مسؤولية إدارة أوباما عن صعود دونالد ترامب

مَثَّل انتخاب باراك أوباما منذ ثماني سنوات مضت كأول رئيس لا ينتسب من الناحية النظرية إلى النخبة البيضاء الأنكلوساكسونية البروتستانتية، التي حكمت الولايات المتحدة منذ تأسيسها، قفزة تاريخية، استندت إلى شعار» الأمل» الذي اعتمده أوباما في حملته الانتخابية في بلد تُمثّل العنصرية المؤسساتية تجاه الملونين من السود واللاتينيين والمسلمين وغيرهم، أحد أهم النواظم الداخلية المضمرة في شبكة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة.
في الوقت الذي أصبحت تلك المجموعات الأخيرة تمثل في عداد سكان الولايات الأمريكية نسبة تقارب النصف أو تتجاوزه، كما هي الحال راهناً في ولاية كاليفورنيا؛ فكان الحلم بسيد للبيت الأبيض من جلدتهم بمثابة الأمل القابل للتحقق بتحسن أحوالهم، وانتقالهم إلى حياة طبيعية في الحد الأدنى، دون أن تكون مشروطة بالعمل، سواء بشكل مباشر أو غيره لخدمة السيد الأبيض ممثلاً بالمؤسسات التي تشكل عماد المجتمع الأمريكي اقتصادياً وتنظيمياً.
ولم يكن ذلك التصور المشحون بالأمل بعيداً عن العرب، الذين أُخِذوا برطانة الخِطاب المعسول لأوباما بعيد شهور قلائل من انتقاله للتربع على قمة هرم السلطة التنفيذية الأمريكية، على مدرج جامعة القاهرة، الذي كان بمثابة الزناد القادح لطوفان من الآمال المتراكبة بالخروج من كابوس عقابيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما تلاها من كوارث على المسلمين والعرب، تشخّصت في تهشيم الوطن والمجتمع العراقيين، وفي تهجير كل المتطرفين الذين صنَّعتهم وكالة الاستخبارات الأمريكية لتوحيل السوفييت في المستنقع الأفغاني في ثمانينيات القرن المنصرم، ومن ثم الانقلاب على صنيعتهم، بعد أن انتهت الحاجة إليهم، في ضوء حاجة الولايات المتحدة الملِحّة للحرب المستمرة مع السوفييت أو المجاهدين الأفغان أو غيرهم لتشغيل المجتمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة، الذي يمثل المحرك الفعلي لاقتصاد وسياسات الولايات المتحدة، منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بحسب توصيف الرئيس الأمريكي إيزنهاور نفسه، الذي يبدو أنه لايزال ساري المفعول حتى اللحظة الراهنة؛ وهو ما أنتج، فيما أنتج من خرابٍ، عودةً لأولئك المتطرفين إلى بلادهم الأصلية ليكونوا بذرة الخلايا السرطانية التي أنبتت الشوك الداعشي وتلاوينه، التي لم تسلم منها أي بقعة عربية على الإطلاق.
ولكن فقاعة الأحلام بدأت تتبخر تدريجياً، لتظهر نموذجاً سياسياً بليغاً في مخاتلته، لم يختلف عن توجه إدارة سلفه جورج بوش من الناحية الاقتصادية في شيء، وإنما اعتمد منهجاً يستند إلى أقصى درجات التوحش النيوليبرالي، بلغ ذروته في كارثة التراجع الاقتصادي العظيم عام 2009، حين قام أوباما برفض أي مشروع لتعويض المودعين في المصارف الأمريكية، وترك المصارف المُقامِرة لمصيرها المحتوم بالاندثار، استناداً إلى المنطق الرأسمالي التقليدي، الذي يقوم على حرية المنافسة والأسواق، والبقاء للأصلح، واستبدل ذلك بسياسة الدعم اللامحدود للمصارف الأمريكية المخفقة على حساب دافعي الضرائب الأمريكيين، بما تجاوز 5 تريليونات دولار، بحسب العالم الاقتصادي الحائز جائزة نوبل جوزيف ستيغليتس، في كتابه المهم الذي حمل عنوان «السقوط الحر»؛ وهو ما انعكس فعلياً ببؤس منقطع النظير في حياة الطبقات الوسطى، التي تشكل عماد ماكينة دفع الضرائب في الولايات المتحدة، التي كان عليها العمل ساعات أكثر، وبعوائد أقل للبقاء على قيد الحياة، ولكي تتمكن من سداد فواتير تمويل المصارف الأمريكية المفلسة، وهو ما انعكس مؤخراً في سخطها العميق، واستمرائها لرسالة دونالد ترامب الرغائية لاستغلال المشاعر الحانقة تلك فقط، بانتقاده للنخبة الحاكمة وعلاقاتها بالمؤسسات المالية في وول ستريت، الذي أدى بدوره إلى استبطان كل أولئك المفقرين لدونالد ترامب على أنه «قنبلة مولوتوف سوف تحرق كل شبكات النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، خاصة ارتهانها للمؤسسات المالية الكبرى» بحسب توصيف المخرج والكاتب الشهير مايكل مور.
وهو توصيف ثاقب في اختزاله لحقيقة مسؤولية إدارة أوباما بشكل صريح ومباشر خلال سنوات حكمها الثماني عن صعود دونالد ترامب وسياسته الغوغائية المتطرفة، التي سوف يدفع الكون كله ثمنها في قابل الأيام، وليس الشعب الأمريكي فقط.
وأوباما نفسه الذي تفاجأ العالم بحصوله على جائزة نوبل للسلام في السنة الأولى من حكمه، قبل أن يحقق فعلياً أي إنجاز يبرر حصوله على الجائزة الرفيعة، تبنى منهجية تفترق كلياً عن جوهر السلام، كما يفهمه كل عاقل على وجه البسيطة، حين تبنى منهج جورج بوش الابن القائم على «اعتقال كل من يعيق تحقيق المصالح الأمريكية أينما كان، بحجة الحرب على الإرهاب، ورميه في غياهب السجون السرية، سواء في غوانتنامو الكوبي أو باغرام الأفغاني أو أبوغريب العراقي وغيرها، ليصبح في عهد أوباما قتل كل من يحتمل أن يعيق المصالح الأمريكية أينما كان، ومن معه سواء كانوا أطفالاً أو نساءً، كأضرار جانبية لابد منها، بالطائرات من دون طيار، وبحجة الإرهاب نفسها» بحسب تكثيف المفكر نعوم تشومسكي في كتابه الأخير «من يحكم العالم».
وهي الطائرات نفسها من دون طيار التي تُصَنَّع النخبة منها في مصانع الكيان الصهيوني الحربية، التي تمثل استطالة طبيعية للمجتمع الصناعي العسكري الأمريكي الآنف الذكر، وأصبحت أعدادها بعشرات الآلوف، وقواعدها بالمئات في عموم أرجاء الكرة الأرضية، جاهزة للقتل دون منح المتهم حق الدفاع عن نفسه، قبل إعدامه في محاكمة عادلة، وفي تنكر صريح لمبدأ أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحسب القانون الدولي، والدستور الأمريكي نفسه؛ وهو ما مهّد الطريق موضوعياً لتحويل كل المرتعبين من هول الموت المفاجئ بنيران الطائرات الصامتة إلى وقود حاقد للانتقام من القتلة الأمريكان، الذي مخرجه الطبيعي والأقرب هو الانخراط في فيالق المتطرفين، حتى أصبحت إدارة أوباما كأنها المفوضة بشؤون تجنيد المتطرفين، بحسب توصيف الصحفي المرموق كريس هديجز في كتابه «العالم كما هو»، وهو ما وثقه بتدقيق علمي استثنائي الصحافي الطليعي جيرمي سكايهل في كتابه الأخير «مجمع الاغتيال» وكتابه الاستثنائي الذي سبقه «الحروب القذرة».
وهي نفسها إدارة أوباما بطل السلام العالمي التي أطلقت مشروع تطوير أسلحة نووية صغيرة الحجم وعالية الدقة بقيمة تريليون دولار، بما يشي باستعداد تلك الإدارة لاستخدام تلك الأسلحة فعلياً والتي تعني في ضوء وجود أكثر من 7000 رأس نووي على المستوى الكوني، في دول يمكن أن تستهدفها الولايات المتحدة، بمثابة الموافقة على المقامرة، بحيوات كل البشر، لأجل المحافظة على قدرة الولايات المتحدة على فرض سياستها، والحفاظ على أسواق تصريف منتجاتها بالقوة، كما تفعل في حالتي اليابان وكوريا الجنوبية راهناً. وهي الإدارة نفسها التي في بلدها يقع أعلى معدل للاحتجاز القسري في السجون بالنسبة لعدد السكان في الكرة الأرضية، وبعدد يتجاوز مليوني معتقل معظمهم من السود واللاتينيين، المفقرين المهمشين، الذين جريمتهم الفعلية أنّهم فقراء، لا يتمكنون من سداد فواتير التقاضي، أو المخالفات الإدارية البسيطة بحقهم، كمخالفات السير، وبنسبة تمثل أكثر من 22% من كل سجناء الكرة الأرضية، لبلد لا يمثل عدد سكانه أكثر من 5% من عدد سكان العالم بحسب إحصائيات منظمة العفو الدولية لعام 2016.
كاتب سوري

مسؤولية إدارة أوباما عن صعود دونالد ترامب

د. مصعب قاسم عزاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية