من التقاليد المتبعة في صناعة النشر في الغرب، أن دور النشر تعلن عن تاريخ محدد لصدور كتاب ما قبل فترة طويلة قد تصل إلى بضعة أشهر، في حين يكون الكتاب أصلا مطبوعا، وجاهزا للتوزيع، لكنه لا يوزع بكثافة، وترسل منه نسخ محدودة لأشخاص منتقين، ومعروفين بكتابتهم للمراجعات المهمة للكتب، من أجل قراءته، وكتابة ما يريدونه عنه.
وحين يصدر الكتاب رسميا بعد ذلك، أي توزع نسخه المخزنة الجاهزة بصورة كبيرة، لا يصدر مجهولا، يقلبه البعض في رفوف العرض، أو يطالعون اسمه على مواقع الإنترنت، ويشترونه أو يتركونه، وإنما علم معروف، قيل في حقه الكثير، والذي سيشتريه، لن يتوقف أمامه طويلا، والذي لن يشتريه، لن يتوقف أمامه كذلك.
هذا التقليد القديم، المتطور بفعل تطور تقنية الاتصال، التي حدثت في السنوات الأخيرة، أعتبره جيدا بالفعل، وصارما إلى حد ما، حين يعين مدير للدعاية، لكتاب ما، من قبل دار النشر، مهمته إيصال صوت الكتاب واسمه إلى الناس، قبل أن يصل الكتاب نفسه، وحين يلتزم من يستلم نسخة مجانية، من دار النشر، بكتابة مراجعته ونشرها. وحين تأخذ المواقع التي تبيع الكتاب مقاطع من تلك المراجعات وتنشرها مع صورة الغلاف، كنشاط داعم. وفي النهاية حين تجد الكتاب بسمعته كاملة، تلك الجيدة وغير الجيدة، وقد أزيح عنها الغطاء. كأن الكتاب كائن حي، أو إنسان، تجند كل تلك المساندات لخدمته، وبالتالي خدمة مؤلفه، وإبعاده عن الإحباط، وتلقائيا خدمة الثقافة والمعرفة.
وقد قرأت مرة تعليقا لناشر أمريكي عن كتاب، طبعه، وجهزه للتوزيع، ووزع ما يمكن أن تكون نسخا للمراجعة التي تسبق تاريخ الصدور، ولم يكتب أحد، أي أن الكتاب إن صدر، سيصدر بلا سمعة تسبقه، أو لا يصدر حتى يكتب أحد، لقد علق الناشر بأنه حزين لأنه مضطر لنشر الكتاب بلا مراجعات، وليغفر له المؤلف هذه المغامرة الكبرى.
حقيقة استغربت من كلمة مغامرة، وأنها كبرى أيضا، وأعرف أن كثيرا من الكتب عندنا، تكتب، وتطبع وتنشر، وربما تموت مبكرا جدا، من دون أي إشارة حتى إلى وجودها، وهناك دور للنشر، تأخذ أرباحها مقدما من المؤلف، وتتركه يصارع وحده، الرقعة الثقافية الضيقة المزدحمة بالأسماء، ليجد مكانا لاسمه، وقد لا يجده على الإطلاق، ويجد مادة الإحباط التي ذكرت مرة بأنها مادة إجبارية، على المبدع أن يحملها في نفسه وقلبه، طيلة حياته، ما دام مبدعا.
بالنسبة للكتاب الذين ساعدهم الحظ، وصنعوا أسماء تبدو جيدة، لتجارة النشر، هؤلاء ينتهي الاهتمام بهم، حين يوقعون عقدا ما، مع دار للنشر، ومن الممكن جدا ألا يعرفوا بخبر صدور كتاب لهم، إلا من الصحف، أو مشاهدة نسخ منه بيد أحدهم على أحد مواقع التواصل الاجتماعي.
أذكر مرة أن شاهدت أحد كتبي المنشورة من قبل، في طبعة جديدة، موجودا في معرض للكتب، وكنت يئست من معرفة موعد صدوره، استغربت، وسألت البائع الذي لم يكن سوى بائع فقط، ولا علاقة له بنشر الكتاب، وهكذا تركت الموضوع، ولم أسأل بعد ذلك قط.
من الأشياء المصاحبة لتقليد كتابة المراجعات قبل النشر في الغرب، استضافة الكاتب في حوار، لصحيفة أو مجلة، تتبنى الترويج الكتابي. في حوار كهذا لا يسأل الكاتب عن علاقة الطب بالأدب مثلا، لا يسأل عن تأثره بالكاتب الفلاني أو عدم تأثره به، ولا يوضع في امتحان، كله سدود وإحباطات عليه اجتيازها، كما يحدث في حوارات كثيرة عربية. الذي يحدث أن الكاتب يُسأل عن عوالم كتابه، والمحطات التي يراها جيدة فيه ويود لو يتوقف الناس عندها قليلا، وإن كان هذا الكتاب إضافة واعية لتجربته، أم مجرد إضافة فقط؟
في حوار كهذا، سيبدو الكاتب غاية في الانشراح وهو يتحدث عن عوالم، هو من صاغها، وسيبدو نزيها حين يقرر نوعية الإضافة التي أتى بها الكتاب، لأنه إن لم يكن نزيها، كشفته المراجعات التي ستنشر بجانب حواره، أو التي ستأتي لاحقا.
لا أنكر أن هناك من يكتبون المراجعات في بلادنا أيضا، لكنهم يكتبون مراجعات القراء العادية، أي تلك التي تأتي بعد أن يكون الكتاب قد صدر، بزمن طويل، وأحيانا عن كتب لم تعد موجودة أو متداولة، في هذا الزمن، وغالبا حصل عليها القارئ على رف مغبر في مكتبة تركها والده، مثل كتب، النظرات، والعبرات للمنفلوطي وغيرها من الكتب الكلاسيكية.
لقد تحدثت كثيرا عن هذه المراجعات، وأظنني بحثت في آلية كتابتها، وبدت لي في غالبها، ناتجة من المحبة لكتاب ما، أو عدم المحبة تجاه كتاب آخرين، وقلت إنها شبيهة بآلية تشجيع فرق كرة القدم، المبنية إما على الحماس المتشنج، أو الفتور القاتل، لكنها تبقى في النهاية، نشاطا معقولا، يستحق الإشادة به، وتشجيعه، ولا بأس من انتقاء قراء موهوبين، ليوظفوا قراء سابقين للكتب، يطالعونها قبل صدورها ويكتبون آراءهم.
أعتقد شخصيا، أن الكاتب كبيرا كان أو صغيرا، بقراء كثيرين أو محدود القراء، لا يريد ثروة أو جاها، من وراء مشاريع اللوثة هذه التي تسمى مؤلفات، والتي يَضيعُ فيها وقت طويل مقتطع من أوقات الأسرة، والأصدقاء، ومقتطع من العمر الذي لا يحس به المصاب بلوثة الكتابة إلا حين يقترب من النهاية.
الذي يريده الكاتب مجرد احـــترام بسيط، تقدير عادي، لا يكلف كثيرا، أن يحاط علما بخطوات نشر كتابه، أن يسعى ناشره للحصول على مراجعات سابقة للنشر، أن تنظم له بعد صدور الكتاب، فعالية فيها مهتمـــــون، يتحدثـــون عن كتابه بحياد، وهكذا ثمة حصاد من الكتابة، أعني حصادا معنويا، أما الحصاد المادي، فلن نتذكره قليلا أو كثيرا، هذا موضوع، يترك للزمن كي يعالجه.
٭ كاتب سوداني
أمير تاج السر
مقال غاية في الروعة ومهم جداً حقيقة!
عندنا،اكبر ترويج للكتب يأتي عند صدور فتوى دينية بعدم قراءته !!
وعادة ما يكون كتاب متهافت الى ابعد الحدود بالفعل ، لا يستحق ثمن ورقه ، لكن بسبب ما اسميتها مرة فتاوى الغباء و غباء الفتاوى ، تقدم لذلك الكتاب ولكاتبه فرصة ذهبية لم يكن ليحلم بها لو عاش عمره مضاعفاً مرة او مرتين!
مثال على ذلك،كتاب الآيات الشيطانية لسلمان رشدي،رغم انه لم يصدر في عالمنا العربي،و لكن كل التقديمات والمراجعات التي سبقته لم تفلح في رفع مستوى الكتاب ولا مستوى مؤلفه المغمور اسماً،حتى جاءت فتوى الخمينى بتخصيص مبلغ خيالي في ذلك الوقت لمن يقتل مؤلفه! فحصد مؤلفه المتواضع اضعاف هذا المبلغ ربما من ريع كتابه الذي تصدر سوق الكتب في تلك الحقبة!
نفس الأمر حصل مع حيدر حيدر،روائي سوري مغمور،الف رواية شبه اباحية متدنية اللغة و المستوى اسمها وليمة لأعشاب البحر ، و لم يلتفت اليها احد البتة ،و اصفر غلافها على ارصفة الباعة، و بعد اكثر من عقد على صدورها،وربما لم تستوف كلفة طباعتها حتى!
حتى قرر وزير الثقافة المزمن في زمن حكم حسني مبارك ، فاروق حسني، طباعة الرواية، طباعة انيقة على حساب وزارة الثقافة في خطوة شديدة الغرابة،ومرة اخرى مر الأمر دون اي انتباه او ضجة، لولا صدور فتوى الأزهر بمنع نشر الرواية ، فأنقلب الحال و صارت الرواية الأكثر مبيعاً و صار مؤلفها الذي لفه و طواه النسيان ، من حيث لم يحتسب و لم يحلم، اشهر اسم يتداول في الوسط الأدبي!!
هذان المثلان يلخصان الموقف عندنا للأسف!
لكن من ناحية اخرى،الاستاذ كاتب المقال، اشار الى ان ما يريده الكتاب هو مجرد احترام بسيط ، وهذا مما لاشك فيه ، بل انا اعتقد انه يسعى الى احترام اكثر من بسيط و الى مردود مادي يجعله يعيش في بحبوحة ويشار اليه بالبنان كذلك،لكن ايضاً الكتاب هناك، صار صناعة و تجارة و تسويق و مبيعات و فريق يقف خلف ذلك كله، تمثله دور النشر التي صارت مؤسسات غاية في الغنى، و صار المؤلفون من اصحاب الملايين، بل ان ك.ج.رولنغ صاحبة روايات هاري بوتر (الأم المغمورة التي كانت تعيش على المساعدات الاجتماعية) تجاوزت ثروتها الملياري دولار!
لاشك ان الدافع المادي ،عامل رئيسي وهام للإبداع ، و خاصة عند ادارته بالشكل الصحيح. لكن كل ذلك لم يكن لينفع لولا القانون المحكم للملكية الأدبية أي حقوق المؤلف الذي لا نزال نفتقده بشده في بلادنا
مقالك عالجرح دكتور
بعض دور النشر لا ترى في الكتاب قيمة و لا حتى في كاتبه طبعا غير القيمة المادية فشعارهم بزنس هو البزنس و لا غير
أنت تتحدث عن الكتب باعتبارها صناعة إبداعية لها مراحلها ومحطاتها وآلاتها وخطواتها… وأي خلل في أي خطوة سيؤثر بالضرورة على المنتج ورأي المستهلك(القارئ)… الغرب أدرك سر الصنعة وما زال يسعى لتجوديها لأن الناشر يحترم نفسه ويحترم صنعته وبالتأكيد يحترم المؤلف، ويسعى جاهداً لكسب القارئ… أما عندنا فإن معظم دور النشر لا تهتم إلا بجني الأرباح بأي طريقة كانت، ولا أدل على ذلك أن معظم المؤلفين العرب يدفعون لدور النشر كي تنشر لهم، في مفارقة عجيبة لا منطقية.
مقالة عميقة وإضافات من القُراء حملتَ ذات العُمق. بِحُكم تواجدي في أمريكا وجدتَ أن الغرب بحِكُم التطور الصناعي والتجاري خلق أليه علاقة بين الإنتاج و التسويق كان – الإعلام أداة – فاعلة في تطوير هذه العلاقات وتسويق المُنتج بفاعلية متقدمة وخلاقة. تستيقظ صباح أو تنكفئ ظُهراً أو مساءً أمام المذياع و التلفاز تجد من ضمن البرامج من يُقدم معلومة عن كِتاب جديد، حتى البرامج الليلية الفُكاهية التي تستضيف – مُبدعين – في السينما أو المسرح ، تجد من بينهم من يستضيف كاتب أو سياسي أو عالم أصدر كٍتاب. هذا بجانب المكتبات العمومية و الخاصة التي تُمارس ذات التسويق و التعريف بالكاتب و الكِتابة. مثل هذه القنوات و العلاقات بجانب الصحافة الثقافية و الصفحة الثقافية التي تعمل بهمة أعمق في التعريف – بالكِتاب والكاتب – نجد أن بعض المدارس و الجامعات و الهيئات تختص بهذا الفعل في عملية التعريف. كُل هذا يتأتى ضمن منظومة متكاملة كان لرأس المال دوراً هاماً من خلفها بجانب العلم و قدرات التسويق. من أهم البرامج الهامة يومي السبت و الأحد بالنسبة لي ، هي متابعة قناة ال C-SPAN المتُخصصة بتقديم أكثر من كاتب وكِتاب وهذا ما جعلني أتندر على تجاربنا المُتواضعة في هذا المجال، لكني في ذات الوقت متفائل لأنكُم في الوطن العربي و الخليج بعد مصر و لينان و المغرب العربي تقوموا بذات الجُهد الأن لتعظيم دور الكاتب و الكِتاب وهذا أمراً يُحسب للبعض بينكم لا عليكُمَ. مودتي
ولكن من سيعلق على الكتاب؟ في احدى الحالات قمت بإرسال نسخ الى بعض روءساء تحرير الصحف العربية من اجل الكتابة عن رواية صدرت عن دار المنى ولقيت ترحيبا فيما بعد. لم تنشر ولا صحيفة عربية خبر صدورها وطلبوا مني ان اكتب المقالة وأرسلها لهم انا بنفسي. هناك من يكتب عن بعض الاعمال الأدبية نعم ، ولكن في كثير من الأحيان يكونوا أصدقاء للكاتب وزملاء له.
النقد الأدبي في عالمنا العربي بحاجة الى نهضة!!
أرسلت التعليق مسبقا
الاستاذة/ منى
للإجابة على السؤال من خلال خبرتي هو المقترحات التالية.
الأولى إرسالة الكتاب المعني لمحرري الصفحة الأدبية وليس لإدارة الصحيفة. عمل لقاءات خاصة لدعوة الكاتب و العاملين في مجال النقد / الكتابة في الشأن الخاص الذي تناوله الكتاب مع دعوة صحفينَ مهتمين بمادة الكتاب. ثالثا. الاعتماد على نشر ملخص الكتاب وصورة الكتاب و الكاتب مع نبذة تعريفية عن الكتاب و الكاتب في الصحافة الاجتماعية. هذه بعض المجالات لخلق حالة جذب نحو الحديث عن الكتاب، بتوفر هذه المنافذ واستخدامها يمكن خلق مناخ يشجع الآخرين لتتبع مادة الكتاب نقدا و تعقيب و مناقشة و حوار كلها ستصبح إضافات للكتاب و الكاتب. ارجوا هذه الإجابة تكون مقنعة. مودتي
إليكِ المقترحات التالية.