شاركت الصيف الماضي، في جامعة صيفية شبانية كان من بين فعاليتها، النقاش مع مجموعة من الشباب الجزائري، يفترض أن يلتقوا بفرنسيين من جيلهم، للحديث عن الذاكرة والتاريخ المشترك بين الشعبين، لتجاوز المأزق الذي وصله الحوار الجزائري – الفرنسي، حول هذه المواضيع الحساسة بين الكبار والسياسيين.
هالني ما اكتشفته لدى الشباب الجزائري، من تشظ في التعامل مع تاريخهم الوطني، فالقراءة الجهوية المبتورة، كانت هي الحاضرة بين هؤلاء الشباب، مع نفور واضح، من الرؤية الرسمية للتاريخ الوطني، المنتجة من قبل الدولة الوطنية ومؤسساتها الرسمية بعد الاستقلال. نفور تولدت عنه قلة اطلاع على التاريخ الوطني بالذات، وهو ما جعلني اقترح عليهم كحل ممكن، العودة إلى قراءة المذكرات، لعلها تثير اهتمامهم وتساعدهم على الخروج من هذه الانتقائية في التعامل مع ذاكرتهم الوطنية، التي كان يفترض فيهم أنهم ذاهبون للدفاع عنها، مع أبناء جيلهم من الفرنسيين.
بالفعل صدرت مذكرات سياسية مهمة على قلتها في الجزائر، في السنوات الأخيرة كجزء من الاهتمام بالتاريخ. كتبها سياسيون وشخصيات وطنية، فقد كتب الرئيس الشاذلي بن جديد مذكراته، في انتظار جزئها الثاني، بعد صدور الجزء الأول منها، منذ سنوات، تكلم فيه عن حياته لغاية وصوله الى الحكم في 1979، مفندا انتماءه الى الجيش الفرنسي، التي كانت تلصق به كتهمة في السابق. كما كتب الرئيس علي كافي مذكراته السياسية التي لم يتطرق فيها إلى مرحلة الاستقلال. وزير الدفاع خالد نزار، كتب هو الآخر ما يمكن اعتباره مذكرات شخصية، وهو يتكلم عن عدة مراحل من حياته العسكرية والسياسية، منها ما كان مرتبطا بما سمي بالعشرية السوداء، التي كان أحد مسيريها الرئيسيين. ومنها ما كان مرتبطا بدوره كعسكري أثناء ثورة التحرير وحرب 1973 العربية. وهو العسكري الذي ارتبط كذلك بالجيش الفرنسي، باعتباره من الفارين منه أثناء ثورة التحرير.
علي هارون عضو المجلس الأعلى للدولة، وزير حقوق الإنسان، خلال الفترة الصعبة نفسها من تاريخ الجزائر، كتب أكثر من كتاب للحديث عن تجربته السياسية المهمة، يمكن أن نذكر منها مذكراته حول تجربته كوزير لحقوق الإنسان في فترة صعبة من حياة الجزائر، ساد فيها الاعتداء على حقوق الإنسان من كل الأطراف، مؤسسات الدولة والجماعات الإسلامية المسلحة.
مذكرات أخرى مهمة، يمكن إضافتها لهذه القائمة، من بينها ما أصدره الدكتور أحمد طالب الابراهيمي في ثلاثة أجزاء وما كتبه غيره من سياسيين وعسكريين كمذكرات قائد الأركان السابق العقيد طاهر زبيري والأمين العام لوزارة الدفاع الأسبق الجنرال رشيد بن يلس، التي صدرت منذ شهور. وغيرهم من الوجوه السياسية والعسكرية حتى تلك الأقل شهرة، التي لا تمثل بالضرورة القراءة الرسمية السائدة للتاريخ، احتوت على معطيات جيدة، يمكن أن تساعد الجزائريين في فهم تاريخهم والتصالح مع ذاكرتهم الوطنية.
ما هو مشترك بين هذه المذكرات السياسية أنها صدرت كلها في الجزائر، باللغتين العربية والفرنسية. باستثناء عدد قليل جدا منها، كما كان الحال مع مذكرات عبد الحميد الإبراهيمي التي نشرها خلال إقامته بالخارج. مذكرات صدرت، بعد الانفتاح الذي عرفته ساحة النشر في الجزائر، مع بداية التعددية الحزبية في تسعينيات القرن الماضي، نشرت للحديث عن الكثير من المحطات السياسية المهمة كأزمة صيف 1962 وانقلاب 1965 وأزمة 1992 وتداعياتها السياسية والأمنية، إذا اكتفينا بأحداث ما بعد الاستقلال المهمة.
أحداث مهمة أخرى حساسة تم التطرق لها في هذه المذكرات، حصلت أثناء ثورة التحرير، كالاغتيالات التي شهدتها الجزائر، بدون ان تتعرض هذه المذكرات الى الرقابة او المنع، كما كان يحصل في السابق. فقد قرأت على سبيل المثال أن الرئيس بومدين شخصيا، كان يتدخل لمنع مذكرات شخصيات «طلبت رأيه» قبل نشرها أو سمع بها، بحجة أن الوقت لم يحن بعد، وأن الجراح لم تلتئم بعد. وهو ما أدى عمليا الى سيطرة قراءة رسمية جافة للتاريخ، أهملت البعد الإنساني وقزمت القيادات الثورية التي رفض بومدين أن تنافسه رمزيا، وهو على رأس السلطة، خاصة عندما يتعلق الأمر بقيادات تتمتع بشرعية تاريخية، لم تكن حاضرة لدى بومدين بالضرورة بالقدر نفسه.
الأهم من هذه الصراعات الرمزية بين القيادات التاريخية، ما تقوم به المذكرات من تعريف الجزائريين ببعضهم بعضا وشحذ للذاكرة الوطنية. فالمذكرات فرصة لكي يتعرف الجزائري على أجزاء مهمة من تاريخه وشخصياته وجهاته، في مجتمع لا يعرف الناس بعضهم بعضا، خلال هذه المرحلة من تاريخه وحتى بعدها. جهل استعمل ولايزال لتصفية الحسابات السياسية، بين الافراد والقوى السياسية. كما عكسه النقاش الحاصل بين طالب الإبراهيمي وعبد السلام بلعيد، حول دور جمعية العلماء وقياداتها أثناء ثورة التحرير، بعد صدور مذكرات هذا الأخير هذا الصيف. وكما كان الحال دائما بعد صدور الكثير من المذكرات السياسية.
نقاش حصل ما يشبهه، بين مثقفين وصحافيين على صفحات التواصل الاجتماعي، في المدة الاخيرة. فالمتابع لهذا النقاش يكتشف بسهولة ان الجزائريين بمن فيهم المثقفون والإعلاميون، ما زالوا بعيدين عن التوصل الى ذاكرة وطنية تجمعهم، حول دور جمعية العلماء مثلا، أو الحزب الشيوعي أثناء ثورة التحرير. الذاكرة المهشمة حاضرة عندما يتعلق الأمر بالشخصيات، كما هو حال مصالي الحاج الذي مازالت النظرة تتراوح إزاءه بين الزعيم الوطني والعميل والخائن لدى البعض، بعد أكثر من أربعين سنة على وفاته. وضع ينطبق على الأمير عبد القادر قبله وعبد الحميد بن باديس. إذا اكتفينا بهذه الوجوه التي كان يفترض أنها وجوه مؤسسة لهذه الذاكرة الوطنية المشتركة بين الجزائريين، التي يبنى عليها العيش المشترك. تدخل الإنتاج السمعي البصري في السنوات الأخيرة للمساهمة في بناء هذه الذاكرة الجماعية، لم يحل كل المشاكل المطروحة، خاصة لدى الأجيال الصغيرة من الجزائريين الذين أبعدتهم القراءة الرسمية عن تاريخهم، لقلة الإنتاج السينمائي وطابعه الموجه سياسيا، في الكثير من الأحيان، على حساب الجوانب الجمالية والفنية. فهل يجب انتظار ان يُغيب الموت كل الفاعلين التاريخيين، كما هو حاصل مع مجموعة 22 التاريخية، حتى نتصالح مع تاريخنا ونبدأ في خلق أساطيرنا، كما فعلت كل الشعوب قبلنا؟ فقد تكون الشعوب في حاجة إلى اساطير تاريخية وليس إلى فاعلين يكتبون مذكرات وهم على قيد الحياة، يتسوقون ويترجلون في الحارات والشوارع.
كاتب جزائري
ناصر جابي
مقال ممتاز استاذ ناصر جابي..كنت اتمنى فقط لو أنك ارفقت المقال بأسماء دور النشر التي طبعت هذه المذكرات كي يتسنى للقارئ الاطلاع عليها لاهميتها الشديدة…
قراءة المذكرات احد اهم مراحل تبلور الافكار حول ماكان ولماذا كان بذاك الشكل…ولن تقوم جمهورية جزائرية ديمقراطية قوية ومتينة مالم يتصالح الشعب بكل فئاته المثقفة والغير مثقفة مع ذاكرته واعادة كتابة التاريخ دون مبالاغات وجهوية وتسييس وتسمية الاشياء بمسمياتها…
اشكرك جزيل الشكر على هذا المقال الوطني…
مقال رائع. هذا الطرح للمشكل نجده عاما في البلدان العربية لأسباب موضوعية سياسية في الغالب وأخرى ذاتية سياسوية في بعض الأحيان؛ مما يطرح العديد من المشاكل أمام الباحثين والمؤرخين. شكرا للسيد ناصر جابي.