البصرة – «القدس العربي»: ما أن لفتنَ انتباهنا حتى وجهنا الكاميرا صوبهن، لكنهن خرجن مسرعات، رافضات أن نلتقط لهنَّ صورة فوتوغرافية حينما أوقدن الشموع طلباً لتحقيق أمنياتهن في كنيسة «أم الأحزان» وسط مدينة العمارة.
لم يكنَّ مسيحيات، بل مسلمات يقدمن النذور لمريم المقدسة في أقدم كنيسة في المدينة، فغير المسيحيين يتوافدون على هذه الكنيسة، التي بقيت وحيدة في أرض المسلمين، لكي يطلبوا ما يحلمون به، أو لقضاء حاجاتهم وسط الخرائب التي تحيط بهم. فلم يبق من محلة التوراة التي تتوسط سوقا شعبيا لبيع البضائع الرخيصة إلا آثار آيلة للإنهيار وهذه الكنيسة.
مركز الله
في محلة صغيرة تتوسط المدينة، تجتمع الديانات السماوية، هنا كنيسة، وفي الزقاق المجاور كنيسة أخرى، وهناك على الطريق المقابل من الشارع معبد يهودي، وفي محلة مجاورة معبد (مندي) للصابئة، فضلاً عن مساجد للمسلمين تتحلق فوق هذه الديانات لتشكل مجتمعة مدينة الله.
ففي زقاق واحد تجلت حكمة الله في قلب مدينة العمارة، الكنيسة في وسط المدينة ما زالت شامخة وجرسها باسق كنخل ميسان، المسجد القديم ما زالت تدب فيه الحياة، التوارة إرث مدني وتاريخي يعكس قيمة المدينة وتنوع أطيافها المذهبية والعرقية، بيوت يغازل الخشب فيها طابوق الدهور العابقة، والحديد ينقش روعة التصميم، ألوان أخذ الزمن منها مأخذه، فغدت باهتة، في انتظار من يعينها على زمانها. هذه المحلة التي كانت الشناشيل تعطيها بريقاً متميزاً، بقيت معلقة في السماء وحيدة، تحيطها بنايات حديثة كان «الكوبوند» يغلفها ليحولها إلى هياكل حديدية لا قيمة فيها ولا جمال.
قال لي دليلي الذي أخذني ليريني بيت طفولته: هنا ولدت، لم نكن نعلم ما الذي يختلف في دياناتنا، فأنا مسلم، وصديقي مسيحي، وحبيبتي التي كنت أتمنى أن أتزوجها حينما نكبر يهودية. عشنا سنوات طويلة ندخل بيوت بعضنا، ونأكل في صحن واحد.
لم ينس هذا الدليل؛ الذي رفض ذكر اسمه، أنه كان يصلي في أماكن العبادة جميعاً، في الصباح في مسجد المحلة الذي لم تبق منه سوى منارة تصدعت على طولها، وفي الظهيرة كانت الكنيسة محطة للقاء الأصدقاء وشرب الشاي، فضلاً عن الدعاء الذي لم يتوقف منذ تأسيسها حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي. فلم يبق صديقي المسيحي، وهربت حبيبتي اليهودية مع من تبقى من عائلتها، ولا يعرف أحد حتى الآن ما الذي حل بهم.
شاعر لم يترك مكانه
أخذني الشاعر نصير الشيخ إلى بيت طفولته الواقع بالقرب من المعبد اليهودي وكنيسة أم الأحزان في محلة التوراة. فعلى الرغم من أن بيته الأول لم يبق منه سوى حائط اصطبغ طابوقه بألوان عدَّة، إلا أنَّه يأتيه بين مدة وأخرى، مع وجود بسطات الباعة المتجولين الذي علَّقوا عليها ملابس الأطفال وبعض فساتين النساء الرخيصة الثمن، فضلاً عن الألعاب التي تباع بسعر لا يتجاوز الدولار الواحد.
غير أن الشيخ لم يقطع صلته بأصدقائه القدامى، خصوصاً وائل ابن قس الكنيسة الذي أخذنا للقاء والده ليتحدث لنا عن تاريخ كنيسة أم الأحزان.
بقايا تاريخ
في حديث خاص، يقول الأب جلال دانيال توما، ممثل المسيحيين في محافظة ميسان (350 كم جنوب شرق بغداد)، إنه لا يمكن أن نحدد تاريخ المسيحيين في المحافظة، فالآثار تدل على أنهم استوطنوا هذه المدينة منذ آلاف السنين، لكن الشيء الملموس أننا وجدنا في هذه الكنيسة (أم الأحزان) التي افتتحت في العام 1880م كتباً ومراسلات ووفيات قبل موعد إعلان تأسيس الكنيسة بقرون طويلة، فهذه الكنيسة ترممت أكثر من مرة، بعد انهيارها والإهمال الذي تتعرض له مع كل زمن.
لكن من خلال جولتنا في الكنيسة يلاحظ أنها لم ترمم فعلاً، بل أعيد إعمارها بعد أن فقدت هويتها وملامحها التي صممت من أجلها، فالحجر الجديد الذي لا يمت إلى الكنائس العراقية القديمة بشيء هو الذي يحتضن الطابوق القديم، فضلاً عن الشمعدانات الجديدة التي تباع في الأسواق الشعبية، والأبواب التي لم تصنع بإتقان. لكن توما يؤكد أنهم قدموا طلباً لمحافظة ميسان من أجل إعادة الكنيسة لشكلها الأول وطرزها المعمارية المعروفة، وربما سيبدأ العمل بها خلال العام المقبل، على حدِّ قوله.
ويؤكد أن هذه الكنيسة كانت مركزاً للمحافظات الجنوبية العراقية، فعلى الرغم من أن مدينة العمارة لا تعد الأكبر مساحة وسكاناً مقارنة بمدينة البصرة، غير أنها كانت مركزاً حقيقياً للمسيحيين الذين يؤمونها من مدن البصرة والناصرية وغيرها، فضلاً عن مسيحيي المدينة. مشيراً إلى أن هذه الكنيسة كانت تضم أكثر من 400 عائلة في مدينة العمارة وحدها قبل سبعينيات القرن الماضي، في حين أنها لا تضم الآن أكثر من 21 عائلة، وبعضها يسعى للرحيل أيضاً.
مسيحيون وطقوس
كانت طقوس الكنيسة، بحسب الأب توما، تقام بشكل أسبوعي، كل يوم أحد، فضلاً عن بعض المناسبات التي تستمر لأيام، غير أن المفارقة التي أدت إلى إيقاف الكثير من الشعائر والاحتفالات هو مناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية لأكثر من سنتين مع شهر محرم وذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع)، وهو ما أدى إلى عدم الاحتفال بهذه المناسبات لأكثر من مرة احتراماً لمشاعر المسلمين، حسب قول توما، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن الكنيسة لو كانت في أماكن غير شيعية لكانت الاحتفالات تقام من دون أي توقف، ولأي سبب كان.
وفيما إذا كانت هناك أكثر من كنيسة في محلة التوراة، يقول توما إن هناك كنيستين، الأولى هي «أم الأحزان» التي ما زالت تفتح أبوابها للمسيحيين والمسلمين على حدٍّ سواء، وكنيسة «مار يوسف» المغلقة منذ سنوات طويلة، ما أدى إلى سكن عدد من العوائل المسيحية فيها لعدم إقامة الطقوس الدينية فيها.
وهي كنيسة للسريان الكاثوليك وقد بنيت في العام 1940 على يد عائلة المرحوم حنا الشيخ، وقد نقلت قبور حنا الشيخ وزوجته والعائلة إلى داخل الكنيسة، وهي الآن مهملة وآيلة للسقوط. ويؤكد توما أن محافظ ميسان قام بزيارتها وخصص مبلغا قدره (400) مليون دينار لإعادة تأهيلها، كما قام السيد وزير السياحة والآثار بزيارة الكنيسة وقد تم تشكيل فريق عمل مؤلفا من محافظ ميسان ودائرة الآثار ومهندسين متخصصين لإعادة بناء الكنيسة وتأهيلها على صورتها القديمة.
وبالرغم من محافظة الأب توما على كنيسته وإعادة ترميمها، إلا أن اليهود العراقيين لم يتمكنوا من ذلك، فهجروا معابدهم وديرتهم، لتترك عرضة للإنهيار، فلم يبق من دير اليهود المقابل للكنيسة سوى طابوق بقايا حائط قديم وباب حديد تلعب فيه الريح ذهاباً وإياباً.
تذكر كتب التاريخ، أن اليهود قدموا إلى مدينة العمارة في عهد الملك البابلي نبوخذ نُصَّر في القرن السادس قبل الميلاد، بعد أن أخذهم إسرى إلى بابل. يتحدث كتاب (يهود العراق) ليعقوب كوريه عن الأماكن التي حرص اليهود في العراق على الحضور والانتشار فيها، بالإضافة الى تعدادهم خلال بعض السنوات، فيقول: «منذ أن توطنوا في هذه البلاد وعلى مر العصور والأزمنة نجد أن اليهود بدأت تحركاتهم رويداً رويداً بالزحف على المناطق المجاورة لبابل طلباً لإيجاد بقعة أرض للسكن فيها، ومحاولة إيجاد مصدر للرزق في جوانبها، وكانت من أوائل المناطق التي قصدتها فصائل منهم بعد تحركهم من بابل الى مناطق الجنوب العراقي في أراضي المنتفك (الناصرية) والبصرة والعمارة، ثم واصلوا زحفهم بعد ذلك إلى بغداد وبقية مناطق الوسط العراقي، فنجد منهم من اتخذ كربلاء والكوت والنجف والديوانية محلاً لإقامته ومركزاً لإدارة تجارته. ولم يكتفوا بذلك، بل اتجهوا إلى الغرب والشمال فكانت بعض مدن الدليم تعج بهم، خاصة في مدينة عانة وراوة وحديثة، وكثير منهم من تلقب باسم المدينة أو القضاء الذي ترعرع فيه، فهناك ألقاب العاني، الراوي، البغدادي، السامرائي، الشهربلي، العمادي، التصقت بهم، وأصبحوا يعرفون بها».
اليهود موجودون في العمارة على مدى آلاف السنين، إلا ان أعدادهم بدأت تتضاءل شيئاً فشيئاً، خصوصاً بعد خمسينيات القرن الماضي، حينما بدأت الهجرة الجماعية من العراق، بعد أن أحسوا بمضايقتهم بعد قوانين ملكية حددت من حرياتهم، ومن ثمَّ لم يتغير الأمر بعد إعلان الجمهورية العراقية في العام 1958، فهاجر أغلبهم إلى إسرائيل أو دول أوروبية.
ورغم هذه الهجرة، إلا أن اليهود العراقيين ما زالوا يحنون لأرضهم الأم، خصوصاً ما يتعلق بمرقد النبي عزرا (ع). يعود بناء المرقد إلى عام 457 – 423م ، أو ما يعرف عند العراقيين بـ (العزير) والذي يقع على الساحل الغربي لنهر دجلة، ويعتقد سكان العمارة أنه المكان الذي دفن فيه العزير، وقد سميت المنطقة التي نشأت حول القبر باسم منطقة العزير.
وهذه المنطقة هي في الأصل مقبرة مشهورة للنبي عزرا لها قبة، ويتصل بفنائها صف من منازل اليهود، وتقع على الشاطئ الأيمن لدجلة في منتصف الطريق بين القرنة وقلعة صالح، على بعد حوالي ثلاثين ميلاً في طريق النهر من كل منهما.
من جانبه، وصف المستر ريج الذي كان قنصلا إنكليزيا في بغداد سنة 1808 م، المرقد بداية القرن التاسع عشر وصفاً دقيقاً، إذ قال «هو بناء يشبه جامعاً يقوم على لسان بارز من النهر، وقد أنشئ هذا اللسان من دورة تدورها دجلة هناك، حيث تلتوي كل الالتواء، وقد التف حول المكان عدد من الأعراب يسكنون قريةً، بيوتها من القصب، ويقوم القبر في منتصف الغرفة، وهو مستطيل الشكل، منحرف السطح، معمول من الخشب، ومسجى بمخمل أخضر طوله 8 قدم، وارتفاعه 6 أقدام، وعرضه 4 أقدام، وبينه وبين كل طرف من أطراف الغرفة 3 أقدام، وكانت زواياه وأعلاه مزدانة بكوة كبيرة من النحاس الأصفر كتب عليها «السلام عليك يا نبيَّ الله يومَ وِلِدت ويومَ تَموتُ ويومَ تُبعثُ حياً» ويسمى بالعربية العزير، وبالعبرية عزرا وترجمتها عون، وبالكلدانية ابدنجو وهو أحد أنبياء اليهود».
الغريب في الأمر أن هذا المرقد تحول لمزار، يقصده الشيعة من كل مكان، تجد في الضريح سجاد الصلاة والمسبحات والترب، فضلاً عن اللافتات التي كتبت عليها بعض مراسيم عاشوراء وصور أئمة الأثني عشرية، وكل ما له علاقة بالدين الإسلامي، حتى بدأت معالم الديانة اليهودية تنمحي من هذا المكان سوى لوحٍ من الفضة عليه كتابات باللغة العبرية، يقول القائمون على المكان إنها أسماء الله لكنها بلغة اليهود القديمة.
صفاء ذياب
العراق بلد التسامح وخاصة اهل الجنوب اهل الطيبة والسلام ولن يغير ذلك خوارج العصر وامراء الحروب . تحية الى اهل العمارة الطيبين
و الله عجيب مسلمات يوقجن شموعا في كنيسة ؟؟؟؟؟؟ هل هن حقا مسلمات و لكن لا عجب في بلد الخرفات و الندب و المشي على الجمر ووووو
جنوب العراق هو الحب والخير والعطاء. حيي الله اهل الجنوب الكرام.