنه ما يزال وفيا للتقاليد الكولونيالية، يبدو الجزائري في عنصريته، كما لو أنه مُواطن سعيد في الامبراطورية الكولونيالية، لأن العنصرية التي يُمارسها على الإفريقي الأسود ليست سوى استعادة وإعادة تدوير للعنصرية الفرنسية تجاه السّود، التي سادت في منتصف القرن الماضي. لقد عجز الجزائري عن الانفصال – كليّة – عن المُستعمر القديم، لم يتحرّر منه، وفشل في تحقيق مساواة معنوية معه، لم يتخلّص من كوابيسه الماضوية، ولم يخرج من قبضة المحتل، ثم عجز مرة أخرى على ابتكار «مساوئ له» تميّزه عن غيره، وراح يحقد على الإفريقي الأسود، ليس لسبب حقيقي وواضح، بل فقط رغبة منه في التشبه بالفرنسي الأبيض، في خمسينيات القرن العشرين.
في العادة، الجزائري يُؤسّس عنصريته وأحكامه المسبقة تجاه الإفريقي الأسود، انطلاقاً من تأثيرات محيطه القريب، من العائلة ومن الشارع، أي من كلام «الجماعة»، التي ورثت أفكارها ويقينياتها من «الكولون» (أي المستعمر). لهذا فإنه يحدد تقسيماته للأفراد وللمجتمعات انطلاقا من لون بشرتهم (ثم بحسب دياناتهم)، هكذا فهو يستصغر ويستخف بأصحاب البشرة السوداء، ويحترم ذوي البشرة الصّفراء (خصوصاً اليابانيين والصينيين)، ويشعر بالدونية أمام ذوي البشرة البيضاء (من أوروبيين وأمريكان). إنه يتخذ من تدرج لون البشرة، من الأبيض إلى الأسود، مقياساً له في ترتيب علاقته بالشعوب الأخرى، وترمومتر في تحديد موقعه الافتراضي مع الأجانب.
من شدة ارتباط الجزائري بالموروث الكولونيالي، نجد أنّه يوظف المصطلحات الاستعمارية نفسها في ازدرائه بذوي البشرة السوداء، يُطلق عليهم كلمة «نيغر»(أو الزّنجي)، وهي كلمة ساخرة، رغم أن كُتّاب الأدب الزّنجي، في حقبة ما بين الحربين العالميتين (إيمي سيزار وليوبول سيدار سنغور وغيرهما) حاولوا تغيّر معناها بالأدب، وفرضوا ما سموه وقتها ﺑحركة»النيغريتيد» كتسمية بديلة للأدب الزّنجي ولمجموع القيم الثقافية التي تجمع الشّعوب الإفريقية السّوداء، لكن الكلمة عادت لاحقاً، من جديد، بالمحمول نفسه، وصارت أشبه بالتهمة أو الذم الموجه للإفريقي الأسود. إن إطلاق كلمة «نيغر» على الإفريقي الأسود، القادم إلى الجزائر من دول مُجاورة مثل مالي والنيجر أو من تشاد، هو رسم حدود له، وضعه في إطار خاص، أو رميه في مجموعة بشرية منفصلة عن البقية، مما يفرض ـ منطقياً ـ تعاملاً مختلفاً معه، يقوم على تراتبية وليس على مُساواة.
يربط الجزائري في ذهنه الإفريقي بصورة «الأسود المحتل»، المتقبّل للاستعمار، الخاضع لسلطة الآخر، وينسى، في لحظة من اللحظات، أنّ أجداده وآباءه أنفسهم كانوا يعيشون تحت استعمار، لفترة طالت أكثر من قرن من الزّمن، كما لو أنه يُحاول التّخلص مما تعرّض له في ماضيه، من عارٍ وقمع، بإسقاطه على الإفريقي الأسود، هو يبحث عن ضحية جديدة يُلقي عليها آثامه وخطاياه، ويمسح فيها سكين الآلام التي تعرّض لها أجداده. هو لا ينظر إليه قطعاً كرجل حرّ، ، بل كشخص عليه واجبات وليس له سوى الحدّ الأدنى من الحقوق، يتعامل معه كشخص يعيش تحت سلطة الآخر، ويجب عليه أن يتقبّل «علوية» الجزائرية الوهمية عليه. هذا المنطق يُحيله بالضرّورة إلى إعادة التّفكير في ماضي الإفريقي، الذي مورست عليه العبودية، ويعيد الجزائري قذفه بكلمات ونعوت مستوردة من سوق النّخاسة قديماً، معتقداً أن الأفريقي، الذي قطع أشواطاً مهمّة، في تطوير نفسه، وفي بلوغ مراتب التّحضّر، التي تتجاوز أحياناً ما وصل إليه الجزائري، ما يزال قابعاً في حيّز الظّلام والعبودية، الذي فرضه المُستعمر الأوروبي على أجداده الأفارقة قبل أكثر من قرن من الآن.
لقد حاول فرانز فانون، في كتابه «بشرة بيضاء، أقنعة سوداء» (1952) تفكيك الكليشيهات، التي ارتبطت بصورة الرجل الأسود، وأشار إلى أن تحرر الأسود من عقده لن يتم سوى بوعي جمعي وليس فرديا، أي أن يتربط الأسود بالجماعة في إعادة النّظر لنفسها مقارنة بالرجل الأبيض، ووجه القارئ الحاذق لإعادة التّفكير في نقاط مهمة من تاريخ السّود، الذي كتبه البيض، لكن كتابات فرانز فانون ليست مقروءة من طرف العامّة، لهذا تبقى أفكاره حكراً على طبقة من المثقفين، الذين فشلوا هم أيضاً في إعادة توجيه نظرة الجزائري العادي المحتقرة للإفريقي الأسود، بل إن بعض المثقفين – للأسف – شاركوا، في الأسابيع الماضية، في كرنفال العنصرية المتجدّدة تجاه لاجئين أفارقة، ورافقهم في ذلك مسؤولون سامون في الدّولة الجزائرية اعتبروا أن اللاجئين، الذين قدموا إلى البلاد، هرباً من ظروف صعبة في أوطانهم، يحملون معهم الأمراض والمخدرات، هل كان هؤلاء المسؤولون سيقولون الكلام نفسه عن لاجئين من بشرة بيضاء الإجابة: لا.
وتزداد عنصرية الجزائري تجاه الإفريقي حين يستعيد الكليشه الكولونيالي، الأكثر إذلالاً، الذي يفترض بأن الإفريقي الأسود غير متحضّر، وتصرّفاته أقرب لحياة الأدغال، مع العلم أن هذا الكليشيه نفسه استخدمه المُستعمر لتبرير حملته الكولونيالية على الجزائر. لهذا فإن إي أفريقي أسود، في الجزائر، مهما حقّق من إنجازات مهنية، ومن نجاحات، فإنه بالضّرورة لن يصل مرتبة عليا، لن يتقبّله المجتمع، سيظلّ مقهوراً في الأوساط المهنية الاجتماعية، بسبب لون بشرته.
هذه الكليشيهات التي يحملها الجزائري تجاه الإفريقي الأسود استمدها مما سمعه وما يدور حوله من حكايات ونكت بين عامة الناس، التي تتخذ من الإفريقي الأسود موضوعا للتّندر والسّخرية، ولم يضعها يوماً في ميزان مُساءلة صريحة حول حقيقتها ومدى مصداقيتها.
إنّ العنصرية، المتجذّرة في عقل الجزائري تجاه الإفريقي الأسود، قد تقود لعنف وعنف مضادّ، قد تسبب قطيعة بين الطّرفين، وقد تتحول أيضاً لعنصرية من الإفريقي الأسود تجاه الجزائري، حينها سيكون الوقت قد فات لإعادة ترتيب وضع طبيعي بين الطّرفين.
في الواقع، لن نتكّل كثيراً على السّياسة ولا على الدبلوماسية لتصحيح النّظرة الدّونية الخاطئة التي يحملها الجزائري تجاه نظيره الأسود، فالجزائر الرّسمية بنت سوراً غير مرئي في علاقاتها مع الجوار الإفريقي، الجزائر التي كانت، قبل أربعين عاماً، «كعبة» الحركات التّحريرية في أفريقيا، تنازلت عن دورها ووسّعت من هواة تواصلها مع دول إفريقية، بل ننتظر أن يلعب الأدب دوره في التّقريب بين وجهات النّظر، فالإفريقي الأسود يكاد يكون حضوره محتشماً في الأدب الجزائري، يظهر أحياناً، بشكل سطحي، وأحياناً أخرى يظهر في شخصيات يتعاطف معها المؤلف، بشكل مفرط. إن القطعية بين الجزائري والأدب الإفــــريقي أيضاً من الموضوعات الأكثر غرابة، فالجــــزائري يقرأ لكتّاب من أوروبا ومن أمريكا اللاتينية ومن اليابان، لكنه بالكاد يعرف شيئاً مما يحصل من كتابات في قارته، لقد حاولت الجــزائر، قبل ثماني سنوات، بعـــث هذه العلاقة الأدبية المفقودة، بتنظيم المهرجان الثّقافي الإفريقي (2009)، لكن التّظاهرة لم تخرج من المناسباتية، انتهى مفعولها بمجرد انتهاء أيامها، ومع ذلك اليوم مع ارتفاع حدّة العنصرية، وإمكانية أن تتحوّل إلى سلاح ضدّ الجزائر نفسها، ألم يعد الأمر عاجلاً لانفتاح أدبي صارم وصريح نحو إفريقيا، لإعادة التّخلص من الكليشيهات والتخلّص ـ بالتالي ـ من الذّهنية الكولونيالية، التي ما تزال تعشش في الجزائر، وتحرير الجزائري في الأخير من ثقل الماضي الذي يسيطر على مخيّلته؟

٭ روائي جزائري

مداواة العنصرية بالأدب

سعيد خطيبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية