مزاد لبيع الماضي

حجم الخط
0

كُرهاً خرج نعمان، مدرّس اللغة العربية، مع زوجته رنا وابنهما الصغير، من منزلهما في إحدى ضواحي بيروت. العائلة كأنها طردت طردا إلى واحد من بيوت المدينة.
كان هذا البيت ضيّقا وقديما تصدّعت جدرانه وأنهكه عفنُ الرطوبة. وكان ذلك في واحدة من سنوات التسعينيات، حيث ظلّت الزوجة رنا تسمع هدير الآلات التي تعمل، ليل نهار. وظلّت تتساءل عن مصدر هذا الصوت، قبل أن تدرك أن هناك جزءا واسعا من المدينة يهدم لكي ترتفع مكانه مدينة جديدة. مدركة هكذا أن إقامتها لن تطول في هذا البيت الذي، كأن كارهة في البداية، جعلت رنا تراقب العائلات الثلاث المقيمة في جواره، أو في عقاره كما في لغة المالكين والمستأجرين.
البيوت الأربعة، بعد أن يُضاف إليها البيت الذي استأجرته العائلة الصغيرة الوافدة، تتوزع، أو تتجاور، بما يخالف الهندسة المعروفة في تقسيم المباني إلى شقق متساوية ومتوازية، هو بناء قديم إذن ويرجع إلى زمن سبق، وهذا سبب آخر يدلّ على أنه مقبل على الانهيار أو الهدم. أما العائلات المقيمة في بيوتها فقديمة هي أيضا، لذلك بدا حلول العائلة الجديدة، العائلة الصغيرة، كأنه يُدخل المكان كلّه في السؤال عن صلاحه للسكن، وعن السنوات التي بقيت له، وكذلك عن إمكان انضمام بشر آخرين إلى هذه المساكنة القائمة بين تلك العائلات.
الثيمة التي يدور حولها نصف الرواية الأوّل هي ذلك الانتقال من بيت الضاحية، بيت الهناءة، إلى هذا البيت الضيّق العتيق، وأيضا تلك النقمة الآسية من الزوجة التي انتُزعت من مكان تحبه لتجد نفسها في مكان آخر لا تعرفه. ولنضف إلى ذلك، وهذا ما سيستمر على مدار صفحات الرواية كلّها، شعورها المستمرّ بأنها غريبة قدمت إلى لبنان من بلد مجاور له، تاركة عائلتها هناك، في بلدها. كل ذلك يُبقي مراقبتها للآخرين، الجيران، خارجية فقط، خوفا من التورط.
كان على الرواية أن تستمرّ متمهّلة في كشفها هذا العالم، بمكانه المشرف على الانهيار، إزاء نهوض عالم جديد يجري بناؤه بعنف الجرافات الضخمة ومتفجّرات الهدم. وكان أنطوان أبو زيد يحفر في هذا العالم العميق، الداخلي والأليف، حين خرج إلى سرد أكثر اتساعا وأكثر حركة، بادئا بذلك وجهة جديدة لروايته. ففيما كان بطله نعمان، الزوج والأب، مقيما على الطرف من التحوّل الضخم الجاري في المدينة، سكناً وسلوكا وحياة، نراه وقد أُنزل إليه لينخرط فيه. حصل ذلك بما يشبه الاستدراج، بعد أن وجد نفسه مع عائلته بلا إقامة على إثر سقوط ذاك البيت وتهاوي حجارته على ما تمتلكه العائلة من أثاث. لم يتأخّر العرض الذي أتاه، وهو واقف مع عائلته أمام أنقاض بيته، من شركة «التنين»، وهي التي تقوم بأعمال الحفر، بأن يتأمن له بيت في مبنى مكاتبها. هناك بدأ يعمل سائقا مسائيا أو ليليا، إذ كان ما يزال يعمل في التعليم، الذي لا يكفي عائده لتأمين العيش على أي حال.
من عمله في شركة «التنين»، سائقا في البداية، ثم متردّدا إلى مواقع الحفر، بدأ يتعرّف على العمليات التي يجريها أولئك المكلّفون بتجديد بيروت وإعادة بنائها. كان قد انزلق إلى أن يكون واحدا منهم، عاملا على نقل الآثار المُكتشفة وإخفائها ونقلها من مكان إلى آخر لتهريبها. في ذلك القسم من الرواية، وهو القسم الثاني، نقرأ عن عصابات وعمليات تطويق ومطاردة يقوم بها رجال الأمن وزوارق تهريب وحفلات مزاد علني على الآثار يشترك فيها رجال غامضون هم، حسب ما يورد الكاتب، «رجال أعمال من أولئك المهتمين بإعادة إعمار الوسط التجاري، ومهندسين معماريين على شكل رسّامين خارجين لتوّهم من معارض، وفنانين ومسرحيين لم يفتّ أوانهم بعد، ومخلّصي بضائع ممن آلت إليهم بوابات المدينة الجديدة»… كلّهم مشتركون في حفل السرقة الكبير لتراث المدينة التي يعملون على إعادة بنائها. وإذ كان ذلك شاملا الجميع لم يجد الزوج نعمان صعوبة في أن يكون واحدا منهم، وإن من تحت، من الأسفل. كان ذلك كافيا لتحويله إلى رجل آخر مختلف، أو منفصل عما كانه، فها هو يهمل عائلته ويقيم علاقة جنسية مع زوجة رئيس عصابته…إلخ.
هما عالمان روائيان مختلفان في كتاب أنطوان أبو زيد. ما جعلهما كذلك هو التمكّن البنائي والسردي، واللغوي الكتابي، في العالم الأوّل، وهذا ما جعل الصفحات التالية مختلفة عما كنت كقارئ واعدا نفسي بالاستمرار فيه. ذاك أن تلك الفتنة الكتابية أبقتني عندها، وإذ تبدّلت بتّ كأنني أشتاق إليها. ربما كان هذا انحيازا مني لواحد من أسلوبين أراد الكاتب أنطوان أبو زيد أن يختبر إمكان جمعهما معا، تاركا إياي، كما قرّاءه الآخرين، نفكّر في الروابط التي أنشأها بين ذينك الفصلين الكبيرين من روايته.
«الحفّأر والمدينة» رواية أنطوان أبي زيد صدرت عن «منشورات ضفاف» و«منشورات الاختلاف» في 263 صفحة ـ 2018.
روائي لبناني

مزاد لبيع الماضي

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية