نواكشوط ـ «القدس العربي»: تساليت وما أدراك ما تساليت! إنها المدينة المالية الأزوادية المقاومة التي تحتضنها بشموخ وإباء جبال الصحراء الكبرى الشبيهة في تضاريسها وموقعها الإستراتيجي وتحصينها بجبال فوغاس آدرار التي هي «تورابورا» الساحل الأفريقي.
تعتبر مدينة تساليت التي هي الواحة اليتيمة في المنطقة، الشاهدة الحية على تاريخ طويل لمجموعات الطوارق، وعلى تصاهر خصب بين الأعراق عربا وزنوجا وبربرا وطوارق، وتساليت مع ذلك هي الداعمة الكبرى لمعارك التحرر التي خاضها ويخوضها شعب أزواد ضد المستعمرين من أجل تقرير مصيره الذي لم يتحقق بعد، ضمن الدولة المالية.
ملتقى طرق
تشكل مدينة تساليت رغم الجدب والجفاف، نقطة تمون بالماء النادر في تلك المنطقة الجافة، كما أنها المركز الوحيد الذي يعتمد عليه البداة الرحل العابرون لذلك الجزء الخالي من الصحراء الكبرى في الحصول على مستلزمات الحياة من حبوب ومواد غذائية. وتبعد عن العاصمة باماكو بما يقارب ألفي ميل نحو الجهة الجنوبية الشرقية، فيما تبعد عن الحدود الجزائرية المالية بمسافة 120 كلم.
وتقبع تساليت في منطقة عرفت عبر التاريخ نكبات الجفاف والعزلة وصولات قطاع الطرق وتجوال الإرهابيين.
وفي السنوات الأخيرة تحولت المدينة، إلى رهينة بيد المئات من الطوارق الليبيين الهاربين من ليبيا ما بعد القذافي فهم يسيطرون عليها وعلى المناطق المجاورة لها بسياراتهم العابرة للرمال المملوءة بمختلف أنواع الأسلحة.
سياحة وآفاق
قبل أن يتدهور الأمن في منطقة الساحل، استفادت مدينة ستاليت من عبور السياح الآتين من أوروبا والناشطين بين جنوب الجزائر ومالي.
وتحتضن المدينة منجما للجص ومصنعا للجبس، وتحيط بها منطقة واعدة بمناجم هامة أخرى وفقا لما أكدته الأبحاث والاستكشافات.
غير أن هذه الآفاق الواعدة لم تتقدم وبقيت منافع أرض تساليت مكبوتة لم تستخرج، فقد قضى عليها النشاط الإرهابي الذي استهدف الجزائر أواخر القرن الماضي وتوسع في العقد الأخير ليشمل منطقة الساحل برمتها.
الموقع المتميز
ولمدينة تساليت خصوصيات ثقافية وسياحية كثيرة، غير أن الذي يميزها هو موقعها العسكري الاستراتيجي المتميز حيث أنها تقع وسط سهل حجري قاحل تحيط به مرتفعات عالية توفر رؤية واضحة نحو الجهات الأربع.
وازدادت أهمية هذا الموقع في السنوات الأخيرة بسبب النشاطات الإرهابية التي تنفذها المجموعات المسلحة التي يتبع غالبها لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي فيما يتبع بعضها للمهربين الناشطين في مجال تجارة السجاير والأسلحة والمخدرات.
وتوفر جبال تساليت وجهات دقيقة للمراقبة العسكرية والأمنية الواضحة لمناطق شاسعة للغاية على الحدود بين مالي والجزائر والنيجر، مما يمكن من رصد دقيق لتحركات المجموعات المسلحة. وهذا ما جعل ضابطا فرنسا كبيرا يقول»من وجد موقعا على مرتفعات تساليت فقد امتلك مستلزمات السيطرة على منطقة الساحل والصحراء كلها».
فرنسا تكسب المعركة
بعد صراع طويل مع الولايات المتحدة التي كانت تعد تساليت لإقامة قاعدة «أفريكوم»، تمكنت فرنسا للتو من كسب المعركة حيث أقامت قاعدة عسكرية فيها ما مكنها من استغلال مرتفعات المدينة المطلة على المناطق الحدودية جنوب غرب الجزائر وجنوب شرق مالي وشمال شرق النيجر.
وستمكن هذه القاعدة المجهزة جوا وبرا، الجيش الفرنسي من بسط نفوذه على أكثر المناطق حساسية.
واضطرت الولايات المتحدة للإبقاء على قاعدة «أفريكوم» في ألمانيا إلى حين وجود المكان المناسب لإقامتها، بعد أن كسبت فرنسا القوة الاستعمارية السابقة ثقة الماليين الذين سلموها سهول ومرتفعات تساليت. وتمكنت القوات العسكرية الفرنسية عبر عملية «سرفال» المنفذة في 11 كانون الثاني/يناير 2013 من السيطرة على مجموع المناطق الواقعة جنوب شرق نهر النيجر بما فيها المناطق المحاذية لتساليت.
طقس لا يحتمل
لكن الذي سينغص الحياة على أفراد الجيش الفرنسي والذي سيكدر على القوة الاستعمارية السابقة فوزها بهذا الموقع الاستراتيجي، هو أرض تساليت القاحلة بسبب ندرة الأمطار حيث لا تتجاوز التساقطات المطرية السنوية 68 ملم، فيما لا تنخفض حرارة الطقس عن 40 درجة تحت الظل على مدى سبعة أشهر من السنة، ويكون هذا الطقس محرقا بسبب انعدام الأمطار، خلال الفترة ما بين شهري إبريل/نيسان وتشرين الثاني/نوفمبر من كل عام.
شيء من التاريخ
استوطن سكان تساليت من قبائل الطوارق أو الملثمين، منطقة الصحراء الأفريقية منذ مئات السنين، حيث اكتسبوا صفة «سادة الصحراء» لما أثبتوه من قدرة على مواجهة وتحدي ظروفها الجغرافية والمناخية القاسية، وهم في أسلوب عيشهم ونمط حياتهم البدوية أقرب الناس إلى البدو العرب.
ويطلق عليهم في الكتابات الأوروبية اسم «الرجال الزرق» لكثرة ارتدائهم القماش الأزرق، ويفضل الطوارق أن يطلق عليهم اسم «إيماجغن» أو «تماشق»، وهما مرادفان لتسمية «أمازيغ» ومعناها الرجال الأحرار.
ويتحلى الطوارق بالاستقلالية والاعتزاز بأنفسهم، وهم محاربون أشداء وقد اشتهر فرسانهم في الفتوحات الإسلامية، في عهد المرابطين خاصة، وكانوا القوة الرئيسية للجهد الإسلامي في معركة الزلاقة بالأندلس، وجميعهم مسلمون مالكيون، لكنهم ليسوا على مستوى واحد من التدين.
سكان ولغة ونشاط
للطوارق لغتهم التي يسمونها بـ(التيفيناق) التي يؤكد المؤرخون أنها أصلاً إحدى اللهجات العربية القديمة. وقد حافظ الطوارق على هذه اللغة منذ أزيد من 3500 عام، وتكتب لغة الطوارق بالحروف (الفينيقية) وما تزال حروفها مرقونة في الجبال والكهوف والمغارات، شاهدة على وجود الإنسان الأمازيغي بهذه الصحارى منذ القِدم.
وتذهب بعض التقديرات إلى أن العدد الإجمالي للطوارق يناهز 5. 3 ملايين، 85٪ منهم في مالي والنيجر والبقية بين الجزائر وليبيا، ولهم امتدادات وفروع في بوركينافاسو وكذلك في المغرب وموريتانيا.
مجموعات قبلية
وينقسم الطوارق جغرافياً إلى مجموعتين رئيسيتين، أولاهما طوارق الصحراء في الجنوب الجزائري ومنطقة فزان في ليبيا، وأهم قبائلهم «كل هغار» و»كل آجر» في صحراء الجزائر، ثم «إيمنغاسن» و»أوراغن» و»كل آجر» في فزان ومدينة غدامس الليبية عند ملتقى الحدود مع كل من تونس والجزائر.
أما المجموعة الثانية فهي طوارق الساحل ومنهم قبائل «كل آيير» و»كل يلمدن» في النيجر، و»كل إيترام» و»كل آدرار» و»كل تدمكت» و»كل أنصار» (الأنصار) و»كل السوق» (التجار) وغيرها في جمهورية مالي.
وكل هذه القبائل تشترك في الثقافة نفسها، ومعظمهم عند سؤالهم عن أصلهم يقولون إنهم من أصول حِمْيَرية يمنية، وملامحهم عربية جنوبية واضحة، وإن وجد منهم من يميل إلى السمرة الشديدة فبحكم الاختلاط بالعناصر الأفريقية المسلمة في الجنوب كقبائل «الهوسا» بالنيجر، و»الماندينغ» و»الفولاني» في مالي.
الملثمون الطوارق
درج المؤرخون والرحالة العرب القدامى على تسمية الطوارق بالملثمين، لمحافظتهم الشديدة على هذه العادة منذ فجر التاريخ، حيث يغلب على الطارقي وضع لثام في الحل والترحال ويلفه بإحكام على وجهه حتى لا يظهر سوى العينين، على عكس النساء اللائي يبقين سافرات الوجوه في الغالب.
يقول عنهم ابن خلدون: «الطبقة الآنية من العرب صنهاجة وهم الملثمون القاطنون بالقفار والرمال الصحراوية في المجابات والتنايف والمجاهل هناك منذ دهور قبل الإسلام لا يعرف أولها». ويضيف أنهم ابتعدوا عن العمران «استئناساً بالانفراد وتوحشاً بالعز عن الغلبة والقهر، فنزلوا من ريف الحبشة جوارا وسكنوا ما بين بلاد البربر وبلاد السودان حجزا، واتخذوا اللثام خطاما تميزا بشعاره بين الأمم..».
ويفسر الطوارق عادة «حجاب الرجال» عندهم بأسطورة مفادها أن أكبر قبائلهم ذهب رجالها مرة غزاة يريدون العدو، فجاء العدو من بعدهم إلى خيامهم ولم يكن بالخيام إلا النساء والأطفال ورجل مقعد هرم لكنه حكيم، فأمر ذلك الحكيم النساء أن يلبسن ملابس الرجال ويتلثمن بالعمائم إخفاء لأنوثتهن.
وعندما فعلن ذلك ووقفن وجهاً لوجه مع العدو وبأيديهن السيوف والفؤوس ظهر رجالهن فجأة عائدين لأنهم لم يجدوا العدو وهاجموا الأعداء من الخلف في حين هاجمتهم النساء أيضاً، فانهزم العدو وانتصر الطوارق، ومنذ ذلك اليوم «يوم الملحمة المجيدة» آلى رجالهم على أنفسهم ألا يضعوا اللثام عن رؤوسهم أبداً تخليداً لهذه الذكرى.
لكن التفسير الأقرب إلى العلمية والمنطق، هو أن الظروف المناخية القاسية هي السبب الأساسي للثام الطوارق، حيث العواصف الرملية والأتربة تملأ جو الصحراء معظم السنة، ما استلزم منهم ومن غيرهم من سكان المنطقة أن يتعمموا اتقاء للغبار والزوابع الرملية.
وهذا ما فرض على الضباط الفرنسيين في فرق الهجانة الصحراوية أن يكونوا هم أيضاً ملثمين، حيث أصبح اللثام يأتيهم من مخازن وزارة الدفاع في باريس كجزء من البزة الرسمية الفرنسية المعتمدة.
مهرجان الجمل
مرت في كانون الثاني/يناير الماضي الدورة الثامنة لمهرجان الجمل الذي يحتفل به سكان المنطقة في هذا الشهر من كل عام، فتتحول تساليت في هذا العيد السنوي إلى ملتقى للأهل والعائلات وسوق للتبادل التجاري.
تلتقي في عيد الجمل سفينة الصحراء، الأسر حول كاسات الشاي أو «الأتاي» كما يسمونه محليا، بعد سنوات أو أشهر من الفراق لأسباب كثيرة بينها انتجاع المراعي والمشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تغص بها المنطقة.
ويتبادل الطوارق في أيام مهرجان الجمل الأخبار والمعلومات عن الإبل الضالة وعن المراعي ونقاط الماء.
تراث وتقاليد
أيام مهرجان الجمل في تساليت، هي أيام ثقافية يحيي الطوارق فيها عاداتهم وتقاليدهم ويروي المسنون القصص القديمة في مجالس تستخدم فيها اللغة القديمة، ويتمتع الجميع في ليالي المهرجان بالحفلات الموسيقية الراقصة.
وتشمل الثقافة الطارقية الأمثال والموسيقى والشعر وهي عناصر تحرص تساليت على صيانتها وتثمينها.
ألعاب وتسلية
من الألعاب المسلية في الثقافة التساليتية الطارقية:
– «التسواي»: وهي إمرار اليد على ظهر الشخص بطريقة تجعله يغرق في الضحك، ويتجمع الفضوليون والأطفال حول متقني هذه المهارة للحصول على قهقهات تبدد التعب الطويل.
– «كراي»: وهي لعبة مسلية يتنافس فيها شخصان يتدافعان كرة صغيرة بصولجان.
– «تاكوبا»: وهي رقصة بالسيوف يشارك فيها الرجال والنساء، على أنغام موسيقى قتالية حماسية، وتظهر هذه الرقصة القريبة من «العرضة الخليجية» جذب المرأة للرجل، كما تظهر معاني الحب والقيم الإنسانية والمعنوية للمجتمع التارقي.
سباق وخيام وملكة جمال
أما النشاط الرياضي الأبرز في تساليت فهو سباق الجمال بين فرسان قادمين من مختلف المناطق..وحسب روايات السكان المحليين فإن فرسان منطقة ترست هم الذين يفوزون دوما في هذه السباقات لكونهم أسياد رعي الإبل والخبراء في ركوب الجمال.
ويعتبر الجمل الصديق الأول والأخير لشعب الطوارق فعليه تدور أنشطة الحياة جميعها فهو الراحلة في الأسفار وهو المغيث وهو سيارة الإسعاف.
وتركز المحاضرات والعروض المصاحبة لمهرجان الجمل على تنمية المواشي والصحة الحيوانية ونوعية الألبان وغيرها من شؤون واهتمامات تدور كلها حول الإبل.
ويؤكد إبراهيم رئيس فرقة تناريون الموسيقية التارقية المشهورة «أن نوتاته الموسيقية وأغانيه موضوعة كلها على حركة الجمل وهو يمشي في رحلة طويلة داخل مناطق صامتة معزولة ليس فيها إلا الصخر الكالح».
ومن ضمن المهرجانات التساليتية مهرجان اختيار أحسن خيمة، وتتنافس في هذا المهرجان مئات النساء اللائي يطرزن خيامهن بأبهى الألوان..وتمنح للخيمة الفائزة جائزة كبيرة.
ويعتبر مهرجان اختيار ملكة جمال الصحراء أبرز مناسبة سنوية ينتخب فيها أحسن فتاة طارقية.
كل هذه الأنشطة يمكن للزوار أن يتمتعوا بها وهم يزورون مناطق تساليت وأحياءها، فلسوف يدهشون وهم يرون شعبا غريبا يبتسم رغم صعوبة الطبيعة، ويلعب أطفاله ببعر النوق في براءة وهدوء، فيما تتمتع نساؤه بحرية كبيرة حيث تسمح التقاليد لهن التمتع بحريتهن.
عبد الله مولود