مدينة الرواية المصرية

حجم الخط
2

خلال إقامة في القاهرة استغرقت عشرة أيام (بعد غياب!)، قرأت روايات ممتازة، وأستخدم الصفة هذه بلا تردد: أعمال رفيعة في مشروعاتها الفنية، أو مغامراتها بالأحرى، من حيث المحتوى والشكل، الأبنية وطرائق السرد واللغات والخيارات الأسلوبية؛ وتجريبية بمعنى الطموح إلى التجديد والتجاوز ومقاربة العصر ومناوشته، في آن معاً؛ وشابة، أيضاً، في مستوى الشرائح العمرية والحساسية الكتابية. وأرجو، حقاً، أن أذلل من الوقت ما يكفي لتثمين هذه الروايات، تباعاً، والسعي إلى استكشاف ما تكرّسه من ظاهرات فنية حين تؤخذ في سياقاتها المشتركة، بعد السياقات الانفرادية.
وكنت، قبل سنة ونيف، قد قرأت نموذجاً متقدماً من هذه الأعمال الجديدة، وأقصد رواية نائل الطوخي البديعة «نساء الكرنتينا»، 2013؛ وأدرجت دراستها ضمن ورقتي إلى ملتقى القاهرة الدولي السادس للرواية العربية، الذي عُقد مؤخراً؛ فكانت سابع رواية مصرية اعتمدتها لمناقشة موضوع المرئيات والمرويات في مدينة الإسكندرية (الأعمال الأخرى كانت «ترابها زعفران»، «اسكندريتي»، و «يا بنات اسكندرية»، لإدوار الخراط؛ و»لا أحد ينام في الإسكندرية»، «الإسكندرية في غيمة»، و «طيور العنبر»، لإبراهيم عبد المجيد). وقد انطلقت الورقة من واقع الجاذبية العالية التي تمتعت بها الإسكندرية لدى أجيال مختلفة من الروائيين المصريين، فتحوّلت جغرافيتها إلى ميدان سرد فسيح متشابك، ومتقاطع؛ حتى أن أحياءها الكبرى، وربما بعض شوارعها أيضاً، اتخذت صفة الشخصيات الروائية، والأنماط الإنسانية العليا.
من جانب آخر، كان طبيعياً أن تصبح الرحابة الكوزموبوليتية، التي اتصفت بها المدينة، على مرّ التاريخ في الواقع، بمثابة حاضنة خصبة لاستيلاد تمثيلات ثقافية وسوسويولوجية، واستنهاض خلفيات تاريخية وأنثروبولوجية، لا تتجاور مع المخيلة الروائية، فحسب، بل تتنافس معها أحياناً. وإذا كانت التمثيلات والخلفيات، تلك، قد كفلت استدراج مشهد الإسكندرية الزاخر، البشري والمعيشي، الظاهر والباطن، المادي والمجازي، ضمن المستويات المتعددة والتعددية التي تتخذها مرئيات المدينة؛ فإنّ السرد، في المقابل، التقط المرويات الغزيرة التي ظلت تعتمل في باطن الإسكندرية العميق، فروى حكاياتها وشخوصها ورموزها وأساطيرها، وكذلك اجتماعها السياسي، وأفلح في ترقيتها إلى مصافّ سرديات كبرى، وكونية استطراداً.
والبحث سعى إلى استقراء هذه المعادلة، من خلال ترسيم خمسة وجوه للإسكندرية: مدينة الهوية، مدينة الذاكرة، مدينة المنفى، مدينة القرية، ومدينة الأسطورة؛ عبر استكشاف أسلوب مركزي مميّز السمات، لكلّ من الروائيين الثلاثة: الحكي العجائبي، والسرد على هيئة المونتاج، عند الخراط؛ وأسلوبية المؤلف/ السارد الذي يشهد على التاريخ ويستشهد بأرشيفاته، عند عبدالمجيد؛ وأسلوبية ترحيل الحاضر إلى المستقبل وتمكين البشر من خلق أساطيرهم في دورات تاريخ منفلتة من منطق التعاقب، عند الطوخي. والمسعى احتاج، في هذا، إلى تسخير منهجيتين في تحليل السرود: «الجغرافيا المتخيَّلة»، كما ناقشها إدوارد سعيد وهنري لوفيفر؛ و «النقد الجغرافي» عند الفرنسي برنار وستفال.
لن أطيل، أكثر، حول هذه الورقة لإني أرجو، هنا أيضاً، أن أفلح في استكمالها على نحو يجعل صيغتها الراهنة، الملائمة للمناقشة خلال جلسة واحدة ضمن مؤتمر حاشد، صالحة للنشر على نطاق قرائي أوسع. أسجّل، مع ذلك، بهجة شخصية خاصة صنعتها جملة ملاحظات تخصّ حضور المدينة المصرية في الروايات الجديدة التي ألمحت إليها هنا. ثمة توظيف مدهش لعناصر شتى، متداخلة ومتراكبة ومتقاطعة، دون ان تكون متناقضة في الواقع: تراثية، وأسطورية، ورمزية، وأنثروبولوجية، وفولكلورية؛ بعضها واقعي، لكنه لا يحاكي الواقع بقدر ما يتنازع مع سردياته، خاصة المكرسة منها؛ وبعضها ـ أو الكثير منها، للدقة! ـ عجائبي غرائبي، لا يذلّ الواقع الفعلي بقدر ما يذلل معطياته في عديد من أنساق التوظيف البارعة، الانتهاكية والتجاوزية غالباً.
وعلى غرار الإسكندرية، ثمة في كلّ مدينة أكثر من وجه وصورة وقاع وسطح، بل ثمة من تجلياتها ما يكفي كلّ قلم وعدسة وريشة وبصر وبصيرة. وفي كتابه الممتاز «إسكندرية كافافي: دراسة في أسطورة متواصلة»، يثير الناقد الأمريكي إدموند كييلي طائفة معقدة ومتشابكة من الأسئلة التي تنبثق من، وتدور جوهرياً حول، ذلك السؤال الأكبر: أية إسكندرية تلك التي تسكن شعر كافافيس؟ هل هي إسكندرية ذلك المنفيّ الهيلليني القادم إليها من القسطنطينية، في قصيدة «المنفيّون»، والذي رفع المكان إلى مصافّ مدينة المخيّلة، والمدينة التي تستجيب أكثر للرمز الأعلى وللنمط الكوني؟ أم هي الإسكندرية التي يكمن سرّها في أنها «مخلوقة مدن شعرية نُحتت على صورتها، وتحاكيها ما أمكن، أو حتى ما يجب أن يكون، في الجوهر»؟
الأرجح انّ هذه الأسئلة، جميعها وسواها، تُثار أيضاً عند التعمق في مدينة الرواية المصرية المعاصرة، الشابة، والمغامرة، والناضجة؛ الجديدة حقاً، قلباً وقالباً، كما يتوجب القول!

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حي يقظان:

    قسطنطين كافافيس حاول أن يعبر في شعره عن التقاء تاريخي حميم بين عالمين قديمين، عالم اليونان القديم وعالم الشرق الأوسط القديم، خصوصًا وأن الأدب الذي يمكن وصفه بـ«الأدب الإسكندراني» كان مهادًا خصبًا لكل من المسيحية (الأرثوذكسية) والإسلام، ولتطلعات الشعوب التي اعتنقت هذين نحو الكمال الإنساني.

    وفي ظني أن التصورين المكانيين المحتملين اللذين طرحهما إدموند كييلي في إطار سؤاله الأكبر، «أية إسكندرية تلك التي تسكن شعر كافافيس؟»، إنما يكمنان في تلك العلاقة الجدلية التي تنجم عن خلق أحد هذين التصورين المكانيين من الفرح وخلق الآخر من الحزن. وقد عبر كافافيس عن هذه العلاقة الجدلية خير تعبير في هذا المقطع الشعري الذي يذكِّر ببيت المتنبي الشهير، «لكِ يا منازلُ في القلوبِ منازلُ / أقفرْتِ أنتِ وهُنَّ منكِ أواهِلُ»:

    يا محيطَ الدار، الساحات، الحي،
    الذي أراه وفيه أسيرُ سنينَ، سنين.

    لقد خلقتُكَ من قلب الفرح ومن قلب الأحزان:
    عِبْر حوادث شتى، عِبْر أشياء كثيرة.

    وها قد استحلتَ بأسركَ شعورًا، من أجلي.

    [من مجموعتة «في المكان نفسه»، 147، 1929]

  2. يقول حي يقظان:

    قسطنطين كافافيس حاول أن يعبر في شعره عن التقاء تاريخي حميم بين عالمين قديمين، عالم اليونان القديم وعالم الشرق الأوسط القديم، خصوصًا وأن الأدب الذي يمكن وصفه بـ«الأدب الإسكندراني» كان مهادًا خصبًا لكل من المسيحية (الأرثوذكسية) والإسلام، ولتطلعات الشعوب التي اعتنقت هذين الدينين نحو الكمال الإنساني.

    وفي ظني أن التصورين المكانيين المحتملين اللذين طرحهما إدموند كييلي في إطار سؤاله الأكبر، «أية إسكندرية تلك التي تسكن شعر كافافيس؟»، إنما يكمنان في تلك العلاقة الجدلية التي تنجم عن خلق أحد هذين التصورين المكانيين من الفرح وخلق الآخر من الحزن. وقد عبر كافافيس عن هذه العلاقة الجدلية خير تعبير في هذا المقطع الشعري الذي يذكِّر ببيت المتنبي الشهير، «لكِ يا منازلُ في القلوبِ منازلُ / أقفرْتِ أنتِ وهُنَّ منكِ أواهِلُ»:

    يا محيطَ الدار، الساحات، الحي،
    الذي أراه وفيه أسيرُ سنينَ، سنين.

    لقد خلقتُكَ من قلب الفرح ومن قلب الأحزان:
    عِبْر حوادث شتى، عِبْر أشياء كثيرة.

    وها قد استحلتَ بأسركَ شعورًا، من أجلي.

    [من مجموعتة «في المكان نفسه»، 147، 1929]

إشترك في قائمتنا البريدية