الرباط ـ «القدس العربي»: حين تجتمع العراقة بالتاريخ والسياحة والبحر وخيرات الأرض الزراعية والخيل والفانتازيا فأنت أمام مدينة «الجديدة» المغربية. هذه المدينة التي حملت عبر التاريخ العديد من الأسماء لكنها استقرت على اسم «الجديدة» وهي كذلك دائما جديدة براقة في أعين الزائرين رغم قلاعها وأسوارها الممتدة قرونا في الزمن.
جغرافيا تبعد عن الدار البيضاء بحوالي 100 كلمتر جنوبا. موقعها أشبه ما يكون بشبه جزيرة على المحيط الأطلسي. تحدها أيضا مدن أزمور وأسفي، ولا يمكن ذكر مدينة الجديدة دون ذكر جهة «دكالة عبدة» أحد أنشط وأكبر المناطق الزراعية والفلاحية في المغرب على الإطلاق، فالجديدة هي عاصمة جهة دكالة عبدة. جهة الأرض والقمح والزرع والخضار والفاكهة والماشية والأغنام. الجهة التي تكاد تكون صمام أمان غذاء المغاربة من عطاء الطبيعة.
مدينة بأسماء عديدة
تقول بعض المراجع التاريخية أنها حملت إبان الحكم الروماني اسم «روزيبيس» حسب ما جاء في وصف الرحالة بتوليميوس. وسميت أيضا بالبريجة تحريفا لاسم آخر حملته هو «برج الشيخ» وهو برج قديم كان يعتكف فيه أحد المتصوفة، ويحكى أن سفنا برتغالية قادمة عبر المحيط الأطلسي رست هناك أول مرة . ومع الاستعمار البرتغالي في بداية القرن 16 حملت المدينة لأكثر من قرنين من الزمن أحد أشهر أسمائها «مازغان» وهنا يوضح لـ»القدس العربي» الباحث المغربي في الثرات المغربي ـ البرتغالي أبو القاسم الشبري قائلا: «يخطئ من يعتقد أن أسم «مازغاو» أي مازغان هو إسم برتغالي. الحقيقة التاريخية والأصل اللغوي يؤكدان مغربية الإسم، ذاك الإسم ذو الاشتقاق الأمازيغي المغربي، وهو «مازيغن» الذي ورد في مصادر العصر الوسيط، ابتداء من القرن 11 على الأقل، من مصادر مغربية عربية وحتى أوروبية».
وفي حضرة البرتغاليين عرفت «مازغان» نموا حضاريا وازدهارا عمرانيا وتقوت مكانتها الاقتصادية حوالي 260 سنة إلى أن استطاع السلطان محمد بن عبد الله العلوي سنة 1769ميلادية بعد حصار استمر شهرين تحريرها من قبضة المستعمر البرتغالي. لكن البرتغاليين قبل المغادرة نهجوا سياسة «الأرض المحروقة» وفجروا عدة قنابل في المدينة أسقطت الكثير من مبانيها وقلاعها وأخليت عن بكرة أبيها لتحمل من جديد اسما آخر هو «المهدومة» . وبعد حوالي 60 سنة من حملها لهذا الاسم أمر السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام سنة 1980 بإعادة إعمار المدينة من جديد فتم ترميم المهدوم منها وبناء مساجد وطرق مع الحفاظ على الطابع البرتغالي فبعثت المدينة من جديد ودبت فيها الروح وأطلق عليها اسم «الجديدة» لجدتها آنذاك وميلادها من جديد. ومع فرض الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912 عادت مرة أخرى لاسمها القديم «مازغان» على يد الفرنسيين. لكنها من جديد وبنيل المغرب استقلاله من فرنسا سنة 1956 عانقت مرة أخرى اسم «الجديدة» الذي ظل يلازمها إلى الآن.
تتعدد الروايات عن كيف وصل البرتغاليون إلى المدينة أول مرة، لكن المؤكد تاريخيا أن أهميتها الزراعية وخصوبة أرضها المعطاء في محيط المدينة الذي يخترقه واد «أم الربيع» أحد أكبر وأغزر وديان المغرب ومن جهة أخرى أهميتها في التجارة البحرية هو ما أغرى البرتغاليين باختيارها حصنا ومقاما لهم.
ويحكى أن أسطولا برتغاليا كان عائدا منهزما من معركة له في شمال المغرب فاعترضته عاصفة هوجاء في المحيط اضطرت سفنه إلى التوقف قليلا على الشاطئ فوجدوا أنفسهم أمام «برج الشيخ» وهناك قرروا البقاء بعد أن شجعهم فراغ المكان حيث تركوا بضعة من رجالهم وأكملوا الإبحار نحو لشبونة حيث أذن لهم الملك البرتغالي جورج دي ميلو بالعودة لأجل تشييد حصن منيع لهم. لكنهم جوبهوا هذه المرة بمقاومة شرسة من الساكنة. ففر جلهم نحو البرتغال. وبعد سنوات قليلة عادوا أكثر عددا وقوة وإصرارا على احتلال المدينة.
وعن هذه اللحظة الدقيقة من تاريخ المدينة يضيف الباحث المغربي في الآثار أبو القاسم الشبري قائلا: كان البرتغاليون أول ما خرجوا من ديارهم بحثا عن أسواق جديدة قد احتلوا بقوة النار والمدافع الثقيلة مدينة سبتة المغربية بالبحر المتوسط في 21 آب/أغسطس 1415. وبعد ذلك جابوا شواطئ المغرب إلى رأس بوجدور بالصحراء ثم عادوا ليحتلوا عددا من مدن الساحل المتوسطي والأطلسي. وفي هذا الإطار جاء احتلال الجديدة في 1502 وأزمور بجوارها جهة الشمال سنة 1513 وأسفي جنوبها سنة 1508. غير أن البرتغاليين لن يطيب لهم المقام الطويل في تلك المدن فتم جلاؤهم عنها في آجال قصيرة، باستثناء مازغان/الجديدة التي مكثوا فيها لقرنين ونصف القرن».
القلعة أو الحي البرتغالي
هي من أول ما يسأل عنه الزائر لمدينة الجديدة وإليها يشد الرحال عشاق التنقيب في التاريخ وبصمات المعمار البرتغالي العريق. تحظى باهتمام السائح الأجنبي ولا تخلو كتيبات الإرشاد السياحي في المغرب من صورها وذكرها. خصوصا وأنها شكلت على مر التاريخ نموذجا للتعايش بين الديانات الثلاث وبين مختلف اللغات والثقافات فمعمارها يمزج بين ماهو روماني وإسلامي وإسباني برتغالي وسكنها العرب والبرتغاليون والأمازيغ واليهود والمسلمون والمسيحيون، ومنها تم إعلان كافة التسميات التي أطلقت على المدينة. تطل أبراج القلعة على المحيط الأطلسي في مشهد بديع زاد من سحره جغرافية المنطقة الشبه دائرية على شكل شبه جزيرة، وضع تصميم القلعة الأولي الأخوين «فوانسيسكو ودييكو دوارودا» وهما مهندسان برتغاليان ارتبط اسمهما بالاستعمار البرتغالي للمدن المغربية. يقول عن القلعة الباحث في آثار المدينة أبي القاسم الشبري: «لم يكن في المدينة تقريبا معمار يستحق الذكر فحولها البرتغاليون إلى قلعة عسكرية منيعة استعصت على عتاة العساكر. في البدء (1514) بنوا حصنا صغيرا محاطا بأربعة أبراج دائرية وهي المعلمة المسماة اليوم «المسقاة البرتغالية»، تحفة هندسية ومعمارية لا مثيل لها في كل الإمبراطورية البرتغالية. وبعد طردهم من أكادير وأسفي وأزمور سنة 1541 قام ملك البرتغال بتوسعة الحصن فجعله قلعة كبيرة اختطها المهندس الإيطالي «بِنِديتو دي رافينا» فكانت أول قلعة من نوعها يبنيها الأوروبيون خارج أوروبا، وخاصة في أفريقيا.
خصوصيات هذه القلعة كثيرة نذكر منها أسوارها المعقوفة في وسطها نحو الداخل وضخامتها التي تجعل سمكها يفوق عشرة 10 أمتار وكذا أبراجها الضخمة الشاسعة حيث كل برج يشكل لوحده مجمعا عسكريا قائما بذاته. كما تميزت هذه القلعة بإحاطتها كليا بخندق تملَؤه مياه البحر المحيط بعمق أربعة أمتار وعرض حوالي عشرين مترا. ولذلك أيضا انفردت بتوفرها على قنطرة متحركة تُلقى فوق الخندق عند المدخل الوحيد للقلعة، الباب الرئيسي.
موقعها الاستراتيجي وجمال معمارها أهل القلعة لتحظى بعناية خاصة من طرف المنظمات الدولية ومنها منظمة اليونيسكو التي اختارتها كأحد أجمل وأهم البنايات التاريخية في العالم وسجلت ضمن الثرات العالمي المادي.
المسقاة البرتغالية
ويتوسط القلعة إضافة إلى المنازل العتيقة والكنائس والمساجد والمتاحف تحفة معمارية منحت المدينة شهرة خاصة ولا تخلو البطاقات البريدية الخاصة بالمدينة وأيضا مجلات المغرب السياحية من صورها. هذه التحفة تسمى «المسقاة البرتغالية» أو «صهريج مازغان» وهي عبارة عن صهريج ضخم بني تحت الأرض يبلغ طوله نحو 35 مترا وعرضه نحو 33 مترا. سقف المسقاة عبارة عن قباب مقوسة الشكل يربطها بالأرض 25 عمودا من الحجر القوي القديم، واستعملت قديما كمكان سري لتجميع مياه الأمطار وكمخزن للسلاح والمؤونة التي تأتي من مناطق دكالة قبل أن يتم تصديرها إلى البرتغال. ويذكر المؤرخون أن هذا المكان ظل مجهولا ومختفيا عن الأنظار بعد جلاء الاستعمار البرتغالي حتى اكتشفه صدفة تاجر مغربي يهودي كان يقوم بأعمال حفر وتوسعة لمحله التجاري المجاور للمسقاة فانهمرت عليه مياه غزيرة من حيث لا يدري. وبهذا اكتشفت المسقاة التي يعطي انعكاس الضوء المتسرب من سقفها المقبب على أرضيتها الندية مخترقا منظر الأقواس المتداخلة مشهدا حالما بامتياز دفع بمخرجين عالميين إلى الاستعانة بها في أفلام سينمائية عالمية مثل فيلم «عطيل» للمخرج «أورسن ويلز». وهي أيضا ملهم للكثير من الفنانين التشكيليين العالميين ومن أكثر الأماكن زيارة وشهرة في قلب الحصن البرتغالي.
من المهدومة» إلى «الجديدة»
غير أن حركة البناء والازدهار العمراني لم تقتصر على فترة التواجد البرتغالي خصوصا بعد الخراب الذي لحق بها نتيجة الحرق الذي أصاب المدينة على يد البرتغاليين حين انسحابهم بل عمل السلطان عبد الرحمان بن هشام الذي انتشلها من الخراب وخلصها من اسم «المهدومة» ومنحها اسم «الجديدة» على إضافة اللمسة الأندلسية والمغربية والعربية على معمار المدينة يضيف الباحث أبي القاسم الشبري: «رفع فيها السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام بين 1823 و1825 المسجد الأعظم قبالة الكنيسة الكبيرة في رمزية لا تحتاج إلى شرح. وهذا السلطان هو الذي اسكن فيها المسلمين واليهود والمغاربة والذين سيجاورهم تجار أوروبيون وحتى بعض القناصلة. ففي القرن التاسع عشر أضحت الجديدة مدينة تجارية عظمى ومرفأ بحريا من أنشط موانئ المغرب، تلك الموانئ التي ستتهاوى أمام قوة ميناء الدار البيضاء الذي استحدثه المقيم العام ليوطي منذ 1913ميلادية بعد احتلال فرنسا للمغرب وفترة الاحتلال الفرنسي خلفت بالجديدة عددا لا يستهان به من المباني التي تعد بحق تحفا معمارية من قبيل فرع بنك المغرب ومسرح محمد سعيد عفيفي «المسرح البلدي سابقا» والبريد المركزي وغيرها كثير.
عودة اسم «مازغان»
ظلت الجديدة في مناسبات كثيرة وفية لأحد أسمائها القديمة «مازغان» وهو الاسم الذي عاد بقوة لكن من باب الثراء وسياحة المشاهير وأثرياء العالم والنخبة أو بلغة الاقتصاد «سياحة الكتلة» ففي سنة 2009 وضمن مخطط مغربي سياحي أولته الحكومة المغربية اهتماما كبيرا وميزانيات ضخمة بشراكة مع مجموعة عقارية إماراتية، اتجهت أنظار أثرياء العالم نحو منتجع سياحي ضخم حمل أسم «محطة مازغان» تيمنا باسم المدينة القديم الذي سيقام فيها، وهو عبارة عن وحدة فندقية من 500 غرفة و150 فيلا فندقية من صنف خمس نجوم وتحيط به غابات شاسعة على مساحة أكثر من 500 هكتار جوار المحيط الأطلسي بين الجارتين أزمور والجديدة يقصد هذا المنتجع كبار أهل الفن في العالم والأثرياء والملوك لقضاء فترات نقاهتهم وسط غاباته نسيمه العليل ولأجل الاستمتاع بزرقة المحيط وسواحله الذهبية. ويتوفر على المنتجع على ملاعب غولف ومطاعم وملاهي وكازينو. وتنظم فيه «ليالي مازغان» أحد أبرز الأحداث الفنية التي يعرفها المغرب التي يحيي حفلاتها الفنية غناء وعروض أزياء نجوم عالميين وعرب. واختير المنتجع من مجلات سياحية عالمية كأهم قطب سياحي في أفريقيا وحمل لقب «الأفضل في المغرب» خلال مسابقة جائزة السفر العالمية.
شواطئ وخيل وليل وفروسية
تفتح الجديدة ذراعيها لأثرياء العالم من بوابة «منتجع مازغان» لكنها أيضا مدينة المهرجانات و»المواسم» الثقافية والتظاهرات الشعبية التي تستقطب سيولا بشرية خصوصا فترة الصيف. وترتبط في مخيال الكثير من المغاربة بمدينة الخير والزرع و «النشاط» وأكلة «الكسكسي» المغربية الدكالية الأصل. وتوصف أيضا بعاصمة «التبوريدة».
و»التبوريدة» هي طقس احتفالي وفلكلور مغربي عريق يعني سربا من الفرسان بلباس أصيل ومميز يحملون بنادق معبأة بمادة «البارود» من على خيول قوية من الصنف الجيد يقدمون عرضا في ساحة كبيرة على أنغام مواويل و»عيوط» وأغاني شعبية حيث تنطلق الخيول بقوة وسرعة وعلى السرب أن يطلق في اللحظة نفسها فرقعات البارود في الأعلى من فوهات بنادقه. ولطالما أعطى أهل دكالة أهمية قصوى للفرس وشكلت التبوريدة أحدى مظاهر الاحتفاء بالمواسم الزراعية الناجحة أو ما يطلق عليه بـ «موسم الصابا» وعلية القبائل هم من يمتلكون خيولا وبنادق ويتقنون فن التبوريدة.
وتتوفر الجديدة على معرض دولي للفرس بلغ هذه السنة دورته الثامنة ويمتد على مساحة تفوق 46 هكتارا يتم فيه عرض أجود وأندر أصناف الخيول وكذا لباس وعدة الفرسان. وتقام فيه عروض لفن التبوريدة على مساحات 7 هكتار تتبارى فيها عشرات «السرب» لنيل البطولة الدولية للخيول البربرية والبطولة الوطنية للخيول العربية وتنظم فيه أيضا مباراة دولية لجمال الخيول العربية الأصيلة ومباراة للقفز على الحواجز وعشرات الأنشطة الأخرى الترفيهية ويزور المعرض الآلاف سنويا من مدن مغربية أخرى.
كما يعد موسم «مولاي عبد الله أمغار» وهو عبارة عن ضريح لأحد الأولياء المقدسين عند قبائل دكالة وهو من أبرز التظاهرات الثقافية والدينية في المغرب وتعد مقصدا للسياحة الداخلية حيث ينصب على جنباته الزوار الآلاف من الخيام سنويا وتقام فيه عروض الفروسية أو «التبوريدة».
تستقطب أيضا شواطئ المدينة الآلاف من المصطافين سنويا من مختلف شرائح المجتمع المغربي غنيه أو فقيره. من أشهر شواطئها شاطئ سيدي بوزيد وسيدي موسى والحوزية ومريزيقة وشاطئ الواليدية الذي اشتهر بزراعة أصنف أجود المحار البحري بمزارع مصنفة ومراكز مراقبة طبية، وتشتهر منطقة الواليدية في الــجــديدة باســـم «عاصمة المحار والــصـدف البحري» وتعــتبر أيضا شواطئ الجديدة مصدرا للطحالب التي تستعمل لأغراض صيدلية.
تعتبر جهة «دكالة» المغربية بعاصمتها «الجديدة» من أكثر المناطق في المغرب حضورا في الأغاني الشعبية المغربية وفن العيطة التراثي الأصيل المحتفي بالأرض والماء والعطاء. وصفها أبي القاسم الشبري صاحب كتاب «دكالة وإيــالتها. جهة دكالة- عبدة، تاريخ وآثار» بعروس الشواطئ قائلا «هي فعلا عروس الأطلسي، المدينة الكونية التي وُلدت عالمية وعاشت عالمية».
فاطمة بوغنبور
مدينة رائعة!